العلمانية من وجهة نظر مفكر علماني (2)
4 - تساؤلات مشروعة حول السلطة الدينية والمدنية:
المشكلة هي التالية: هل تقوم السلطة على أساس ديني وزماني مشترك.
وهل هناك ضرورة لوجود سلطة دينية إلى جانب السلطة المدنية؟
هل يقوم أساس الدين في خدمة الحياة الداخلية للفرد أم في خدمة المجتمع؟
ولأن الصراع قد ظهر في أوروبا بين الكنيسة والدولة على نحو واضح بدت المشكلة وكأنها مشكلة أوربية، لاسيما في عصر يفرض الأوروبي تاريخه على أنه تاريخ العالم ولأن العلمانية انتصرت انتصاراً حاسماً في الغرب، وأصبح الانفصال بين الكنيسة والدولة واقعة لا رجوع عنها، وتحولت الكنيسة إلى دور المربي على الصعيد الأخلاقي، فإن تجربة الغرب تنتصب أمامنا مثالاً يحتذى ليس على هذا الصعيد فحسب، بل وعلى صعد متعددة. لاسيما في مجتمع ما زالت العلاقة قائمة فيه بين الدين والدولة.
5 - التعريف المجرد للعلمانية:
وقبل أن أعرض لمشكلة العلمانية كما تبدو الآن في منطقتنا العربية، لا بد من أن نعرض للتعريف المجرد للعلمانية.
أولاً: العلمانية تفصل بين الدين والدنيا كمجالين مختلفين. فالدنيا هي جملة أشكال الحياة المجتمعية والسياسية والثقافية والعلمية، أما الدين فهو علاقة فردية تقوم بين المؤمن والإله.
ثانياً: ترى العلمانية أن الدولة - السلطة شأن مدني من جميع الوجوه وليس هناك أي أساس ديني لها. أي أن المجتمع هو منبع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. وهذا يعني نفي الدين كمصدر لأي نمط من هذه الأنماط السلطوية.
ثالثاً: ليست المواطنة - من وجهة نظر العلمانية - إلا انتماء الفرد إلى الدولة بمعزل عن معتقده الديني. أي أن البشر متساوون في حقل المواطنة وليس هناك ما يدعو إلى تقسيم الناس - حقوقياً - إلى جماعات دينية تمارس إحداها الاضطهاد على الأخرى.
رابعاً: والنتيجة أن العلمانية تنتمي إلى حقل حرية الممارسة البشرية بما فيها حرية الاعتقاد الديني. فليس فصل الدين عن الدولة هو العنصر الأساسي في العلمانية فقط، بل بزوغ أية سلطة دينية تمارس سيادتها على الناس حتى ولو لم تنتم هذه السلطة مباشرة إلى سلطة الدولة.
6 - هدف العلمانية:
إذاً، ينحصر هدف العلمانية في شكل أساسي هو العلاقة بين الدين كسلطة والمجتمع. فالإيمان ليس هو الدريئة التي تطلق العلمانية عليها الرصاص، بل سلطة الإيمان، وليس الله بل الحكم بأمر الله. وفكرة المساواة والعدل والحرية والمواطنة والقانون والحكم لا تفهم علمانياً إلا في حقل الصراع بين الدين كسلطة والمجتمع.
ولهذا يمكن أن يكون العلماني ملحداً كما يمكن أن يكون مؤمناً. فعلي عبد الرزاق وشبلي ينتميان إلى حقلين مختلفين من حيث موقفهما من السماء دون أن يحول ذلك دون انتمائهما إلى حقل العلمانية. كما أن بطريرك لبنان وفقيهها يلقتيان في أهمية الدين بالنسبة للإنسان لكنهما يختلفان في حقل العلمانية، حين رأى الأول أن العلمانية تؤدي خدمة للدين أن تحرر من هموم السياسية. بينما رأي الآخران العلمانية تتنافى مع الإسلام وبذلك نرفضها بشدة(1).
وترتد فكرة علمانية الدولة إلى مرحلة عصر النهضة العربية. وقد طرحها الأفغاني وعبده بصورة عامة وغامضة أحياناً. حيث رأى عبده أن الحكم مدني من جميع الوجوه. كما طرحها فرح أنطون بصورة واضحة جداً، وعاد إليها علي عبد الرزاق ليؤسسها استناداً إلى النص نافياً الطابع الشرعي - الديني للدولة(2).
وعلى الرغم من أن الطابع الغالب للدولة العربية المستحدثة كان علمانياً، غير أنه لم تتم عملية الفصل المطلق بين الإسلام والدولة، فأغلب الدساتير تعلن أن دين الدولة الإسلام. وأن رئيس الدولة يجب أن يكون مسلماً (باستثناء لبنان).
وأن القانون الإسلامي مصدر رئيس من مصادر التشريع. وما زالت بعض القوانين المتعلقة بالزواج والإرث والأحوال الشخصية مستقاة من التشريع الإسلامي. كما أن مادة التربية العربية تدرس في كل مراحل التعليم ما قبل الجامعي.
ومع ذلك يجب ألا نبالغ في أثر ذلك كله في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجارية.
فلقد شهدت المنطقة العربية مع استثناءات قليلة - تغيرات أيديولوجية وسياسية واجتماعية - ثقافية ملحوظة. حيث خلا الخطاب السياسي تقريباً من طرح المشكلة بين الدين والدولة وعدها جزءاً من الماضي. فلقد خصص الميثاق أقل من صفحة للحديث عن استغلال الرجعية للدين وقرر «أن الاقتناع الحر هو القاعدة الصلبة للإيمان والإيمان بغير هذه الحرية هو التعصب والتعصب هو الحاجز الذي يصد كل فكر جديد ويترك أصحابه بمنأى عن التطور المتلاحق الذي تدفعه جهود البشر في كل مكان»(3).
هذا في الوقت الذي لم تخص فيه المنطلقات النظرية أية فقرة للدين. والميثاق الوطني لجبهة التحرير الوطني الجزائرية لعام 1976 أعلن أن الشعب الجزائري شعب مسلم ولكنه أضاف أن الثورة تندرج تماماً في المنظور التاريخي للإسلام.
لأنه في مفهومه الصحيح لا يرتبط بنوع من المصالح الخاصة ولا يخضع لأي أو أية سلطة زمنية»(4).
وفي تونس البورقيبية طبقت كثير من القوانين العلمانية في مجالات التعليم والمرأة والتشريع الخ.... هذا ناهيك عن جنوب اليمن الماركسي وخطاب حركة المقاومة الفلسطينية حتى الثمانينيات.
في هذا المناخ بدت الخصومة بين الأزهر وعلي عبد الرزاق العلماني وكأنها تنتمي إلى الماضي.
أجل قبل أن يرحل الشيخ عبد الرزاق مؤلف كتاب الإسلام وأصول الحكمة عام 1966 ذهب إليه أحد الكتاب يطلب موافقته على طبع الكتاب من جديد ودار الحوار التالي بين الشيخ والكاتب:
- هل تسمح لنا بإعادة طبع كتابك العظيم الإسلام وأصول الحكمة.
- لا... لا... يا سيدي.
- لماذا..؟ هل أنت تتخلى عن كتابك ورأيك؟.
- لا لست أتخلى عنه أبداً... ولكن لست مستعداً لأن ألاقي بسببه أي أذى جديد. إني ما عدت أستطيع ذلك كفاني ما لقيته.. هل تعرف أنهم كادوا يطلقونني من زوجتي.
- لهذا الحد.
- نعم على أنني لحسن الحظ لم أكن متزوجاً حينذاك... فضاعت عليهم الفرصة.
- لقد انتهى ذلك العهد البغيض.. ولن تلقى اليوم 1966 ولن يلقى كتابك غير التكريم والتقدير والإشادة من المفكرين ومن الدولة على السواء.
- من يدريني؟ من يدريني أريد تأكيداً من الدولة.. أريد ضماناً.
- إن واقعنا الفكري الاجتماعي الجديد هو خير ضمان(5).
لقد اعتقد الكاتب أن الزمان قد تغير وقد تغير فعلاً ولكن في عام 1994 تعود الخصومة مرة أخرى بين الأزهر والكتب، تعود الخصومة بين الأزهر ونصر حامد أبي زيد، ورفع دعوى قضائية ضده، ذلك أن المدعى عليه قد ارتد عن الإسلام وأن من آثار الردة المجمع عليها فقهاً وقضاءً، الفرقة بين الزوجين ومن أحكامها أنه ليس لمرتد أن يتزوج أصلاً لا بمسلم ولا بغير مسلم. إذ الردة في معنى الموت ومنزلته، وأن المدعى عليه قد ارتد عن الإسلام بأن زواجه من المدعى عليها الثانية يكون قد انقسم بمرد هذه الردة ويتعين التفريق بينهما في أسرع وقت(6).
وتمتد يد القتل لتزهق عدداً كبيراً من الصحافيين والمفكرين في أرض الكنانة. وجزائر المليون شهيد والتجربة الاشتراكية تغوص في مستنقع العنف المتبادل بين الدولة والحركات العنيفة الإسلامية. وجنوب اليمن الماركسي يعود إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، وتستأصل منه إنجازات الحزب الاشتراكي، وتنتشر الأصولية فيه.
وسودان حزب الأمة والحزب الشيوعي يؤول إلى دولة يحكمها عسكريون باسم الشريعة.
إذاً إن محاور علي عبد الرزاق ما كان ليدري في تلك الفترة أن التاريخ سيعيد نفسه على نحو هزلي. وها هو الحديث الخالي من الحوار يعود مرة أخرى حول الدولة الدينية والدولة العلمانية، فانزاحت المشكلات التي أرقتنا لنصف قرن من الزمن، وراكمنا أجوبة متعددة حولها. أعني مشكلة الوحدة القومية والاستقلال الوطني وفك التبعية والاشتراكية وتحرير فلسطين...
7 - العلمانية لدى المثقف العربي الرافض للأصولية:
وعاد المثقف العربي الرافض للحركة الأصولية ليصرخ العلمانية العلمانية. لا يبتعد شعار العلمانية المرفوع الآن عن الصيغة العامة التي أشرت إليها لقد لخص الدكتور خالد منتصر دعوات العلمانيين في مصر كما يلي:
العلمانية ليست هي المقابل للدين ولكنها المقابل للكهانة. العلمانية هي التي تجعل السلطة السياسية من شأن هذا العالم والسلطة الدينية شأن من شؤون الله. العلمانية في جوهرها ليست سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين، العلمانية لا تجعل الدين أساساً للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان، هذه هي العلمانية دون زيادة أو نقصان، فهي لم ترادف في أي زمان أو مكان نفي الأديان.
إن حق المواطنة هو الأساس في الانتماء، الأساس في الحكم للدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون محاذير أو قبول. المصلحة العامة والخاصة هي أساس التشريع. نظام الحكم مدني يستمد شرعيته من الدستور لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون ويلتزم ميثاق حقوق الإنسان.
وأخيراً فإن العلمانية نظرية في المعرفة وليست نظرية في السياسة ذلك أن العلمانية محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية.
تلك هي العلمانية كما يعرضها فؤاد ذكريا ومحمد سعيد العشماوي ومحمد رضا محرم ومحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد وغالي شكري وفرج فوده(7) ومراد وهبة وحسين أحمد أمين من مصر. وهذا ما يتفق عليه معظم العلمانيين في الوطن العربي.
فهذا عزيز العظمة ينهي كتابه العلمانية من منظور مختلف بقوله:
لا استعادة لأسس الديمقراطية إلا بانفكاك الفكر والحياة عن الارتهان بالمطلق، والغيب مطلق المطلق. أي لا استعادة لأسس الديمقراطية إلا بالعلمانية(8).
ووثيقة العلمانية المقدمة للمؤتمر العام الدائم للتيار العلماني في لبنان تؤكد على استقلال السياسة والمجتمع المدني والوظيفة والقانون والمؤسسة والشخص والقيم عن الدين(9).
ويحدد جوزيف مغيزل أسس النظام العلماني بـ:
أولاً: حياد السلطة أي وقوفها موقفاً لا منحازاً تجاه المعتقدات الدينية. وهذا يعني أن ليس للدولة أن يكون لها معتقد ديني معين أو معتقد إلحادي، وهذا ما يجب أن يتضمنه الدستور وليس من حق الدولة أن تميز بين الأديان، أو تفاضل بين المؤمنين لأي دين انتموا. وليس للدولة أن تميز بين المؤمن وغير المؤمن بالوظائف، وليس للدولة أن تتدخل في شؤون الدين ولا للدين أن يتدخل في شؤون الدولة.
ثانياً: الحرية الدينية: فللفرد أن يختار الدين الذي يريد أو ألا يعتنق أي دين أو أن يغير معتقده الديني، وله حرية في التعبير عن معتقداته.
ثالثاً: حرية التعليم الديني.
ورابعاً وأخيراً للأديان أن تمتلك المؤسسات والأموال الثابتة وغير الثابتة اللازمة لنشاطها وحاجاتها.
ويخلص إلى القول: «إن العلمانية شرط من الشروط الأساسية لقيام مجتمع الوحدة ومجتمع التقدم ومجتمع الحرية والتحرر»(10).
قبل امتحان الخطاب العلماني تقدياً لا بد من طرح السؤال التالي:
ترى ما هي الشروط التي أعادت إنتاج خطاب ظن أنه أصبح في عداد الماضي الفكري. أي خطاب منتم إلى عصر النهضة العربية لا سيما أن الخطاب العلماني المعاصر لم يأت بجديد عن ذلك الذي قدمه كل من شبلي الشميل وفرح أنطون وعلي عبد الرازق وسلامة موسى ولطفي السيد وطه حسين.
د. أحمد برقاوي
من مختارات الجمل
الهوامش:
(1) انظر: بسام الهاشم، الطائفية، العلمانية في لبنان، مجلة الواقع، العدد 5 - 6، 1983، ص43.
(2) انظر: كتابنا محاولة في قراءة عصر النهضة، بيروت، 1988.
(3) شروق مبدأ الناصرية، فلسفة الثورة، الميثاق، بيان 30 مارس، بيروت بلا تاريخ، ص108.
(4) جبهة التحرير الوطني، الميثاق، الجزائر 1976، ص26.
(5) انظر: محمد عوض، أفكار ضد الرصاص، القاهرة 1972، ص142.
(6) انظر: أدب ونقد، العدد 104، ابريل 1984، لينيات الحكم في قضية حامد أبو زيد، ص80.
(7) انظر: د. خالد منتصر، العلمانية هي الحل، أدب ونقد، عدد 108 أغسطس 1992.
(8) انظر: عزيز العظمة، مرجع سابق ص339.
(9) انظر: د. عاطف علبي، من الفكر الحر إلى العلمنة، بيروت 1986، ص122 - 123 - 124 - 125.
(10) انظر: جوزيف مغيزل، الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية في كتاب القومية العربية والإسلام: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1981، ص384.
إضافة تعليق جديد