أعمال ميشال شيحا تصدر بالإنكليزية
عندما غيّب الموت ميشال شيحا في 29 كانون الأول (ديسمبر) 1954 عن 63 سنة، بدا لبنان وكأنه أصيب بجرح عميق. واللبنانيون ما زالوا يفتقدون الى اليوم الحضور اللامع لذلك الرجل المجلّي: المثقف، المفكر، الشاعر، الصحافي، السياسي، المصرفي المرموق في عالم المال والاقتصاد، والمسيحي المؤمن المفعم بنبل إنساني نادر.
ولد ميشال شيحا في بلدة بمكين في لبنان عام 1891، وكان تلميذاً باهر التحصيل والنجاح في جامعة القديس يوسف اليسوعية. أما اهتمامه المبكر بأحوال بلاده وبمسائل الشأن العام فأجبره في العام 1915 على اللجوء الى القاهرة، هرباً من الاضطهاد العثماني، ليعود الى وطنه عام 1919 بعد أن تحرر لبنان من حكم الامبراطورية العثمانية، وانتقل الى وصاية الانتداب الفرنسي، فيما انتقلت جارته فلسطين الى وصاية الانتداب البريطاني.
وسط هذه الظروف تحديداً، كان يتعين صوغ لبنان دولة مستقلة حديثة. كانت ثمة حاجة ماسة لإعادة التفكّر بلبنان في سياق تشكله الجديد، وأحسب، هنا، أن أول وأهم من انتبه، ونهض، الى هذه المهمة التاريخية الطابع، كان ميشال شيحا. هذا في الوقت الذي بدأت فلسطين تشهد مظاهر قلق وتوجس، وبداية اضطرابات آخذة بالتنامي، خصوصاً بعد صدور وعد بلفور عام 1917 الداعي الى إنشاء «وطن قومي لليهود» في فلسطين، استجابة لضغوط «المنظمة الصهيونية العالمية». وبالتزامن مع تزايد التحرك العلني للمشروع الصهيوني في فلسطين، كان على ميشال شيحا أن ينكب على مهمته اللبنانية الأساس، إنما أيضاً في مواجهة ما بدأ يجرى التداول به في أوساط لبنانية محدودة تروّج لإنشاء «وطن قومي مسيحي» في لبنان.
مذذاك استشعر شيحا الخطر الذي سيتهدد لبنان أيضاً وبالتأكيد، إذا قيّض النجاح لمشروع يسعى الى القضاء على الطابع الأساسي لفلسطين المعروفة بتنوّعها الديني المسيحي – الإسلامي – اليهودي، واستبداله بأحادية دينية عرقية. ولعله أدرك أن تحصين لبنان ضد ذلك الخطر إنما يكون بتكريس قيام الدولة فيه على أساس خصوصية لبنان، وهو الذي كان من الرواد الأوائل المتنبهين الى هذه الخصوصية.
الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، والمسيحيون منهم تحديداً، سارعوا الى رفض مشروع «الوطن القومي المسيحي» بصورة صريحة قاطعة، إذ وجدوا في ذلك تناقضاً في الجوهر مع لبنان ذاته باعتباره بيئة مجتمعية تكوّنت، بصورة تلقائية، على أساس مجموعات غير متجانسة دينياً ومذهبياً، لكنها ارتضت معاً صيغة عيش مشترك على أساس التنوع وليس الأحادية.
وكان على ميشال شيحا أن يصوغ الترجمة الملموسة لهذه الخصوصية ويثبتها في دستور الدولة اللبنانية، لا سيما حين اختير عضواً في اللجنة البرلمانية المكلّفة إعداد هذا الدستور، بعدما أصبح نائباً عن بيروت في انتخابات 1925، وهذا ما قام به فعلاً. لم يكن مجرد عضو في تلك اللجنة، بل هو من صاغ بقلمه الدستور اللبناني الصادر عام 1926، واعتبر بحق فيلسوف الصيغة اللبنانية.
في تلك الأثناء، وفي موازاة تطور لبنان السياسي وصولاً الى استقلاله التام عام 1943، كانت الأوضاع في فلسطين تنحو منحى التأزم أكثر فأكثر، خصوصاً، مع تزايد الهجرة اليهودية الى فلسطين، وتنامي حجم وعدد المستوطنات التي كانت تُزرع في أرضها. وكانت هذه التبدلات البنيوية الطابع تجرى، بالطبع، على إيقاع المشروع الصهيوني الذي كان ينجح، باسم إيجاد «حل للمسألة اليهودية»، في اجتذاب تعاطف أوساط غربية واسعة.
بدأ اليهود يطالبون بدولة لهم. وهو ما استثار طبعاً، وفي المقابل، رفض الفلسطينيين وسائر البلدان العربية. ومع تصاعد الحديث والعمل على إنشاء هذه الدولة من خلال تقسيم فلسطين، ازداد استشعار الخطر لدى ميشال شيحا على البلدين معاً: فلسطين ولبنان، فتقسيم فلسطين على أساس ديني وعرقي، سيصيب مقتلاً في فلسطين بما هي بيئة تنوّع ديني وانفتاح وتعدد ثقافي، مثلما سيتهدد لبنان أيضاً، باعتباره البيئة الأولى المتميزة بالتنوع والتعدد والانفتاح.
من هذه الزاوية، وجد ميشال شيحا نفسه مندفعاً الى تكريس السنوات العشر الأخيرة من حياته لمعالجة القضية الفلسطينية. وتجلى ذلك في النصوص التي تصدر بالإنكليزية للمرة الأولى، وترقى الى الفترة الممتدة ما بين 1944 و1954، أي منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل بأربع سنوات، والى ما بعد قيامها بست سنوات. وفيها انكبّ ميشال شيحا على استقراء الحقائق التي ينطوي عليها المشروع الصهيوني في استهدافه فلسطين، ثم على التحذير من تداعياته المدمرة التي جزم بأنها ستتجاوز جغرافية فلسطين لتزعزع أرض المعمورة بأسرها على حد تأكيده في 5 كانون الأول (ديسمبر) 1947: «قرار تقسيم فلسطين بإيجاد الدولة اليهودية من أعظم الأخطاء erreurs التي اجترحتها السياسة المعاصرة. فلسوف تستتبع هذا الأمر، وإن بدا يسيراً، أعجب العواقب. ولا نكون قد امتهنّا العقل إن قلنا إن هذه القضية الضئيلة ستعمل على زعزعة الأرض من أساسها».
ولقد أثبتت وقائع الستين سنة المنصرمة صحة ما ذهب إليه ميشال شيحا عندما أكّد بأن المشروع الصهيوني لن يعجز فقط عن حل «المسألة اليهودية»، بل سيتسبب، في الوقت عينه، بإيجاد مشكلة أخرى عالمية الأبعاد، هي القضية الفلسطينية.
منذ البداية نبّه ميشال شيحا الى «أن المغامرة اليهودية العرقية القائمة على الدين» في فلسطين، ستؤدي الى الوقوع في شر ما سّماه حرفياً «حروب الأديان التي لم تتخذ أبداً، بحسب قوله، شكلاً آخر. إنها لم تبدأ مطلقاً بكيفية مختلفة» (مقاله في 15 كانون الثاني/ يناير 1948).
أوَليس بعض جوانب ما يجرى الحديث عنه راهناً في شأن ما يُسمى صدام الحضارات المزعوم، فيما المقصود الجوهري به حروب الأديان، هو من نتاج ما غرسه غلاة التطرّف الصهيوني منذ البدايات الأولى للمأساة في فلسطين؟
لقد نفذ ميشال شيحا، برؤيته الاستشرافية الثاقبة، الى أن يتوقع ويكتب حرفياً في 15 حزيران (يونيو) 1944، أي منذ 64 سنة: «أما يخشى هؤلاء الذين يدافعون عن الماضي السحيق أن يفقدوا في هذه المغامرة أسمى مناقبهم، فيجيء الرعيل الثاني – إن تعذّر على الأول – أو الرعيل الثالث إن تقصّينا، شبيهاً بإسرائيل العتيقة الراقدة البائدة، إسرائيل القديمة المتعبة المنهكة؟».
على هذه الحقائق الإسرائيلية المفجعة التي تنبأ بها ميشال شيحا، يشهد اليوم شاهد من أهل إسرائيل بالذات. إن أبراهام بورغ، النائب العمالي الذي تولى رئاسة الكنيست من 1999 حتى 2003، وفي مقال نشره في 11 أيلول (سبتمبر) 2003 في جريدتي «الموند» الفرنسية و»واشنطن بوست» الأميركية، ينعى الصهيونية بادئاً مقاله بالحرف: «الصهيونية ماتت، والمعتدون عليها يتربعون على مقاعد الحكومة في أورشليم. الأمة الإسرائيلية لم تعد اليوم سوى ركام بشع من الفساد، والاضطهاد، والظلم. نهاية المغامرة الصهيونية باتت على أبوابنا. لقد انتهينا الى دولة من المستوطنات تديرها عصبة من الفاسدين، وبدأ العد التنازلي للمجتمع الإسرائيلي».
أبراهام بورغ، في المقال ذاته، طالب رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك (2003) آرييل شارون، بأن «يجب عليه أن يطرح عليهم الخيارات بوضوح: العنصرية اليهودية أم الديموقراطية؟ المستوطنات أم الأمل بالنسبة الى الشعبين (الإسرائيلي والفلسطيني)؟ الرؤى الكاذبة للأسلاك الشائكة أم الحدود المعترف بها دولياً لدولتين مستقلتين تتخذان من القدس عاصمة مشتركة؟».
غير أن أولي الأمر من غلاة التطرف الصهيوني ما كان لهم أن يروا هذا الرأي وللأسف. لقد تمسكوا دائماً بما سمّاه ميشال شيحا، في مكان آخر، بـ «بسط سيطرتهم الأحادية».
وحيوية فكر ميشال شيحا، بروحيته الإنسانية الصرف، حملته، بعد قيام إسرائيل، على المبادرة الى تبصّر الأسس التي يتعين أن يبنى عليها السلام مع إسرائيل، وفي هذا السياق، تراه يعلن في 1952: «نحن نعتبر وجود إسرائيل أمراً واقعاً، وليس في النية أن يُطرح الإسرائيليون في البحر». أما ريادته فتتمثل هنا باعتبار المشكلة مع إسرائيل إنما هي مسألة حدود لا مسألة وجود. ونظراً كون المشروع الصهيوني المتطرّف يرفض رسم حدود لهذه الدولة التي يعمل على توسعها باستمرار، كان إصرار ميشال شيحا على أن يُبنى الصلح مع إسرائيل على أساس حدود ثابتة، وعودة اللاجئين الى ديارهم، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، لا كيان ملحق بالأردن، وإنقاذ القدس من التهويد بتدويلها.
من زاوية لبنان، استقرأ أبعاد التراجيديا المتصاعدة في فلسطين ومنها. وهذا ما منحه – على ما أحسب – قدرة متميزة فائقة باكرة على تحليل طبيعة المشروع الصهيوني في أوج اندفاعاته التأسيسية، وعلى تحديد مكامن الخطر الكارثي الذي يعتمل داخله، متوقعاً أن يزعزع بدماره اللاحق بلدان المنطقة والعالم، إذا لم يُعمل على لجمه وإيقافه.
لبنان نفسه أغرق، بعد التقسيم، بأفواج من اللاجئين الفلسطينيين فاقت آنذاك عشرة في المئة من سكانه. وتحولت مشكلة اللاجئين في ربوعه الى مشكلة داخلية بالغة التعقيد والمخاطر الديموغرافية والأمنية والاقتيادية والمجتمعية، على تركيبته وكيانه ودولته.
وضعت إسرائيل لبنان منذ البدء هدفاً دائماً أمامها للقضاء عليه. ليس فقط بسبب أطماعها المعلنة في أرضه ومياهه، بل كذلك وأساساً لكون صيغته بالتنوع الديني تفضح أحاديتها الدينية والعرقية. فلقد اعتبرت إسرائيل – ولا تزال – أن قضاءها على لبنان بصيغته هذه، حاجة ماسة بالنسبة إليها كي تبرهن أمام العالم استحالة قيام واستمرار دولة متنوعة الأديان في هذه المنطقة.
عندما يكون ولاة الأمر في إسرائيل مولعين بالماضي السحيق الى حد الهوس، وهم من سمّاهم شيحا les tenants du passé، ويعلنون صراحة أن مشروعهم لا يكتفي أصلاً بفلسطين، فإن هذه الأصولية التي تدّعي انتسابها الى اليهودية أو النطق باسمها، إنما تشكل الأساس الممهد، والمستدرج، لأصوليات مقابلة ستدّعي بدورها الانتساب الى الإسلام أو ناطقة باسمه. هنا، تصبح جغرافية العالم بأسره مسرحاً لما سيسمى بالإرهاب، الذي «يزعزع الأرض من أساسها»، على حد توصيف ميشال شيحا الذي أشرت إليه آنفاً.
على رغم أن إسرائيل احتلت كامل أرض فلسطين، وأراضي عربية أخرى، بحروبها العدوانية، فهي قد فشلت في الإجهاز على الشعب الفلسطيني وعلى القضية الفلسطينية. كما انها لم تتمكن من إرغام العرب على الاستسلام لها والتسليم بهيمنتها على مصائر البلدان العربية.
تاريخ إسرائيل بهذا المعنى هو تاريخ رفضها المنهجي القاطع لحل سلمي عادل للصراع الفلسطيني العربي – الإسرائيلي، وإجهاضها المستمر لأي مبادرة أو خطة تطرح مدخلاً لحلول محتملة، وهذا منذ إعلان دولة إسرائيل حتى اليوم.
ففي العام 1952 تقدم صحافيان غربيان، أحدهما بريطاني والآخر أميركي، بسؤال الى رئيس دولة إسرائيل آنذاك حاييم وايزمان: كيف تتصور حلاً للقضية الفلسطينية؟ ففكر قليلاً وأجاب: «هناك قضايا لا حل لها. إنها تشيخ وتبلى شيئاً فشيئاً».
في سياق هذه السياسة الاستراتيجية، تابعت إسرائيل تنفيذ مخططها بالقضاء على منظمة «فتح» بصفتها حركة تحرر وطني علمانية. وهذا بهدف تصفية الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية معاً. أما بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987، وبروز حركة إسلامية متدينة مناوئة لـ «فتح» وهي حركة «حماس»، ظنت إسرائيل أن تغاضيها عن هذه الحركة الجديدة يخدم هدفها بالإجهاز على «فتح» وتشويه الطابع التحرري العلماني للمقاومة الفلسطينية، وصبغها بطابع ديني يضفي عليها طابع حرب دينية يشنها الإسلام على اليهودية، الأمر الذي من شأنه، في ظن إسرائيل، أن يستقطب عطف وتأييد الغرب والبلدان المسيحية، والقضاء تالياً على المقاومة الفلسطينية بما هي حركة تحرر وطني.
لكن إسرائيل خاب ظنها، بعدما تبين أن «حماس» ذاتها هي بدورها حركة تحرر وطني فلسطينية، إنما متدينة. عندها التفتت إسرائيل الى شن حرب تصفية شاملة على «حماس» وعلى الشعب الفلسطيني بأسره.
بهذه السياسة الكارثية، شرعت إسرائيل الأبواب الواسعة أمام دخول الإرهاب الأممي العدمي الى حلبة الصراع، ونموذجه الأمثل تنظيم «القاعدة». فبدل أن تتمكن إسرائيل من تحقيق خطتها بزج الشعب الفلسطيني في أتون اليأس والإحباط وإرغامه على الاستسلام، بما يجهز نهائياً على القضية الفلسطينية، إذا بها تُكره هذا الشعب بأكمله، وتدفع به دفعاً الى أن يكون فريسة ذلك الإرهاب الأممي الفالت من عقاله.
هذا التنكيل المنهجي بالشعب الفلسطيني دونما رادع يلجمه، كان من شأنه أن يستثير كذلك ويستولد حكماً في البلدان الإسلامية قاطبة، ردود الفعل السلبية والغاضبة تجاه بلدان الغرب بعامة، واعتبار هذه البلدان مسؤولة بدورها عن إسرائيل بإبادتها الشعب الفلسطيني، وهو ما بدأ يجعل هذه البلدان أرضاً خصبة لتفشي الإرهاب في ربوعها.
وبدل أن كانت رقعة الصراع وقفاً على الأرض الفلسطينية، إذا بحلبته تتوسع بفعل تفشي الإرهاب، لتصبح جغرافية العالم ببلدانه كافة مسرحاً للتدمير الإرهابي. وهكذا تكون إسرائيل تسببت بتعميم ظاهرة الإرهاب وتجذيره، ومفاقمته نوعياً، بأكثر فأكثر، ذلك أن أخطر ما في الإرهاب قدرته على أن يصبح ثقافة سائدة، ونمط حياة سائداً، وليس مجرد استراتيجية في العمل السياسي، لحزب أو لتيار معين وحسب.
فهل من حل في مواجهة هذه الوضعية المدمرة؟
الوضع الإسرائيلي عاجز عن أن يوفر، بآليات إسرائيلية ذاتية، موقفاً سلمياً أو حلاً سلمياً مقبولاً ينقذ حتى إسرائيل ذاتها من تأزمها الكياني المتفاقم الذي لم يسبق أن واجهت مثيلاً له من قبل.
فالاستقرار السياسي الذي كانت تنعم به إسرائيل على مدى 29 سنة منذ 1948 وحتى العام 1977، في ظل حكم «حزب العمل»، أخذ يهتز ويتخلخل تدريجاً. كما أن مرحلة الاستقرار الثانية التي دامت 15 سنة، في ظل حكم الليكود منذ 1977، انتهت بدورها مع سقوط حكومة اسحاق شامير. ومذذاك وقعت إسرائيل في مرحلة من الاضطراب السياسي المتواتر والمستمر، منذ عام 1995، إثر اغتيال اسحاق رابين، وحتى يومنا هذا.
كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تتمكن من إكمال سنوات ولايتها الدستورية، فلقد سقطت على التوالي حكومة شمعون بيريز، وبنيامين نتانياهو، وإيهود باراك، وحكومة شارون الأولى التي لم تصمد سوى سنتين، ثم حكومته الثانية التي لم تكمل ولايتها إثر إصابته بعارض صحي خطير، فخلفه إيهود أولمرت الذي تتعرض حكومته باستمرار لاهتزازات سياسية كبرى.
في هذه الفترة الممتدة طوال 12 سنة، شهدت إسرائيل أربعة انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما يدل الى حال من اللاإستقرار العضوي.
ظاهرة اللاإستقرار السياسي هذه إنما تُرد في جزء أساسي منها الى تداعيات النظام الانتخابي الإسرائيلي المبني على التمثيل النسبي المطلق، الذي يسمح بتمثيل مجموعات صغيرة جداً في الكنيست، من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، بما يحول دون تكوين أكثرية متجانسة ثابتة يمكنها أن تحكم إسرائيل وأن تتخذ القرارات في المسائل المصيرية، لا سيما في شأن عملية السلام.
أما بالنسبة الى الولايات المتحدة الأميركية، فأثبتت الوقائع أن نفوذ اللوبي الصهيوني يتسبب الى حد بعيد بتعطيل أي دور بنّاء لهذه الدولة الكبرى.
ولنتذكر أن معظم الرؤساء الأميركيين الذين مالوا في ولايتهم الأولى الى بذل الجهود لمعالجة قضايا الصراع العربي – الإسرائيلي، إنما كان يحاربهم اللوبي الصهيوني، فالرئيس نيكسون لم يكمل ولايته الثانية، بعد أن أوقع في فخ «ووترغيت». والرئيس كارتر فشل في النجاح لولاية ثانية، كما هي حال الرئيس بوش الأب بعد دعمه مؤتمر مدريد في 1991. أما الرئيسان كلينتون وبوش الابن فلم يبد أي منهما اهتماماً جدياً بإيجاد حل للقضية الفلسطينية إلا من خلال السنة الرابعة من الولاية الثانية لكل منهما. وهو ما لا يؤدي بالتأكيد الى نتيجة ملموسة.
أما العرب، من جهتهم، فقد قدموا الحل. فللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، تعلن الدول العربية جميعها من دون استثناء، في قمة بيروت 2002 ثم في قمة الرياض 2007، استعدادها التام للاعتراف بإسرائيل، وللتعايش الآمن معها وفق سلام دائم عادل شامل تنعم به جميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل ذاتها، إنما على أساس قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة بعاصمتها القدس العربية، وبانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة، وحل مأساة اللاجئين الفلسطينيين بعودتهم الى الدولة الفلسطينية العتيدة.
لقد احتفلت الأمم المتحدة منذ سنوات قليلة بدخول عضو جديد الى جمعيتها العامة وهي Nauru التي لا تتجاوز مساحتها 21 كلم2 فقط لا غير، ولا يتجاوز عدد سكانها 7000 نسمة.
أما الشعب الفلسطيني العريق، والذي يفوق عدده تسعة ملايين في الضفة وقطاع غزة ومخيمات الأردن ولبنان وسورية والدول العربية الأخرى، فمحروم من أرض ودولة وهوية. أي انه غير موجود عملياً، ويفتقر الى وضع قانوني طبيعي. فكيف يوفّق الغرب، بدوله الكبرى صاحبة القرار بخاصة، وبأوساطه ونخبه ومواطنيه كافة، بين قيم الحرية والديموقراطية والعدالة والشرعية الدولية، وبين السكوت المريب عن هذا الظلم المروّع، عن قتل شعب وإعدامه وشطبه من الوجود؟
إزاء قساوة الظروف الراهنة وما تظهره من انسداد أفق أمام أي حل للقضية الفلسطينية، يرتدي صدور كتاب ميشال شيحا باللغة الإنكليزية أهمية استثنائية. ذلك أن الرؤية الاستشرافية التي تميزت بها كتاباته قبل 65 سنة عن فلسطين، إنما ترتسم اليوم بكل وقائعها الكارثية. غير أن الطابع الاستثنائي لهذا الكتاب إنما يتجلى كذلك بصدوره في مهد الديموقراطية الأول، المملكة المتحدة.
ولا يعقل أبداً، من جهة أخرى، أن تُشوه قيم اليهودية من قبل من يدعي ممارسة الاضطهاد باسمها، هي التي عانى شعبها أصلاً من الاضطهاد والتنكيل على مدى التاريخ.
واسمحوا لي أن أستذكر هنا أحد الحاخاميين أيام تعرِّض اليهود للاضطهاد في بولندا وروسيا في القرن السابع عشر، عندما قال: «اللهم ليكن مصيري مصير المضطهَدين (بفتح الهاء) وليسوا المضطهدين».
ولا بد لي من أن أنوّه بالتمهيد اللافت الذي وضعه للكتاب بطبعته الإنكليزية الكاتب كريستوفر دويل وكذلك بالمقدمة العميقة والشاملة التي وضعها البروفسور سمير خلف وأن أتوجه بتحية التقدير والشكر لـ « Fondation Michel Chiha» ولـ «Centre for Lebanese Studies» وناشر الكتاب «Stacey International» الذين بادروا الى عقد هذا اللقاء الذي اعتبره إسهاماً جدياً بتعزيز المناخات الملائمة للتوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية ينقذ شعوب المنطقة ودولها كافة بما فيها إسرائيل من دوامة الحروب والدمار.
وزير لبناني سابق. والنص كلمة ألقاها في «نادي المراسلين الأجانب» في لندن لمناسبة صدور كتاب بالإنكليزية يتضمن فصولاً من كتابات ميشال شيحا.
ميشال إده
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد