الغرب لا يستعجل الحرب ويهدي ليبيا إلى «داعش»
لا دواء غربياً ناجعاً لمحاربة «داعش» إلى الآن. ثمة شكوك جديّة حول مدى توفّر الإرادة السياسية لهزيمته أساساً، والمشاريع التي تقف خلف ذلك، خصوصاً مع إعطاء الغرب هامشاً زمنيّاً فضفاضاً قبل أيّ تحرك حاسم. يستفيد التنظيم الإرهابي من الهامش الزمني على أفضل نحو. ها هو يتكاثر ويصنع معقلاً جديداً له في ليبيا، حيث يجهّز الأوروبيون لتحرّك عسكري جديد عنوانه محاربة ما صنعته سياستهم باعترافهم الصريح.
بالتزامن مع حالة الاستنفار حيال ليبيا، لا تبدو النتائج مشجّعة. يخوض الأوروبيون الآن في مراجعة إستراتيجيتهم لمحاربة «داعش» في كل من العراق وسوريا، مع الإقرار بأنها «ليست كافية». ليس فقط بدليل وقوع هجمات باريس وبروكسل، لكن قبل ذلك، لأن «داعش لا يزال فعّالاً جداً»، باعتراف مسؤول أوروبي كبير. هنا تقول دول منخرطة في الحملة العسكريّة، إن المعركة ستكون طويلة، بلا أمدٍ محدّد، لكن بلا بديل عن دخول دول المنطقة بقوّات بريّة.
الأسبوع الماضي، اجتمع في لوكسمبورغ 48 وزيراً أوروبياً، للدفاع والخارجيّة، ليستمعوا إلى المراجعة التي قدّمها فريق الخارجيّة الأوروبيّة حول الإستراتيجيّة المشتركة. إعلانات كثيرة عن العزيمة الجاهزة، لكن لا نتائج مهمّة يمكن تقديمها إلى الآن.
لا بديل عن التدخل البري الإقليمي
كان لنا حديث مع وزيرة الدفاع الهولنديّة، يانينا هينيس ـ بلاسخارت، المنخرطة بلادها عسكرياً في الحملة على التنظيم في العراق وسوريا.
ـ هناك من اعتبر وقوع الهجمات في بروكسل وباريس، يعني أنَّ ما تفعلونه لا يكفي لمحاربة «داعش»؟
- أمننا الداخلي يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع أمننا الخارجي، لذلك نحتاج تحرّكات في كلا المجالين، هناك محاربة «داعش» في بلدان مثل سوريا والعراق، لكن علينا زيادة مرونتنا (على التحرك) داخل الاتّحاد الأوروبيّ، وهذا على أجندة عملنا.
- ما الذي يمكنكم فعله أكثر على الجانب العسكري، هل وصلت الحملة حدود إمكاناتها؟
- لا، لم نصل لحدود إمكاناتنا، لكنّ الأمر سيأخذ وقتاً، لأنَّ الأمر لا يعود لنا فقط، كدول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وبريطانيا، بل من المهمّ أن نحصل على الالتزام من دول في المنطقة. لذا، علينا فعل ذلك سويّة، ذلك سيأخذ وقتاً، لكنّنا سنهزم «داعش».
- أيّ نوع من الالتزامات المطلوبة تقصدين بالنسبة إلى دول في المنطقة؟
- عليهم أن يقاتلوا معنا جنباً إلى جنب، لا يمكننا القيام بذلك وحدنا. لدينا الحملة الجويّة مثلاً، لكن نحتاج قوّات بريّة على أن تقوم بتوفيرها دول في المنطقة. كما قلت، الأمر سيأخذ وقتاً، لكن ثق بي سنهزم «داعش».
أسطوانة الحاجة إلى قوّات بريّة لم تتوقّف منذ ظهور الخلافة «الداعشية». آخرها، كان حديث السعوديّة عن تدخّل برّي في سوريا، تحت مظلّة «التحالف». رسى الطرح على إمكانيّة إرسال قوّات إقليميّة متعدّدة، مهمّتها تدريب مجموعات المعارضة المسلّحة، قبل أن يختفي هذا النقاش، وكأنّه لم يكن.
معطياتٌ كثيرة تدعم خلاصة أنَّ الغرب لا يبدو، على أقلّ تقدير، مستعجلاً لهزيمة «داعش»، رغم ترقيته لمستوى التهديد الأمني المتقدّم للدول والمصالح. حينما اجتمع وزراء دفاع «التحالف الدولي لمحاربة داعش» في مقر الحلف الأطلسي، أوائل شباط الماضي، كانت مرّت ثلاثة أشهر على اعتداءات باريس. واشنطن دعت للاجتماع تحت عنوان زيادة مساهمة دول «التحالف». رغم حالة الطوارئ الأمنيّة التي أشاعت الحاجة الملحّة لوقف التهديدات، لكنّ ديبلوماسياً مخضرماً خرج من صالة الاجتماع ليؤكّد أنَّ أحداً ليس مستعجلاً. قال حينها، إنَّ التركيز سينتقل إلى الحملة في سوريا، لكن الأمور في المجمل تطبخ على نار هادئة: «لا يجب انتظار انتصار سريع، وقبل ذلك لا يجب السعي إليه أصلاً».
تكرار نموذج الاعتداءات الإرهابيّة في بروكسل، لم يغيّر شيئاً يذكر أيضاً. لم تحصل انعطافة حاسمة للحملة العسكريّة، ولا للمراجعة الأوروبيّة حول إستراتيجية المواجهة.
مسؤول أوروبي رفيع المستوى، يعمل على تلك المراجعة، اعترف بأنّهم لا يزالون بعيدين عن احتواء «داعش» قبل الحديث عن هزيمته. حينما سألناه عن تقييمه، قال إنّه «من الواضح أنّه إذا كان لديك هجمات، وكان داعش يقف خلفها، فهذا يعني أنَّ الإستراتيجية ليست كافية وعلينا فعل المزيد». هل نجحت محاربة «داعش»، سياسياً وعسكرياً؟ يردّ المسؤول الأوروبيّ: «داعش لا يزال فعّالاً جداً.. علينا مراجعة ما الذي نجح في الإستراتيجيّة، وما الذي نحتاج إلى تعديله والجوانب التي علينا تعزيزها».
سلسلة مفاجآت غير مفاجئة
قبل الحديث عن عدم استعجال هزيمة «داعش»، لا تزال الشكوك تُثار حول ظهوره واشتداده تحت أعين الاستخبارات الغربيّة. تجادل واشنطن ردّا على المنتقدين بالاعتراف أنّها أخفقت أمنياً، على أساس أنّها قلّلت من أهميّة قدرات «داعش» على الاستقطاب ثم الاستيلاء على الموصل قبل الإعلان الجريء عن إنشاء دولة خلافة «باقية وتتمدّد»، على ما تقول إعلاناتها الترويجيّة.
منذ العام 2005، تحذّر استخبارات غربيّة، على المنابر الإعلاميّة، من أنَّ تنظيم «القاعدة»، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، يعمل كمغنطيس فعّال للمجموعات الأشدّ تطرّفاً. استثماره في استقطاب اليائسين سياسياً، كان يزدهر في دولة تحتلّها وتحكمها الولايات المتحدة عسكرياً. سقطت الموصل بأيدي «داعش»، ليعلن الخلافة منها، بعدما أخلى نحو ثلاثين ألف جندي عراقي مواقعهم مسلّمين عتاد جيش. كانت الفرقة المنهارة أحد أركان الجيش العراقي الذي بنته واشنطن بنفسها، مقدمةً إياه بوصفه أحد أهمّ إنجازاتها لحماية الديموقراطيّة الجديدة.
تحدّث مسؤولون أميركيّون عن إخفاق استخباري، عابرين فوق حقيقة أنَّ العراق كان أحد المعاقل الأهمّ للاستخبارات الأميركية: شبكة استخبارات بناها الاحتلال خلال سنوات، إضافة إلى قدرات استخبارية فائقة يوفّرها التواجد العسكري في الخليج العربي. كان التباهي بتلك القدرات أحد مصادر الطمأنة التي يستند عليها المسؤولون العسكريّون حينما يتوجّهون بالحديث إلى وسائل الإعلام الأميركيّة. بناءً على روايتهم تلك، يفترض أنَّ «داعش» أنشأ دولته فوق شاشة مكشوفة تماماً أمام القيادة الأميركية.
أمام تلك الشاشة أيضاً، انطلق «داعش» ليمحو الحدود بـ «خلافة» لا تعترف بها. كانت مفاجأة أيضاً! حينما تحدّث مسؤولون عسكريّون أميركيّون عن مصيبة سقوط الموصل، في حزيران 2014، نبّه أحدهم إلى أنَّ قادة داعش «يحاولون التحرّك بتصميم لإقامة دول عابرة للحدود السوريّة العراقيّة»، إذ إنَّ الرقّة السورية كانت قد سقطت قبل ذلك، تمهيداً لظهور مستنقع أفغانستان عربية ثانية. «المفاجأة» الثالثة في الطريق على كل حال.
بخلاف الحديث عن دوري طهران وموسكو، بالنسبة إلى استقواء «داعش» في العراق وسوريا، يبدو نموّه في الحالة الليبيّة مسؤولية وصناعة غربيّة صرفة. الحملة التي أطاحت بحكم القذافي كانت أطلسيّة مئة في المئة. الصراعات التي تلت ذلك، جاءت أيضاً من داخل البيت الأطلسي، مع رعاية تركيا، بانخراط قطري، لمليشيات «الإخوان المسلمين» التي تمترست في الغرب الليبي من العاصمة طرابلس. حكومة وبرلمان طبرق يقفان خلف قوّات خليفة حفتر، المدعوم مصريًّا وخليجيًّا لمواجهة حكم «الإخوان». دعم الغرب مالَ بدايةً لصالح حفتر، لكنّه يبدي مرونةً مؤخراً للتواجد على طرفي الصراع.
النتيجة ظهور فرع ثالث لـ «داعش». هناك يواصل نموّه انطلاقاً من سرت، مسقط رأس القذافي، اعتماداً على معادلة جذب من تضعهم معادلات الصراع، بانخراط غربي، في خانة العدميّة السياسيّة.
الأطلسي أقرّ بالمسؤوليّة، لكنه وضعها في عهدة «المجتمع الدولي» لأنه «لم يفعل ما يكفي»، كما ردّدت قيادته مراراً بعدما كان جنرالاته يتباهون بقدرتهم على إحصاء القطط في شوارع طرابلس. جرى الحديث عن المجتمع الدولي ككيانٍ منفصل، مع أنّه هنا ليس إلّا مجموعة الدول نفسها التي قادت الحملة في ليبيا.
المزيد من «داعش».. المزيد من الحملات العسكرية
من معقله في سرت، يتمدّد «داعش» على شريط ساحلي يضمّ منشآت نفطيّة مهمّة، خصوصاً للاستثمارات الغربيّة. الصراع بين الغرب والشرق الليبي، يجعل قتاله أولويّة متأخّرة للطرفين. تماماً كما هو الحال في العراق وسوريا، حينما يقول كل طرف إنّه لن يحارب «داعش» لكي يستفيد خصومه من ذلك. تماماً حينما يقول الغرب إنَّ لا خلاص من دون تسويات سياسيّة. لكن ما الحل في ليبيا الآن؟ الردّ الغربي بات واضحاً: تنصيب حكومة، كيفما أمكن، معاقبة كل من يعارضها، بناء عتبة شرعيّة لها كي تطلب التدخل العسكري بغلاف ما.
خلال اجتماع وزراء دفاع وخارجيّة الاتّحاد الأوروبي، أكَّد مصدر رفيع المستوى أنَّ الخطط باتت جاهزة لتدخل عسكري مع قوّات برية. قال بكلمات لا تحتمل الالتباس: «نحن على أتمّ الاستعداد للذهاب إلى ليبيا»، قبل أن يشدّد «القوات التي سنرسلها ستكون لمحاربة داعش، أمّا باقي المساعدات الأمنيّة فلمساعدة الحكومة على وقف تهريب المهاجرين». المسميات تختلف، وبعض الدول الأوروبيّة تقول إنَّ ما تخطط لإرساله هو قوّات لبناء هياكل جيش ليبي وتدريبه ليكون قادراً على محاربة «داعش».
لا يستفيد «داعش» فقط من الصراع الشرس، الذي ظهر وتطوّر تحت المظلّة الأطلسيّة. يستفيد أيضاً من خزان عتاد هائل في مستنقع من الفوضى. تدفقات الأسلحة لم تتوقّف، رغم الحظر الدولي المفروض، بما في ذلك عبر طرق لا يمكن القول إنّها مخفية.
يلفت ديبلوماسي رفيع المستوى إلى أنَّ الإخفاق في وقف السلاح متعلّق بأبعاد الصراع السياسي نفسه. يقول معلقاً على ذلك: «هناك دولاً أوروبيّة متردّدة في تطبيق حظر فعّال»، قبل أن يضيف «جميعنا يعرف أنَّ تركيا لن تتوقّف عن ضخّ الأسلحة خصوصاً بعدما رأت ما حصل للإخوان المسلمين في مصر، لقد باتوا مقتنعين أنَّ القوة العسكريّة هي الضامن الوحيد لإبقاء حلفائهم في السلطة».
لم يصل الأوروبيون إلى اتّفاق حول تمديد تفويض قوّاتهم البحريّة المتواجدة لمحاربة شبكات تهريب اللاجئين، لتشمل تطبيق حظر الأسلحة. المصدر يقول إنَّ الوزراء الأوروبيين اجتمعوا وتحت أياديهم تقارير موثقة عن نشاط كبير لطريق التهريب من تركيا عبر المتوسط إلى مصراتة، وآخر الشحنات تضمنت أكثر من 50 دبابة وعشرات العربات المصفحة. المحصلة لا تحتاج لتكهّنات كما يختصرها الديبلوماسي «الآن لم نعد نحارب داعش في العراق وسوريا بل قبالة سواحل أوروبا».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد