هل أدى خفوت الروح القومية إلى تصاعد المد الديني؟
هذه قضية جوهرية فى مسار حياة أمتنا العربية ومستقبلها بكل ما يحمله السؤال من توقعات إيجابية أو سلبية، وأنا شخصياً لا يخالجني شك في أن تراجع المد القومي وانحسار حركة القومية العربية كان لهما تأثير كبير في تنامي دور التيارات الإسلامية وازدهار حركة المد الديني في المنطقة العربية، وقد يقول قائل إن اندفاع التيارات الإسلامية في العقود الأخيرة لم يكن محصوراً بالدائرة العربية وحدها ولكنه تصاعد على امتداد خريطة العالم الإسلامي كله لأسباب تتصل بالتطورات الدولية والصراعات العالمية، وهنا أقول إن ذلك صحيح في مجمله ولكنني أدعي أن حركة الإسلام السياسي التي انطلقت من العالم العربي هي الرائدة والقائدة في هذا السياق. من هنا فإن انهيار المشروع القومي الذي ازدهر بزعامة عبد الناصر وحزب البعث والحركات القومية الأخرى كان هو المسؤول المباشر عن تقدم المشروع الإسلامي والنجاحات التي أحرزها والأرضية التي اكتسبها، وأستطيع أن أتطرق لتفسير هذا التناوب الفكري على الساحتين العربية والإسلامية من خلال الزوايا التالية:
1- يسجل تاريخ الخامس من حزيران (يونيو) 1967 أضعف نقطة في منحنى الحركة القومية عندما تلقت الأمة العربية أكبر هزيمة في تاريخها الحديث وتعرضت لضربة قاصمة استهدفت المشروع القومي بالدرجة الأولى وأدت إلى حالة من الإحباط العام حيث خرج المتأسلمون إلى الشارع السياسي يرفعون شعاراًً مؤداه أن الهزيمة نتيجة طبيعية للبعد عن تعاليم الله ومخاصمة الفكر الإسلامي ومحاولات تصفية تنظيماته ومؤسساته حتى أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر رأى أن يقترن ظهوره لأول مرة بعد هزيمة حزيران بمناسبة دينية فى أحد المساجد الكبرى في القاهرة، وكأن الحركة القومية التي كان يقودها تقدم اعتذاراً لدينها الحنيف بعد «العقاب الإلهي» الذي لحق بها عام 1967.
2- لقد رددت الجماهير في الشوارع العربية حديثاً متكرراً عن ضرورة اللجوء إلى تعاليم الدين والاعتصام بروح السلف الصالح والابتعاد عن المشروعات «الإلحادية» ـ من وجهة نظرهم ـ وهي تلك التي زاوجت بين القومية والاشتراكية وارتبطت بسياسات الاتحاد السوفياتي السابق وابتعدت عن روح الإسلام وتعقبت المشروع الديني خصوصاً في إطار حركة «الإخوان المسلمين» التي دخلت في صراع طويل مع عبد الناصر ومواجهتين كبيرتين مع نظامه في عامي 1954 و1965، وهو ما دعا إلى ظهور صحوة دينية عندما بدأ رجل الشارع البسيط يقول «لقد جربنا المشروع القومي وسقط، والمشروع الاشتراكي وفشل، فلماذا لا نتقدم نحو المشروع الإسلامي؟».
3- إن جماعة «الإخوان المسلمين» التي نزحت فلولها من مصر إلى بعض دول الخليج العربي والأردن وعدد من الأقطار الأوروبية لم تتوقف عن ترسيخ أركان مشروعها الإسلامي رغم تعقب أجهزة عبد الناصر لها ومتابعة أنشطتها وبلوغ دورها إلى حد أن أصبحت جزءاً من الحرب الباردة بين عبد الناصر ومؤيديه في جانب والقوى العربية التقليدية المناهضة لسياساته في جانب آخر، وعندما رفعت القاهرة شعارات اشتراكية وجد فيها المتأسلمون مدخلاً لضرب السياسات القومية بحكم اختلاطها بمشروعات تعادي الإسلام وتناهض دوره السياسي. وما زلت أتذكر احتفالاً بانتهاء إحدى مراحل بناء سد أسوان العالي بحضور الرئيس السوفياتي نيكيتا خروتشوف والرئيس العراقي الراحل عبدالسلام عارف عندما ألقى الأخير خطاباً استهله بقوله «أنا ربكم الأعلى فاعبدون» مستمداً ذلك من نص في الذكر الحكيم ليبدأ به كلمته في تلك المناسبة فإذا بالزعيم الشيوعي يجدها فرصة لهجوم مباشر على الأديان ويطرح فكره على نحو بدا مستفزاً للتيارات الإسلامية في وقتها. ولذلك نستطيع أن نقول إن الساحة لم تكن خالية تماماً من أسباب الصدام والصراع حول المفاهيم الفكرية والمواقف السياسية.
4- إن الحديث عن القواسم المشتركة بين القومية والدين، وبين العروبة والإسلام، هو حديث ينطوي على قدر كبير من المجاملة ومحاولة توفيق الأوضاع ولو على حساب المنطلقات التي تتحرك منها التأثيرات الصادرة عن كل منها، فنحن لا ننكر بالمناسبة الأرضية المشتركة بين الإسلام والعروبة ولكننا ندرك في الوقت ذاته أن ليس كل مسلم عربياً وليس كل عربي مسلماً، ونعترف بأن الرسالة المحمدية هي التي حملت العروبة إلى بعض الأقطار الإسلامية والتي تشكلت منها في النهاية المنطقة العربية كما نعرفها الآن، ولكننا ندرك في الوقت ذاته أن هناك قوميات قبلت الإسلام ديناً ورفضت العروبة ثقافة رغم أنها تحترم اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، ولكنها تمسكت بثقافتها الأصلية وشخصيتها الحضارية. من كل هذه المعاني ندرك أن الاختلاف قائم بين ما هو ديني وما هو قومي وأن المساحة المشتركة لا تمنع التنافس والاختلاف على النحو الذي شاهدناه، خصوصاً بعدما تراجع المد القومي وتقدم المشروع الإسلامي.
5- لقد أسهمت القضية الفلسطينية في تعزيز التداخل بين التيارين القومي والديني من خلال وحدة الهدف خصوصاً ما يتصل منها بقضية القدس تحديداً، ونحن لا ننسى أن الطلائع الأولى من الفدائيين الذين وفدوا الى ساحة الجهاد هم في غالبيتهم من المنتمين لجماعة «الإخوان المسلمين» الذين رأوا في القضية الفلسطينية مشروعاً جهادياً من منطلق ديني بغض النظر عن الإطار القومي ولا شك أن اختلاط الدين بالسياسة في العالم الإسلامي كان له دوره في تمييع الحدود الفاصلة بين التيار الديني والفكر القومي وذلك رغم كل المحاولات التي قدمتها تنظيمات إسلامية لدمج المشروع القومي في إطارها الديني. وإذا عدنا إلى الكتابات الأولى للإمام الراحل حسن البنا فإنا سنكتشف أن قضية التداخل بين العروبة والإسلام كانت إحدى شواغله على نحو تؤكده أدبيات فكره الديني والسياسي منذ ميلاد الجماعة عام 1928.
6- لا تغيب عن ذاكرتنا تلك المحاولات الجادة للتوفيق المدروس بين الفكر القومي والفكر الديني في عالمنا العربي. ونتذكر في هذا الصدد تلك الإسهامات المستنيرة للمفكر القومي الدكتور خير الدين حسيب والمؤتمر الذي انعقد حول هذا الشأن في العاصمة اللبنانية منذ سنوات عدة. ولكننا ندرك في الوقت ذاته أن بعض التيارات السلفية نظرت بحذر إلى تلك الجهود واعتبرتها خصماً من دورها المتصاعد في السنوات الأخيرة، وهذا يقودنا إلى الاعتراف بحقيقة واضحة وهي أن النجاح النسبي لأحد المشروعين يكون في الغالب على حساب المشروع الآخر مهما تقاربت الغايات وتشابهت الأهداف وصدقت النيات.
7- إن رواد الحركة القومية الذين خرجوا من إقليم الشام الكبير لم يكونوا مسلمين بالضرورة بل تباينت أفكارهم ومنطلقاتهم مع ثبات الأرضية القومية التي يقفون عليها ولذلك كان دور مسيحيي الشام رائداً في ميلاد وتطور حركة القومية العربية، فمثلما حافظت الأديرة على اللغة العربية فإن المسيحيين العرب خصوصاً في دول المهجر كانوا هم الذين ربطوا بين السعي نحو الحرية وبين الاعتماد في تحقيق ذلك على ركائز عروبية تستبعد العامل الديني ولا تعطيه تلك الأهمية التي أعطاها له المتأسلمون في العالمين العربي والإسلامي. ولذلك فإننا نظن أنه عندما نتحدث عن الأهمية الروحية لمدينة القدس فإننا نشير إلى عامل إضافي ولكنه ليس أساسياً على الإطلاق إذ يكفي أن نقول عنها إنها جزء من أراض عربية فلسطينية جرى احتلالها في الخامس من حزيران عام 1967 بصورة تؤدي إلى أن ينطبق عليها القراران 242 و338 الصادران من مجلس الأمن بدلاً من الوقوف أمام الدعاوى الدينية وإنكار الجانب السياسي للقضية باعتباره يمثل العامل الحاكم فيها.
8- لقد أسهمت أحداث السنوات الأخيرة خصوصاً الحادث الإرهابي على مدينتي نيويورك وواشنطن عام 2001 في إحداث قطيعة واضحة بين التيارات القومية والتوجهات الدينية لأن القوميين شعروا أن الأصولية الإسلامية عبء عليهم وشاعت نظرية تقول إن المقاومة السياسية هي الأصل بينما المقاومة الدينية تحمل في داخلها عوامل الفرقة وأسباب الانقسام لأنها تستبعد بعض الطوائف والقطاعات في مزايدة غير مقبولة مع تهميشها للكفاح الوطني لبعض تلك التيارات التي أسهمت بجهود كبيرة في حركة الاستقلال وتحرير الأرض العربية. وهل ننسى أن المقاومة الوطنية احتوت أسماء لمطارنة ورجال دين مسيحيين أتذكر منه الآن المطران كبوتشي الذي ارتبط اسمه بموقف بطولي أمام جبروت الدولة العبرية.
9- إن الارتباط الظالم بين الإرهاب والدين الإسلامي أدى إلى توجيه ضربة قاصمة للمقاومة المشروعة ضد الاحتلال حيث جرى خلط متعمد بينها وبين التهم الجاهزة بالإرهاب والعنف العشوائي الذي يستهدف المدنيين وأدت هذه التداعيات إلى تركيز التيارات القومية على منطلقاتها الأساسية بعيدة عن المسحة الدينية ولعلنا نتذكر في هذا السياق طبيعة الخلاف الايديولوجي القائم بين حركتي «فتح» و «حماس» فالأولى تعمل تحت مظلة قومية بينما ولدت الثانية كمقاومة إسلامية لمشروع جديد يختلف عن المشروع القومي مستهدفاً وجود الدولة الصهيونية.
10- إننا نظن عن يقين أن المشروع الإسلامي دخل في مواجهات عديدة أدت إلى انتقاص تأثيره في السياسة العالمية والإعلام الدولي وهو الأمر الذي دفع إلى الاقتناع بضرورة القيام بعملية فك اشتباك واضحة بين ما هو قومي وما هو ديني، أي بين المشروع العربي والمشروع الإسلامي. لذلك فإن أي محاولة جديدة للتوفيق بينهما قد لا تحقق ذلك القدر من النجاح الذي تحقق لها منذ أكثر من عقد كامل فلقد تمكن المتطرفون من الإساءة إلى الإسلام بصورة أدت إلى تأليب القوى الدولية عليه وبالتالي ضرب مشروعه حتى وإن خلصت النيات وصدقت الرغبة في تحقيق مشروع إسلامي معتدل في ظل هذه الظروف الدولية العاصفة.
لقد سعينا من خلال النقاط العشر الأخيرة إلى مناقشة الزوايا التى ترتكز عليها المقولة التى تتردد عن تراجع المشروع القومي وتقدم المشروع الديني خصوصاً في المنطقة العربية، ذلك أننا نرى أن الإجابة عن السؤال العنوان هي بالإيجاب، فلقد أدى خلو الساحة القومية وخواء الفضاء العربي إلى أن تحتله تيارات تسعى نحو مشروع إسلامي لا أظن أنها ستقدر على تحقيقه في هذه الظروف الدولية الملتهبة. ولكن الأمر المؤكد أنها اقتطعت من مساحة الحركة المتاحة أمام المد القومي الذي لا ننكر تراجعه بل نعترف بحاجته إلى صوغ مشروع جديد يتوافق مع إرادة الشارع العربي ولا يعيش في صراع مع غيره من التيارات أو صدام مع سواه من المشروعات السياسية الكبرى في الوطن العربي الواحد.
مصطفى الفقي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد