حزب البعث الأموي والاشتراكية الفلاحية
ثورنة سوريا أوصلتنا إلى توصيفات «صوملة» و«أفغنة» و«عرقنة» سورية. وهذي كوارث عالمية تمت بجهود أمريكية سعودية وهابية.. ولولا أن هناك حاضنة محلية لما تمكنت الأفاعي من تفقيس بيضها في الديار السورية..
فمنذ الاستقلال تجاذبت أهواء المجتمع السوري عدة تيارات سياسية، قومية بالدرجة الأولى وإسلامية بدرجة أقل بينما بقي التيار الشيوعي الأممي ضعيف التأثير بسبب موقفه من الدين وارتباطه بموسكو .. وقد اعتمد القوميون والإسلاميون على استنهاض الماضي: المجيد، والتليد، والمقدس.. البعث ركز على الماضي المجيد، أما التليد الذي ارتكز عليه القوميون السوريون الاجتماعيون فكان وليد اكتشافات البعثات الأثرية، بينما اعتمد الإخوان المسلمون النسخة العثمانية من الإسلام مع تغيير طفيف وهو أن يكون خليفتهم من آل سعود، فالتقوا بذلك مع الوهابيين حيث تم التطبيع بينهما منذ نفي البعثيين لقياداتهم أوائل الثمانينات.. وقد نجح البعثيون، فيما أخفق الآخرون شعبياً، بتبني الاشتراكية الفلاحية التي كانت تمثل طبقة المستفيدين منها أكثرمن 80% من المجتمعات السورية والعربية..
***
انطلق حزبا البعث العربي والعربي الاشتراكي على يد مجموعة من المثقفين الذين تلقوا تعليمهم في أوروبا وتأثروا بالفكر القومي «الأرسوزي وعفلق والبيطار» بينما تشرب أكرم الحوراني أفكار القومية العربية في حماة أولاً ومن ثم جامعة دمشق، فتمكن من النفاذ إلى قلوب الجماهير بينما انحصر تأثير المنظرين الأكاديميين في الأوساط الطلابية المثقفة.. فقد نشط الحوراني بين صفوف الجيش الذي كان يتوق ضباطه للتخلص من بقايا العثمنة والفرنسة، كما نشط بين صفوف الفلاحين الذين كانوا يرغبون بالتخلص من ظلم الإقطاع الذي رسخه العثمانيون، ومن البرجوازية التي نمت في عهد الانتداب الفرنسي ثم ترعرعت وتسيدت بعد الاستقلال، حيث كانت الحكومات السورية أسيرة العائلات السياسية التي تهيمن على المؤسسات الاقتصادية والعسكرية وتنخرط في تحالفات دولية مشبوهة..
وقد أمنت هذه الظروف بيئة خصبة لأكرم الحوراني في استقطاب زعماء الجيش الراغبين بالانقلاب على الإرث الاستعماري الذي انتقل إلى دولة الاستقلال بحكم ملء الفراغ المؤسساتي الذي خلفه الانتداب .. فالحوراني كان عروبياً براغماتياً يتقن الرقص في وحل السياسة العملية بينما كان الآباء الآخرون المؤسسون للبعث معقمين شعبياً ينطلقون في عملهم من النظرية القومية أكثر من استنادهم إلى أدوات الواقع الاجتماعي، ولولا اندماج البعث مع الاشتراكي لما تكاملت أطراف الدائرة البعثية لتطوق سورية والعراق ..
كذلك سيس الحوراني الفلاحين والعسكر، ولم تستطع البورجوازية والإقطاعية الوقوف في وجه هذه القوة الزاحفة نحو الحياة الجديدة وعينها على كعكة السلطة التي أقصي الفلاحون عنها منذ بداية التاريخ الزراعي في بلاد الشام والعراق، فغدت سورية أرضاً قلقة تستيقظ كل يوم على انقلاب جديد (أكثر من عشرين محاولة انقلابية)، إلى أن جاء حافظ الأسد بانقلاب أبيض كان خاتمة الانقلابات، فحطم أصنام الذين سبقوه وأعاد بناء دولة البعث بما يتوافق مع مكونات المجتمع السوري المتنوع مع أفضلية عروبية، وكان أقرب في براغماتيته السياسية إلى (الحزب الأموي) منه إلى نظريات الآباء المؤسسين الأوروبية، وهو بذلك يتفق مع أسلوب الحوراني الواقعي بعيداً عن مثالية صلاح جديد وجماعته الطهرانيين.. وتبعا للظروف تقلب الأسد في شخصيات عدة خلال مراحل حكمه، حيث كان أقرب إلى شخصية صلاح الدين الأيوبي ما قبل و بعد فترة حرب تشرين التي حقق فيها انتصاراً جزئياً على العدو الإسرائيلي، ثم غدا أقرب إلى شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي خلال مواجهته لطموحات الإخوان المسلمين ومحاولاتهم الفاشلة في اغتياله أوائل الثمانينات (تم إحباط 11 محاولة اغتيال). وبعدما استتب له الحكم وقويت شوكة جهاز الاستخبارات صار أقرب إلى شخصية معاوية بن أبي سفيان، فطوّع الداخل واستغل الخارج وجعل سورية رقماً صعباً لا يمكن تجاهله في السياسة الدولية حتى غدا بسمارك العرب، بينما تحول سائر السوريين إلى بعثيين أغلبهم لا يعرف شيئاً عن مبادئ البعث أو عن آبائه المؤسسين.. فقد تمكن الأسد من تقليم أظافر السوريين وتحويلهم من مجتمع سياسي شرس (كما نلاحظ اليوم) إلى أفراد مسالمين يهتمون بتحسين حياتهم الإقتصادية ، مذعنين لمناهج التعريب وأحلام الوحدة العربية، وحتى أنهم مُنعوا من إطلاق أسماء غير عربية على أولادهم ودكاكينهم لكي يكتمل توصيف «سورية قلب العروبة النابض» متماهياً مع إسلام بني أمية الاجتماعي حيث يُسمح للناس بتحسين شروط حياتهم ومراكمة مكتسباتهم بحسب ولائهم وقدرتهم على التماهي مع الحزب العربي القائد..
لقد ساعد بطش الدولة على عدم انفراط العقد الاجتماعي، غير أن فساد موظفي البعث وتنمرهم على من هم أدنى منهم وظيفياً فاقم العداء ضد دولة البعث، وهذي هي الثغرة التي تسرب منها الإسلاميون إلى الطبقات الريفية نفسها التي جاءت بحزب البعث إلى السلطة.. فبعدما فشل الإخونجيون في تمردهم الأول أدركوا أهمية الريف السوري فبدأوا بالانتشار فيه بتمويل ودعم سعودي، وبعد اشتعال التمرد تمكنوا من استغلال فقرائه وإدارتهم ببراعة أربكت الدولة البعثية في بادئ الأمر، وظنوا خطأً أنها ثورة إصلاحات ديمقراطية ولم يشكو في أنها ردة أصولية، فتأخروا بالرد العسكري إلى ما بعد انتشار الغنغرينا في أطراف الأرياف وباتت تهدد المدن وصار لزاما على الطبيب تقطيع الأوصال المصابة..
***
ومنذ أوائل الثمانينات أضاف الرئيس حافظ الأسد لبنان إلى تحت وصايته، وكما في سورية كان على مسافة واحدة من الجميع يكافئ من يقترب ويعاقب من يبتعد، ولكن دون التدخل في تكوينات المجتمع اللبناني والعائلات السياسية التي تدير طوائفه، فاستقرت سورية ومدت عدواها إلى لبنان المنضوي تحت مظلة الدولة السورية، ولم يعجب الإسرائيليين هذا الأمر فحاولوا تغيير المعادلة ولم يتمكنوا حيث أظهر الأسد براعة إستراتيجية لم يجاره فيها الإسرائيليون واندحروا في كل مخططاتهم لانتزاع لبنان منه بعدما روض زعامات الموارنة كما فعل معاوية ابن أبي سفيان قبل أربعة عشر قرناً حين كانت روما تنشر مظلتها لحماية الموارنة من بطش الأمويين ثم أنجز صفقة معها تخلت له فيها عنهم وفعل فيهم مافعل بغيرهم من المتمردين على دولته، ومنذ ذلك الوقت والموارنة ينظرون بريبة إلى عروبة دمشق..
ومثلما كانت هناك أخطاء في السياسة الداخلية السورية بإطلاق أيدي المساعدين لإدارتها اقتصادياً وأمنياً، حصل في لبنان حيث أخذت المجموعات المناوئة بالتجمع ضد العنجهية البعثية التي لا تناسب طبيعة الفرنسة اللبنانية، وقد ورث الرئيس بشار هذه النقمة التي ولّدت فريق 14 آذار اللبناني مثلما ولّدت 15 آذار السوري فيما بعد.. إلى أن توحد آذاريو لبنان وسورية ضد الجيش العربي السوري بتمويل وتشجيع من الفرنسيين الذين كانوا يتحينون الفرصة للانتقام من البعث الذي سد المنافذ بوجه الثقافة الفرانكفونية وتقاليدها الاجتماعية المتجذرة في مستعمراتها الشرقية السابقة. ومنذ خروج الجيش السوري من لبنان بدأ تلاشي دور البعث بينما كبار موظفيه منهمكون في مشاركة المستثمرين العرب والأجانب، وعندما اشتعلت البلاد هربو حاملين أموالهم، وبعضهم باع قيادته لقطر وفرنسا مقابل حفنة من الدولارات وإعلان تلفزيوني بالإنشقاق قبل أن يطويه غبار النسيان وتدفنه وحول الخيانة..
***
بعد استئصال شأفة الإخوان المسلمين غدت سورية، منذ منتصف الثمانينات، البلد الأكثر استقراراً في العالم، فنعم الناس بالأمان والفقر، وتشاركوا الوقوف في طوابير المؤسسات الاستهلاكية لشراء البندورة والتفاح واللحمة والسيارات حتى بداية التسعينات، حيث كافأ الأسد غرفة تجارة دمشق لموقفها الإيجابي أثناء التمرد الإخونجي وأصدر القانون رقم 9 وكان هذا بداية انفتاح خجول على الاقتصاد الرأسمالي الذي تم دحره على حدود البعث لربع قرن خلت قبل أن يغدو بعثاً أموياً يعترف بمصالح السوق الدمشقي، ولكن دون الابتعاد عن الهوية العربية كمظلة تجري من تحتها معاملات الجميع. فمنذ أوائل التسعينات ، وبعد زوال الخطر الإخونجي، وجه حافظ الأسد الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي بضرورة ذهاب البعثيين إلى الجوامع أيام الجمعة للصلاة فيها كمهمة حزبية، كما دعم تيار الإسلام الشامي التاريخي وأعطى وزارة الأوقاف مداً ببناء آلاف الجوامع والمعاهد والمدارس الشرعية وأعطى لعلماء السنة فسحة لتوجيه وتثقيف الناس روحيا ولكن تحت الرقابة الأمنية..
ومنذ التسعينات لم يعد يلحظ الناس هذا العداء الآيديولوجي بين البعثيين ورجال الدين، حيث تماهى الطرفان ضمن مصالح السوق. وبعد احتلال بغداد توقعت ( على صفحات جريدة السفير) تشكل "حزب البعث العربي الإسلامي" في العراق ثم سورية باعتبار أن البعث الذي يبحث عن مفاخر الماضي المجيد وبعث رسالة العرب الخالدة لن يجد ما يبعثه سوى إسلام بني أمية الذي انتشر عبر فلتر مدينة دمشق التي مدنت الإسلام البدوي القادم من الجنوب الصحراوي فأعادت صياغته اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا قبل نشره بين الأمم الأخرى غير العربية التي خطفت الإسلام من العرب مع نهاية العصر العباسي بعدما اعتمد الخلفاء العباسيين على العساكر السلجوقية والفارسية، فهرب الإسلام الشامي منها إلى الأندلس ثم اندثر هناك للأسباب نفسها التي أضعفت دولة البعث فيما بعد..
***
قد يقول البعض اليوم أن حزب البعث قد تلاشى ولم يكن له دور في مواجهة الأزمة.. وهؤلاء لم يلحظوا أن معظم أفراد الجيش العربي السوري الذين يدافعون عن وحدة البلاد وسيادتها هم أعضاء في حزب البعث، وأنهم منذ ربع قرن وأكثر يستمعون إلى محاضرات «التوجيه المعنوي» التي يلقيها ضباط البعث على الجنود أسبوعياً والتي مازالت تؤكد على قضيتين: العروبة والقضية الفلسطينية، وهذا ما دفع إلى وسمه بالجيش العقائدي، و لم تتمكن الوهابية والإخونجية من التغلغل بين صفوفه، وبالتالي بقي أغلب عناصره خارج التقسيمات الطائفية، فكانت أعداد الفارين منه قليلة، بعضها انشق بفعل تهديد عائلته، وآخرون مرتزقة كانوا يسرقون مؤسسات الجيش ثم هربوا بأموالهم مع إعلانات تلفزيونية سعودية ـ قطرية تصف فعل الخيانة بالبطولة..أما فقراء البعث الوطنيون الذين نظمو المسيرات المليونية في السنة الأولى من الصراع على سورية، فقد شكلو اليوم مجموعات لجان الدفاع وحملو السلاح دفاعا عن وحدة وسيادة الجمهورية، ودحرو مجموعات المتمردين على خطوط التماس، الأمر الذي أحرج المعارضة فوسمتهم بالشبيحة : هكذا وبكلمة واحدة تخلت المعارضة عن ديموقراطيتها المزعومة بإلغاء مئات الآف من المواطنين السوريين خلافا لما تقوله مقدمة الدستور ؟! وأعتقد أن هذي الشريحة البعثية المقاومة هي ما سيشكل بنية الحزب الجديدة بعدما تحط الحرب أوزارها..
لهذا يمكننا القول أن مقومات البعث مازالت موجودة، وأن قيامته مرهونة بتنفيذ شعاره الإنقلابي، ولكن هذه المرة في الانقلاب على نفسه تماهياً مع الانقلاب الاجتماعي السوري، وإعادة هيكلة مؤسساته وتجديد منطلقاته النظرية التي وضعها ياسين الحافظ قبل نصف قرن تغير العالم بعدها بشكل جذري.. وبمعنى آخر فإن البعث تحول، بعد استلام السلطة، إلى حزب أصولي محافظ، وهذا مرض أصاب كل الأحزاب الثورية في العالم بعد استلامها السلطة وليس الأمر حكراً على البعث.. وبما أن البعث لم يمت فهذا يعني إمكانية علاجه وتجديد شبابه .. وأنا أزعم، بالمقارنة مع الأحزاب العربية والسورية القديمة والجديدة، أن البعث مازال هو الأفضل والأكثر التقاء مع جذورنا الشرقية، ولا يجوز التخلي عن نصف قرن من محاولات الإحياء العربي بنسخته الإسلامية المعتدلة، والتي كان يؤكد عليها الراحل حافظ الأسد تحت مصطلح (جدلية العروبة والإسلام) كوصفه ثقافية جامعة لشعوب المنطقة بعيداً عن كل أشكال العنصرية القومية والدينية التي تنازعت صقور البعث بشقه السوري والعراقي.. فالبعث الجديد يجب أن يكون توجهه ثقافياً أكثر منه سياسياً، بالعمل على استقطاب النخب الثقافية لتجديد شبابه المقيد بهيمنة العجائز على مفاصله الحزبية، ويستحسن أن يتخلصو من كلمة البعث ويحافظو على "العربي الإشتراكي" لأن " البعث" كلمة تحيل إلى ماضٍ مختلف عليه، يفرق ولا يوحد، ويمكن إضافتها إلى تسمية القومي السوري كما يمكن إضافتها إلى تسمية الإخوان المسلمين وإلى كل التيارات الحزبية التي تنقب عن أمجاد السلف الصالح بدلا من الإشتغال على المقومات المعاصرة للهوية العربية.. فقيامة البعث ضرورة لحماية سورية من الصوملة والأفغنة والأخونة و..السعودة أيضا..
هامش: ولقد انتقدت دولة البعث ومسؤوليها في مقالات ساخرة استدعيت على إثرها إلى "الإصلاحيات الأمنية"مرات عديدة، وكلما فتحو صفحتي كانو يستغربون دائما أن والدي من قدامى البعثيين المؤيدين لجناح حافظ الأسد، فأقول لهم أن هواي كان مع أمي التي كانت تكره نشرة الأخبار والقضية الفلسطينية وحزب البعث الذين خطفوا والدي من حضنها.. والحقيقة أني لم أكن مناهضا للأحزاب اليسارية في أهدافها الوطنية بقدر ماكنت معاديا لنهج الفاسدين فيها والذين انشق أغلبهم ومازلنا ننتظر انشقاق من تبقى منهم.. وللتأكد مما أقول يمكن العودة إلى زوايا "شغب" ماقبل الأزمة الوطنية..
نبيل صالح
التعليقات
حزب البعث الأموي والاشتراكية الفلاحية
بعد التحية:حزب البعث (أو
السيد نبيل صالح : أشكر توصيفك
اضافة
رد - حزب البعث الأموي والاشتراكية الفلاحية
رد 2
الرائع نبيل..شكراً
أكاد أصفق.
بعث البعث
رأي
بعث البعث !!
الطريق الى الهاوية.
البعث الجديد
هامش
القومية، البعث، الحكم و المسؤولية عما يجري
الوطنية و أبعادها
الطريق الى جهنم
ماذا كنا نحتاج في سوريا
العزيز النبيل اشكرك على
ذكريات
الضرس المنخور
الحكمة و التهور
تحية سورية اصيلة
تحية
رد نعم ..ولكن نوعي
البعث والانبعاث
الألم
إضافة تعليق جديد