الفرحُ السوري ليلةَ الانقلاب على إردوغان
ليسمح لنا أصحاب العقول الباردة، وليسمح لنا من اكتشفنا أنهم ديموقراطيون على غير عادتهم، ولتسمح لنا مجاميع الإسلاميين الحركيين، والإخونج العرب، الذين ملأوا عقدنا الجديد شعاراتٍ لإسقاط الأنظمة العربية، ثم صحونا وقد تحوّلوا إلى عتاة في التنظير للديموقراطية التركية، ومناضلين ضد الجيوش الوطنية لتمزيقها، وتحطيم هيبتها.
ليسمح لنا هؤلاء جميعاً، فقد فرحنا بمحاولة الانقلاب التركية على إردوغان، ليلة الجمعة الموافق للخامس عشر من شهر تموز 2016، واهتزاز عرش السلطان «العصملي».
فرحنا ــ ونحن لم ولن نخجل من فرحتنا ــ حين انتفضت شوارعنا الصارخة بالوجع، وأضاءت لياليها الحزينة أنوار البهجة، وبريق الفرج. فرحنا حين زغردت نساء سوريا، اللواتي طالما أبّنّ بدموعهن وصمتهن المهيب قوافل الشهداء، طوال نصف عقد بدا كأنه دهر إغريقي. لن نكذّب ما رأيناه، وما سمعناه، ولن نتوارى كما لم نتوار من قبل في كل مواقفنا؛ لقد بدت لنا فرحة غامرة ملأت شوارع بلدنا، وظهرت فيها بواكير النصر المشتهى.
إن ما حدث في تركيا من انقلاب على إردوغان، ثم بإعادته إلى كرسي السلطة وقصره ذي الألف غرفة، كان كالمفاجأة المنتظرة، والمتوقعة منذ حين. وما من محلل استراتيجي، أو قارئ لتبدلات وسيولات المنطقة، إلا توقع انقلاباً عسكرياً، سيقع في تركيا بسبب الدور التركي المندفع بغرائزه في السنوات الخمس المنصرمة. ما حدث إذاً كان متوقعاً ومنتظراً، وكانت له ظروفه الموضوعية والذاتية، وهو نتيجة حتمية لسياسات متهورة لرسم دور إقليمي متعاظم لتركيا، بمشروع عثماني ــ إخواني ، نظّر له داود أوغلو، وانبرى إردوغان لسلطنته ولحراسة بابه العالي.
سيشبه ما جرى ليلة الجمعة كثيراً، وطويلاً، بإعادة القائد الراحل هوغو تشافيز إلى السلطة، بعد محاولة الانقلاب عليه. وكيف نزلت قطاعات كبيرة من الشعب الفنزويلي إلى الشوارع، داعمةً لقائدها المناضل. فاستطاعت إفشال الانقلاب المدعوم أميركياً عليه، وأعادته كقائد جماهيري، وسم قارة أميركا اللاتينية ببصمته المميزة.
الخلاف بين الحالتين سيكتشف في ما سيأتي... ففي تركيا لن يكون الوضع مشابهاً لما حدث في فنزويلا بعد الانقلاب، وكِلا التحولين سواء في المجتمع التركي أو الفنزويلي محكومان بطبيعة الشخصيتين المتناقضتين بين تشافيز وإردوغان؛ فقد تسامح تشافيز مع الانقلابيين ودعاهم إلى شراكة الوطن بدون قمع أو تضييق، بينما ستستمر الشخصية «البارانوية» المصابة بجنون العظمة، والمملوءة بالشك والتخطيط لإردوغان، بوضع قوائم مطلوبة للمتآمرين عليه، في الجيش والقضاء والإعلام. الانتقام الذي لن ينتهي مطلقاً، سيزيد شروخ تركيا العمودية والأفقية. يتّضح من سياقها الجاري أنها ستصيب الجيش والقضاء، الشيء الذي يخلق انقسامات جديدة إلى الانقسامات المتعددة التي طاولت تركيا في زمن إردوغان؛ بين ترك وأكراد، سُنّة وصوفيين، إخوان وعلويين، علمانيين وإسلاميين، ما سيجعل تركيا تعوم على بحور مائجة غير مستقرة، من التحولات والتفاعلات الاجتماعية الخطيرة.
يتساءل المرء هنا: إذا كانت بداية الانتقام بملاحقة 2745 قاضياً وإعفائهم بتهمة الانقلاب خلال يومين، فبكم عسكري وإعلامي ومعلم ومستثمر وسياسي وحزبي و و... ستكون النهاية؟!
ألا يشكل هؤلاء قِوام دولة معارضة؟! ألا تعتبر الحرب لإقصائهم، وزجّهم في السجون والمعتقلات مخاطر عميقة، تهدد مستقبل تركيا وإردوغان نفسه؟ مرحلة من اجتثاث دولة عميقة وموازية، فيها الكثير من القتل والدماء والمظالم، ستعمل حتماً تحت الرماد تحت مسمى «الغولانية» ــ نسبة إلى فتح الله غولان، أشبه بمرحلة «المكارثية» الأميركية في محاربة الشيوعية والشيوعيين، وفق أحكام خرقاء والشُبه تتبعت الناس. فضيّقت الحريات، ووسمت تاريخاً طويلاً، بمظاهر القمع والتشدد. نوع من العبث والشك سيقض مضاجع السلطان، وسيقلق نوم لياليه لنهاية عمره.
إن الإهانات التي تعرض لها الجيش التركي، ستتواصل بشكل غير مسبوق، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وستكون تحت مسمى «تنظيف الجيش من الخونة والمتآمرين»، وسيضاف ذلك بشكل مكثف إلى مشاهد الإذلال المتعمدة لرجال الجيش التركي، بدءاً من جرّهم مقيدين إلى المحاكم المدنية لنزع الهيبة «الأتاتوركية» عنهم، قبل سنين، وليس انتهاءً بجرجرتهم في الشوارع وسحلهم، ووضعهم في اصطبلات عراة مقيدي الأيدي والأرجل، والإساءة إليهم والتنكيل بهم إبان الانقلاب وبعده. وهنا سنُبقي القراءة المتوقعة لتداعي مثل هذه التأثيرات المتراكمة على العقيدة القتالية للجيش التركي لذهن القارئ النبيه، وخاصّة أن الجيش يخوض أكبر حربين مصيريتين في تاريخه المعاصر؛ حرب استعادة تركيا الموحّدة ضد الأكراد في الداخل، وفي دولتين مجاورتين، وحرب استعادة أمن تركيا واستقرارها ضد الإرهاب، الذي رعاه واصطنعه إردوغان لخدمة مشروعه العثماني.
إن عداء سوريا لإردوغان وتياره ومشروعه العثماني، مبني على أساس أن سوريا فتحت له صدرها، وفتحت له أبواب العالم العربي، فقابلها بالغدر والطعن في ظهرها، وليس كيف وصل إلى الحكم! أو ما الذي أعاده إليه بعد الانقلاب! لا يهمنا ماذا يرتدي ويتدثر، وهو يعتدي على حدودنا، وينتهك سيادة دولتنا، أبالديموقراطية أو بالديكتاتورية! بحكم «العدالة والتنمية» أو بـ«العصملية» وخوازيق السلطنة! بالاستبداد و«البارنويا»، أو المسكنة والزحف الاستراتيجي. موقفنا منه بسبب أنه خوّان لنا، غدارٌ بنا، معتد علينا، ولصٌّ أثيم، وإن حفَّ به ملايين المطبلين والفاشيين والمضللين.
حربنا مع من عرفه الحلبيون بـ«لص حلب»، هي ليست ضد قيم الديموقراطية، ودعماً للانقلابات العسكرية وترسيخاً للاستبداد، لكنها حرب طاحنة، غدر فيها بسوريا بعدما أعطته مفاتيح الدخول والخروج، فضخّ الفتنة والطائفية، وعشرات الآلاف من الإرهابيين المذهبيين الذين ملأوا سوريا والعراق، ولم يتورع من أجل ذلك عن استخدام كل الوسائل (يكفي هنا إيراد تسجيل لإردوغان وهاكان فيدان للتآمر في احتلال جزء من سوريا كمثال على ذلك). فهل صار لزاماً علينا أن ننظر إلى المعتدي والمجرم عندما يشن حربه علينا، وينتهك حدودنا وسيادتنا، ويهدد الوجود العربي في سوريا والدول العربية المجاورة. فإذا كان ديموقراطياً فلا نعاديه أو نرده.
منطقٌ مشبوه أعوج، منطقُ من أدمن الانتقال من حضن إلى حضن، منطقُ من انتظر القدوم إلى كراسي السلطة في قوافل المحررين الأغراب وجوقاتهم، ترد سوريا المظلومة والمغدورة، تآمر جيرانها الألداء عليها، تآمراً صار مكشوفاً في الغرف غير السرية في تركيا والأردن وحدود فلسطين المحتلة. لن يهم السوريون في حالات العدوان والظلم، أكان المعتدي منتخباً ديموقراطياً، أم أوصله الانقلاب إلى السلطة والحكم، أو حملَه إلى بيته أو إلى القبر.
يبقى الشيء المؤكّد الذي استطاعت محاولة الانقلاب على إردوغان إظهاره، بشكل جلي، هو جمع شراذم المعارضات السورية ومجاميع المسلحين، خلف خوفها الشديد ورعبها القاتل من سقوطه. شعروا بأن مصيرهم مرتبط بشكل سيامي به. فهو بقايا مشروعهم الثوري المتهاوي، بعدما نفق الربيع العربي، وتعفنت جثته في المنطقة، ولأنهم مأزومون ــ محرجون، فهم لم يتوانوا عن الاصطفاف خلفه للالتحاق به إلى روسيا أو إسرائيل (عدوتهم المفترضة السابقة)، وهم بالتالي لن يتوانوا، أيضاً، وقريباً عن اللحاق به إلى عدوتهم اللدودة الحالية سوريا.
لذا، ففرحتهم ستظل منقوصة عابرة مهددة بالزوال، والتواري كهياج الأشربة الغازية، وطفوها على سطح الكؤوس المترعة، لأن مشروع إردوغان العثماني تداعى مع رحيل منظّره داود أغلو، مومياء مشروعه الذي يرفعون شعاراته وتبحّ أصواتهم للهتاف والتنظير له، مستخرج من التاريخ القريب، لم ير فيه العرب عزاً ولا مجداً، بل غرقوا في سبات الأموات الطويل لقرون طويلة. بقايا مشروع مأزوم، توقف قلبه في مصر وقطعت سوريا رقبته، يتصالح اليوم مع «إسرائيل»، ويطمح الى أن يدخلنا في بيت طاعته، الأمر الذي لن يراه في حلب ودمشق أو في بيروت وبغداد والقاهرة وتونس وصنعاء وكثير من البلدان العربية.
اليوم، لن نكون في صفوف الانقلابات العسكرية، ليس بسبب ولعنا بقيم الغرب الزائفة وكذباته الكبرى، في نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، بل لأننا ندرك ما الذي تقود إليه هذه الانقلابات، بشكل يشابه الثورات الأتبورية الملونة والمفبركة، التي دعمها دعاة الديموقراطية المستوردة أنفسهم، أولئك الذين صحوا في تركيا، مبشّرين بالديموقراطية المتوحشة (!) التي تعيد إردوغان إلى الحكم. أما في سوريا والعراق ومصر واليمن، فهم مع الثورات الانقلابية و«الربيع العبري» التي تملأ الشوارع بالخراب والدماء المستباحة.
فرحت شوارعنا الحزينة فنقلنا فرحتها، بينما فرح البعض لشوارع تركيا التي أعادت إردوغان إلى قصره. فإن نجا اليوم من الانقلاب، فهذا يعني أن معركة سوريا معه لم تنته بعد، طالما بقي على سياساته المعادية، وعلى محبيه وجوقاته من أبناء جلدتنا، من منتظري المحررين الغرباء أن يراجعوا أنفسهم، وليعلموا أنهم ما زالوا في بداية الشوط، وأن تركيا حبلى بمتغيرات كبرى قادمة لا محالة على المخاضات العسيرة، بينما سيظل محكوماً على «السلطان» أن يظل وحيداً، يحاول ترميم جدران قصره المتداعية من الداخل والخارج، وقد لا يطمئن إلى من حوله مطلقاً، إذا بقي حياً، كعادة كل سلالته العثمانية الآفلة.
عبد المعين زريق
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد