حرب المقدسات

29-03-2006

حرب المقدسات

بعد أن عمّ الاحتجاج العالم الإسلامي في كل أنحاء المعمورة تعقيباً على الصور الكاريكاتورية، يتساءل المرء إذا كانت الأمور ستتوقف عند هذا الحد وتنتهي أم انها بداية لمواجهة صدامية بين ثقافتين أو معتقدين يشد كل واحد منهما العالم في اتجاه مغاير. فما بدا في الصور الكاريكاتورية ليس إلاّ محاولة استفزازية لردات الفعل وكيفية معالجتها. فالإساءة في المفهوم الغربي تدخل في سياق ما هو متبادل وشائع بأن حرية الرأي أصبحت فردية لا تتقيد بمفهوم الحرية العامة التي تفرض على كل كاتب أو صحافي أن يتقيد بما يسمى بخلقية المهنة Ethique professionnel، فلا يحاول استعمال حريته للإساءة إلى مشاعر الآخرين والمس بكرامتهم، وإذا حصل ذلك فيجب أن لا تقتصر ردات الفعل عندنا على الاحتجاجات والمظاهرات لأن الرسالة أبعد مما وصل إلينا، فهي موجهة إلى المفكرين والفلاسفة والفقهاء في العالم الإسلامي أجمع لكي يتهيأوا لمواجهة خطر داهم وهو: كيف يمكن للإسلام أن يواجه المجتمع الغربي وبما أفرزه <<ما بعد الحداثة>> فنحن لا نستطيع أن نلغي الغرب ونصنفه بالكفر ونحن مرتهنون به في آن واحد بكل ما يؤمن رفاهيتنا ومواجهة أزمات الحياة، ولا يمكن للغرب أن يصنفنا بالتخلف فقط ونحن نملك رسالة روحية تعطي بعداً إنسانياً لقيم أصبح الغرب بأشد الحاجة لها، لا سيما أن إلغاء الآخر يصيب الديموقراطية الغربية في أسس بنائها ويضعها في تناقضات فكرية لا تتحمل عواقبها. كلنا يعلم أن الإسلام يمر بتجربة فريدة لم يحصل أن مرّ بها في السابق منذ ظهور الخطاب العلمي في أوائل القرن السادس عشر.
والتاريخ يشهد بأن الكنيسة هي أو ل من اصطدم بهذا الخطاب عن طريق كوبرنيك وغاليلي قبل أن يصل بنا إلى المكتشفات الحديثة الجينية والميكربيولوجية وغيرها لتعطينا فكرة مغايرة لتطور ونشوء الإنسان عمّا كان سائداً حتى الآن.
تاريخ الأديان يحمل في طياته إضافة إلى الدعوة والإيمان بالخلق وتنظيم علاقات البشر في ما بينهم، الكثير من الأساطير والخرافات التي كانت سائدة كحقيقة ثابتة يعتمد عليها المعتقد والإيمان كدلائل حثية، فأضفى عليها صفة القداسة لكي يحميها من نقد العقل إذا ما طالها بالتشكيك. وخير دليل على ذلك هو بداية المواجهة الأولى بين الدين المسيحي وبزوغ الفكر العلمي في بداية القرن السابع عشر.
كان الاعتقاد السائد في الأوساط المسيحية أن الأرض هي وسط العالم وأن الأرض مسطحة وفي آخر الأفق حيث تغرب الشمس تكمن جهنم بكل ما فيها من حساب وعقاب وتعذيب. عند محاكمة غاليلي 1622 سأله أحد القضاة: الكنيسة تقول إن الأرض مسطحة وهي في وسط العالم، فهل أنت تقول غير ذلك. غاليلي كان يعرف أن الإجابة المباشرة قد تقضي على حياته حرقاً، وهو في مأزق: إن قال إن الأرض تدور حول نفسها وان الصورة المسطحة التي تبدو للناظر ما هي إلاّ خدعة للناظر على اعتبار أن أحاسيسنا التي تعرفنا عن العالم غير مكتملة وتعرضنا لكثير من الأغلاط التي نبني عليها نظريات، فيكون بذلك قد هدد أركان الكنيسة وخطأها في وقت تضفي عليها القدسية وتضفي على البابا العصمة.
وإن تجاوب معها ووافق على ما تقول يكون قد تخلى عن صفته العلمية وتنكر لحقيقة علمية لا تقبل الشك.
وأخيراً نعرف النهاية بعد أن تدخل البابا نفسه الذي طلب منه إنكار وثيقته العلمية والالتزام بما تقول الكنيسة فقط. وهذا ما فعل رغم تأكيده همساً: في الوقت الذي أسجل فيه إمضائي تستمر الأرض في الدوران حول نفسها.
وإنصافاً للحق ارتأى البابا جون بول السادس (أي بعد خمسة قرون) إعادة الاعتبار إلى غاليلي بأنه كان محقاً ومسيحياً مؤمناً وقد ظلم عن جهالة.
العلم والدين
روسيل في كتابه <<العلم والدين>> في بداية القرن الماضي بيّن أن التناقض بين العلم والدين يعود إلى جهل ما كان يروى عن حقائق موروثة خرافية وأسطورية اعتمدت كمبدأ لبناء أسس الاعتقاد والإيمان، وأصبح إذا أتى العلم باكتشافات لا تقبل الشك وبدد هذه الأساطير والخرافات شعر الدين بأنه مهدد بالخطر لأنه بنى بعض قواعده عليها.
هذا ما حدا بديكارت إلى قوله المأثور في أواسط القرن السابع عشر <<أنا أفكر إذاً أنا موجود>>، كان لهذا القول أثره البعيد في بناء الخطاب العلمي. هذه الجملة هي نتيجة مخاض وتفكير عميق: نقله من الشك إلى اليقين. والفكرة هذه أتت في الأساس امتداداً لفكر إيماني عندما تناوبه الشك ما بين إله الحق والإله المضلل، على اعتبار أن الإنسان ساحة صراع مستمر ما بين الخير والشر. ولا يستطيع أن يبني وجوده الحقيقي على الإيمان فقط إذا اعتوره الشك بأن يكون ذلك نتيجة تضليل من إله الشر. فبعد هذا المخاض العسير توصل إلى القول: بأن اليقين يكمن بالعقل وخير دليل على الوجود وإثباته هو الفكر. أي إنه بهذه الكوجيتو لم يكتفِ بفصل الوجود عن الخالق بل حصر ذلك في التفكير أو نتيجة له، على اعتبار أن صحة هذا الاختبار يجعله في مكان ثابت بأن يكتشف وجود الله دون التباس، وهي كما تبين نظرية تدعو إلى المثالية.
نتيجة هذه الفكرة انطلق العلم من الذات المفكرة كدليل ثابت على الوجود، فأصلاً بذلك كل ارتباط سابق بين هذا الوجود والخلق. أي أنه قلب المعادلة خلق وجود إلى اكتشاف هذا الوجود عن طريق العقل قبل أي تدخل ما ورائي لكي ينطلق في ما بعد إلى اكتشاف الله الواحد.
وقد أدى هذا التفكير إلى زيادة الإنتاج العلمي، لأنه حسب المعادلة؛ كلما زاد تفكيري عن طريق الإنتاج كلما ازداد شعوري بالوجود.
المعروف أن الكنيسة الكاثوليكية قد عانت الأمرّين من هذا المنحى العلمي، وبعدما حاولت جاهدة مكافحة هذا الخطاب العلمي تراجعت وانكفأت على نفسها لكي تعيد النظر بكل معتقداتها، لا سيما بعدما اتهمت في إبان الثورة الفرنسية بتعاطفها مع الطبقة الأرستقراطية وانتهت في آخر المطاف بعدما فصلت الدين عن الدولة في بداية القرون الوسطى إلى فصل الدين عن العلم، وتركت هذا الأخير يأخذ طريقه دون الاعتماد عليها لا سيما أن حقيقته نسبية.
السؤال هنا الذي يستخلص من هذه الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لأقدس الخلق، هل إن الإسلام سيتعرض باستمرار إلى الأذى من قبل خطاب حداثي لا يعرف الحدود؟ وهل يمكن أن يتعامل مع الإسلام بغير ما تعامل مع المسيحية ومع اليهودية (قبل بناء الدولة الصهيونية)؟ المثقفون يعرفون أن الأنبياء ابتداءً من المسيح وموسى وداوود قد تعرضوا لأشد الانتقادات والإساءات إلى درجة التشكيك بوجودهم. الكنيسة لم تأبه لذلك لأنها كانت تركز على بنيتها المقدسة ورسالتها الإنسانية. كذلك اليهودية، كانت دائماً تحتمي في أشد الأزمات والاضطهادات تحت غطاء <<الشعب المختار>>، فكل ما يمكن أن يصيبها ناجم باستمرار إما عن غضب الله أو عن رضائه، وبقيت الطقوس الدينية رغم كل قسوتها على علاقة مع الله وحده، لا ترضخ لأي مساءلة عقلانية أو منطقية. وأخذت اليهودية في النهاية منحى الكنيسة ففصلت الدين عن العقل فتحرر علماؤها وانطلقوا في مشاركة العلماء المسيحيين في الاكتشافات العلمية؛ وهذا ما حدا بكبار المفكرين إلى تسمية الحضارة الحديثة ب<<الحضارة المسيحية اليهودية>>، وهي كناية عن وجه حديث للديانة المسيحية، تبناه الغرب بكل ما فيه من قيم إنسانية وحرية فردية وديموقراطية أصبحت على مد القرن العشرين بمثابة تبشير وتدعو الشعوب الأخرى للدخول إليها. والخطاب العلمي هو البرهان الإعجازي لا يقل قيمة عن المعجزات الأنبياء السابقين، مع الفرق أنها قابلة للتنفيذ والبرهان لكل من تمتع بالصفات العلمية.
فصل الدين عن الدولة
فصل الدين عن العلم كان بمثابة نقلة محورية أو أشبه بعملية جراحية، شارك فيها العديد من الفلاسفة انطلاقاً من ديكارت الذي قال عنه هيغل أنه أول من وضع أسس فلسفة الذات. فتحررت هذه الأخيرة من الخطاب الديني، فتح لها المجال كي تخوض كل المجالات العلمية من دون إحراج أو روابط لاهوتية وكان من نتيجة هذه الانطلاقة أن ظهر الخطاب العلمي غير آبه بما يقول الخطاب الديني.
والقرن التاسع عشر كان شاهداً على بزوغ كل الأفكار العلمية التي رأينا ترجمتها العملية في القرن العشرين وما زالت حتى الآن.
والخطاب العلمي مبني على التجربة وهو مثالي كعلم الرياضيات، يخوض انطلاقاً من معرفة القوانين الطبيعية إلى كشف اختراعات قد تتعدى الحدود الطبيعية مما يجعل هذه الأخيرة ترتد على العلماء والعالم بمزيد من الكوارث الطبيعية. والفكرة الأساسية للخطاب العلمي لا تناقض الدين في نظر العلماء وحتى ديكارت على اعتبار أن هذا العالم مكون من المعرفة الإلهية وكلما ازداد الباحث معرفة كلما شعر بقربه من الخالق. كثير من العلماء اهتدوا إلى اكتشاف الخالق والإيمان به عن غير طريق التبشير وعلى رأسهم اينشتاين الذي اعتبر أن الله هو قمة الذكاء وهو إله الفيزياء.
المرحلة الثانية في تطور الفكر الحديث هو فصل الدين عن الدولة على اعتبار أنه لا إنسان مقدس ولا معصوم عن الخطأ، فإذا كان ذلك جائز في الأمور الدينية فلا يمكن أن يشمل الأمور الدنيوية، فبقيت العصمة في حوزة البابا وانتقلت السلطة إلى مسؤولية أفراد الشعب عبر انتخاب من يحكمهم، لا سيما أن تشعب علوم الحياة من اقتصاد واجتماع واستراتيجيا وأبحاث علمية وغيرها لا يمكن أن يلم بها إنسان واحد مهما بلغت قدرته على الفهم والاستيعاب. فأتى فصل الدين عن الدولة في إبان الثورة الفرنسية ولكنه لم يتحقق فعلياً بصفته العلمانية إلاّ سنة 1902 في فرنسا.
يبقى السؤال الذي طرح في البداية عن المس بالمقدسات، هل يمكن الاتقاء من الخطاب العلمي أم إن الدين الإسلامي بمفهومه العام سيمر حتماً بالتجربة التي عرفها ما سبقه من الأديان التوحيدية؟
الكثيرون يرفضون الفكر الغربي المتميز بماديته، لكن المأزق يكمن في السؤال التالي: كيف يمكن رفض هذا الفكر ونحن في آن واحد مرتهنون له في رفاهيتنا. فكل الاكتشافات العلمية والتكنولوجية هي من نتاج هذا الفكر.
البلاد النامية لم تأخذ من الغرب إلاّ الحلقة الأخيرة من نتاجه الفكري وبقيت صامتة تجاه الفكر الذي كان مصدراً لها. وهكذا كان حال اليابان والصين الآن، وهذا ما يبشر بأزمة وجودية لا تزال آفاقها غامضة.
طيلة القرون التي تطور بها الفكر الغربي بقي الإسلام في حمى من مساءلتها بسبب حاجزين اعتمدهما لحماية معتقداته:
الأول جغرافي: بعد خروج العرب من اسبانيا سنة 1492، كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها فدارت معارك طاحنة طيلة القرن السادس عشر على شواطئ البحر المتوسط بقيادة الأخوين عروج بربروس، انتهت في انتصار مؤقت لخير الدين بربروس وتدمير الأسطول الإسباني على شواطئ المغرب. وبعد أخذ وردّ جمّع الأوروبيون قواتهم البحرية ونشبت معركة في 7 تشرين الأول سنة1571 في خليج لينانتو بين العثمانيين دول الكاثوليك الإيطاليين الإسبان والمالطيين وغيرهم بقيادة دون خوان النمساوي، وتعتبر هذه المعركة بنظر المؤرخين من أهم المعارك البحرية التي شهدها الأخير من حيث عدد المراكب والضحايا.
انتهت المعركة بانتصار الدول الكاثوليكية وخسارة العثمانيين لمعظم الأسطول الذي كان يسيطر على البحر المتوسط.
وبعد مدّ وجزر وإعادة احتلال الشاطئ الجنوبي وخسارة الإسبان لشمالي إفريقيا بقيادة خوان النمساوي نفسه، وبعد أن أنهك القتال كلا الجانبين على شواطئ المتوسط ولانشغالات أخرى، قرر <<فيليب الثاني>> عقد هدنة مع الباب العالي سنة 1581 كرست بموجبها البحر المتوسط حدوداً طبيعية بين المسيحية والإسلام وبالمقابل إقلاع السلطان العثماني نهائياً عن حلم <<تحرير اسبانيا وإسقاط عرش روما>>. أضف إلى ذلك ابتداع خط مرور عبر الرجاء الصالح من قبل غارسو دي غاما لعزل البلاد الإسلامية عن المكاسب الاقتصادية.
كل ذلك أدى إلى خلق حواجز جغرافية حدّت من اتقاء الشعوب في ما بينها ومن الاحتكاك الثقافي إلى درجة عندما تقدمت أوروبا في تطورها الحضاري وهبت رياح الثورة الفرنسية لم يسمع بها أحد ممن كان يعيش في الشرق العربي والإسلامي، فكان من نتيجتها أنه بفضل هذه الحواجز الجغرافية بقي المسلمون في جهل عما يحصل من تقدم وعلوم في الغرب. فعلى سبيل المثال منع العثمانيون ترجمة الكتب الفلسفية التي كانت سبباً لهذه الثورة. كذلك فشل نابوليون في حملته سنة 1801 لأن الخطاب العلمي الذي أراد التبشير به في الشرق الإسلامي باء بالفشل لكونه غريباً عن المعتقد السائد واعتبر انتهاكاً لحرمة المقدسات بما كان يحمل من أفكار رغم كونها علمية فبدت غريبة عن الطقوس والعادات السائدة. فرفضت هي والحملة العسكرية معاً. وهكذا بقي الإسلام محمياً وبعيداً عن مساءلة منطق الفكر الغربي.
خط الدفاع الثاني: وهو فقهي وموروث في آن واحد. كل دين كما نعرف يحمل في طياته العديد من الأساطير والخرافات التي كانت سائدة في عصور غابرة. فلذلك همّت الأجيال الملتزمة دينياً أن تحافظ عليها رغم تقلب الغزاة والمحتلين؛ فأتى الإفتاء <<بالتقية>> كي تحفظ العقيدة من شر الاعتداء. وإلى جانب ذلك يجب حماية العقيدة والمعتقدات من المساءلة الفكرية التي إن دخلها العقل يصبح من الممكن أن يزعزع الإيمان ويدخل الشك بدلاً من اليقين. هنالك مقدسات لكل دين يتوجب احترامها ولكن عندما يحصل أن معتقداً لا يحتمل المساءلة فتضفي عليه عندئذ صفة القداسة لتقطع الطريق على كل من تسول له نفسه من أن يُدخل العقل إليه. وكل من تطاول أمثال ابن رشد وغيره من المفكرين العرب، كانت تطاله اللعنة والتكفير وحق به الحد وهذا ما يشار إليه بأمثال عديدة في التاريخ العربي والإسلامي.
الغاية من هذا الاستطراد هو الآتي: كيف يمكن أن نحمي إسلامنا من تطفل الغرب بعد:
أولاً: ان تبددت خطوط الدفاع الجغرافية بفضل اختلاط البشر في ما بينهم والاحتكاك الملزم التجاري والثقافي والديني، لا سيما بعد أن أصبح في كل بلد غربي جالية إسلامية همها الأساسي الحفاظ على هويتها وانتزاع اعتراف الآخر بها.
فالمشاهدة والمقارنة والمساءلة أصبحا أمراً لا يمكن الالتفاف عليه.
ثانياً: نتيجة هذا الاحتكاك لا سيما بعد ظهور موجة الإرهاب والسياسة القمعية للشعوب المستضعفة دخل الفكر الغربي مخترقاً كل حدود المقدسات لكي يتساءل ويساءل كل ما كان محرماً على أي مسلم. فما هو مقدس عندنا لا قدسية له عندهم والعكس صحيح. وما الإساءة الأخيرة إلى النبي الأعظم، ما هي إلاّ طفرة من غيث والآتي أعظم لأن الإسلام يمر بتجربة لم يعهدها في تاريخه. فهو يواجه هجمة فكرية لا مفر منها وعليه أن يدافع ليس فقط كما يختزل البعض بالمواجهة العسكرية، علماً أن هذه الأسلحة نفسها هي من صنع الغرب ولكن بأدوات فكرية مستنيرة تستطيع أن تظهر للعالم جوهر الإسلام عبر القيم الفكرية المقنعة وليس اللجوء إلى التقوقع الذاتي والعودة إلى السلفية التكفيرية.


تداعت هيئات ثقافية في العالم الى اعتبار 20 آذار يوماً للكذب السياسي. و20 آذار، إذا لم نكن نسينا، هو يوم الاحتلال الاميركي للعراق. عشرات الأندية وبيوت الثقافة قرأت شذرات من نص للشاعر الاميركي أليوت فاينبرغر بعنوان <<ماذا سمعت عن العراق>>، شاركت <<جمعة>> <<جدل>> البيروتية في القراءة. نص أليوت الذي لم يُنشر بعد، يستعرض الكذب السياسي للادارة الاميركية عبر ثلاث سنوات هي عمر احتلال العراق. أما الكذبة السياسية فتكون احياناً صنيعة صاحبها الذي سرعان ما يرجع على كلامه فيكذّبه نفسه بنفسه او تكذبه الحقائق والوقائع. وفي الموضوع العراقي متسع لذلك، فقد كذب باول وبوش ورامسفيلد ورايس أنفسهم مراراً، وحين لم يكذّبوا أنفسهم كذّبهم الواقع العراقي. الكذبة السياسية الاميركية ليست فقط في التفاصيل العراقية. إذا قالت الادارة الاميركية الشيء وعكسه في عدد بالغ من الامور، فإنه من الواضح ان الواقع ليس أقل تكذيباً لسياستها. يسوق أليوت فاينبرغر، المتابع، عدداً هائلاً من الأكاذيب، ونصه قد يكون <<البوماً>> لهذه الأكاذيب، غير ان الكذب الايديولوجي والثقافي ليس أقل وطأة. الأرجح ان حرب العراق كانت مرجعاً لهذا الكذب ايضا. تريد الولايات المتحدة ان تكون معلّم الكون والمقاتلة العالمية ضد الاستبداد والإرهاب. ترتجل نفسها هكذا ولا يعنيها ان تتذكر على الاقل رعايتها العالمية للاستبداد وللإرهاب حين كان موجها ضد الخصم السوفياتي. لقد رعت الولايات المتحدة، عقوداً طويلة، كلَّ ما يمكن اعتباره ظلامياً ومستبداً وإرهاباً. لا يمكن للمحافظين الجدد ان يبدأوا الولايات المتحدة ولا تاريخَها في المنطقة. ثم ان اميركا المحافظين الجدد نفسها لا تزال في المنطقة تدعم انظمة ليست سوى اغتصابا مستديما للسلطة والثروات الوطنية وحكومات قائمة على الاستبداد، ودولا ظلامية بكل معنى الكلمة، تفاجئنا اميركا المحافظين الجدد باستعارة الكذبة السوفياتية، بل باستعارة عدد من أكاذيب الخصم الميت الذي لا يطالب احد بإرثه، بما في ذلك الدول التي لا تزال تتخبط في نموذجه. الدولة المعلّمة قد تكون النموذج السوفياتي نفسه الذي كان بعض علمه يتم بالدبابات، وكان علمه العالمي يقتضي ان يفرض علَمه واسماء قادته ولغته على شوارع الدول <<المحررة>> ومدنها. الامبراطورية الاميركية المعلّمة، رغم نموذجها الخليط التعددي، لا تزال تتكلم على نمط عيشها والمقومات الثابتة لوجودها، ولا يزال علمها ووطنيتها هما الاساس، ولا تزال مصالحها المفترضة في البيئة وحقوق الانسان والعلاقات بالجنوب هي ركيزة سياستها. تكذب الراعية العالمية على الدولة الوطنية، وتكذب الدولة الوطنية على الامبراطورية الكونية. انها كذبة على كذبة.
الدول الايديولوجية تتشابه. تشابهت النازية والستالينية في نموذجيهما رغم التفاوت. ورغم التفاوت ايضا تتشابه البعثية والستالينية، لا نريد ان ندمغ ولايات المحافظين الجدد المتحدة بشيء كهذا، ففيه من التسرع ما لا تحمد عقباه، لكننا حين نسمع بمحور الشر والضربة الوقائية لا نفكر فقط بستالين وهتلر، بل قد نفكر ايضا بابن لادن. هذا الكلام يدل على ان الكذبة الايديولوجية ليست واسعة المخيلة. إنها، سهواً ام من دون سهو، تستعير الحرف نفسه والصور نفسها. فسطاط بن لادن والرأسمالية العالمية صنوان لمحور الشر. اما الضربة الوقائية فهي بنت <<العدو الموضوعي>>، نظرية الستالينية والماوية بامتياز. اضرب من يملك استعداداً للعداوة قبل ان يغدو عدوا. تبعا لنظرية كهذه سحق ستالين ملايين، بعضهم من الشيوعيين المخلصين ومن قادة الشيوعية السوفياتية والعالمية. فهؤلاء في تحليل ستالين والستالينية كانوا يحملون بذرة الانقلاب، ولا بد من استباق نضجها بضربة وقائية. شعوب بكاملها راحت ثمن هذه الكذبة، بينما سحقت الثورة الثقافية الماوية ملايين الناس استباقا للاستعداد نفسه.
انها الكذبة نفسها تتكرر هنا وهناك، وقد تتكرر بصيغ اصرح عند الخمير الحمر وابي نضال واوجلان. الكذبة الايديولوجية قليلة الخيال، وقد يؤدي ذلك الى مقارنات ومفارقات كارثية. زلة اللسان الايديولوجية تكلف كثيراً.
ثم هناك من الكذب الايديولوجي المتواتر شكوى القوي من الضعيف، وتمثّله في دور المضطهَد المطارَد، وافتراضه حربا دائمة ودفاعية، ضد هذا الخصم الانطولوجي الذي يوجد كحاجة وكمكمل وكفرضية دائمة. لا شك في ان العالم الافتراضي ينبع من مخيلة كهذه. فقبل الانترنت والسينما والوهم البصري، كانت هناك نظرية الطابور الخامس، والثورة المضادة، واعداء الداخل. هذه نظريات تفترض اختراع العدو وتضخيمه. إن مزيداً من الرقابة والقسوة يفترض دائما مزيداً من التهديد الذي يوحد بشكل نظري اولا. هذا الخصم الافتراضي لا ينبع من ميزان قوى واضح ولا من تهديد واقعي، الإرهاب بالتأكيد يعزز هذه النظرية. ان بوسع خلية واحدة ان تغلق أمة وان تفرض عليها حرباً حقيقية. لكن الكذب الايديولوجي له نصيب في ذلك. تحويل الخلية الى هجاس دائم، وتحويل الخصم الى حضور انطولوجي، هما ما تلعبه انظمة الاستبداد وما تلعبه السياسة الاميركية. هذا ما يؤدي الى مقارنات كارثية، كما قلت. لكن هذا ايضا ما يبدو مسؤولاً نظرياً عن تحويل الخصم الافتراضي الى خصم فعلي. لا يولد الاعداء من فرضية بالطبع، لكن العدو احياناً قد يجد فرضية جاهزة. فرضية العدو لا تبقى طويلاً كذبة. انها بطريقة ما تستدرج عدوا حقيقيا. سيكون هذا منهكا، ان تنقلب الكذبة الى حقيقة، والفرضية الى واقع.
الامبراطورية تكافح هنا وهناك نيرانا تمنعها من استجماع قوتها؛ نيرانا تشتعل لا من نفسها بالطبع، ولكن من استحالة اكتمال الامبراطورية. ثمة خروق لا بد منها في النسيج الامبراطوري. ثمة عفاريت تولد من الحلم الامبراطوري. لا نستطيع ان نحمّل الولايات المتحدة مسؤولية الإرهاب العالمي الذي هي هدفه الضمني او المعلن او الموارب، مع اننا نشعر بأن النظام الامبراطوري لا يستقيم من دون قدر هائل من القذارات المنهكة. ثمة هذا الطابق السفلي للنظام الامبراطوري، الذي إذا لم يكن <<دول موز>>، فهو قد يكون طريقا حريريا للمخدرات وإرهاباً دولياً، او قد يكون هذا كله في وقت واحد.
نص أليوت فاينبرغر عن العراق يطربنا بالطبع. بساطته مشوقة لكنها ايضا مقلقة. في <<حرب النجوم>> الارضية يفكر اوروبيون واميركيون (اليوت اميركي)، في ان هناك مفتاحاً وحيداً للكوكب، وان ثمة صراعاً واحداً كونيا يمكننا بعده ان نفكر بالمجرة كلها. هذا مناسب بالطبع لشعوب ودول موجودة على سوية واحدة، بالمعنى السياسي والثقافي والانتاجي للكلمة، وتستطيع لذلك ان تفكر بإصلاح الكوكب مرة واحدة. أما في تلافيف العالم ومقالبه الخفية حيث لا يزال العالم الحاضر معقوداً ومجهولا وحيث لا نصاب لأي شيء ولا قيام للسياسة والثقافة، والانتاج الاعلى نحو عشوائي فاقد الوجهة وفاقد الشكل، فتكون السلطة مافيا عائلية مثلا، والسياسة نفاقا ملكيا، والثقافة عصبيات متعالية. اقول مثلا لأن التحديد في هذا مستحيل. في تلافيف العالم هذه ثمة هاويات خاصة وماكينات هائلة للعنف والنهب، وغصب على كل المستويات. ثمة حروب خاصة، وليست صغيرة، لا بد منها للاقتراب من القاع والحلم بالوجود على سويته.
ما لا يفهمه يساريون اميركيون واوروبيون يهيننا احيانا. ثمة لامبالاة او تناس لبؤسنا الفظيع. يقال لنا ان همومكم صغيرة امام الهم العالمي. اصبروا على بؤسكم وعلى مستبديكم، بل ساعدوهم اذا كانوا مكروهين من الولايات المتحدة. خطاب كهذا يجعل من صدام حسين بطلا معاديا للامبريالية، ويحول انظمة مافيات الى مثالات وطنية. لقد انتهى هوس العالم الثالث. لا بأس. لكن سطحية جديدة قائمة اليوم، وهي ايضا تهيننا حين تمزج الشعب بحكوماته، وتدمج بين شعب بائس ومافيات حاكمة.
كذبت اميركا وتكذب. لكن بقاء صدام حسين كان الكذبة الافظع. كان كذبة على التاريخ والكون، والكذبة الأكبر ستكون دعوة العراقيين الى الدفاع عن مفرمة الرؤوس هذه ضد اي كان. لكن الكذب الاميركي يعقب حماقاتٍ دمويةً. هؤلاء الذين يكتفون ببلادهم ولا يملكون حتى جوازات سفر، يريدون ان ينفردوا بتعليم العراقيين والرسم لهم بدون استشارتهم. حتى حلفاؤهم (الموضوعيون) مذهولون من التوائهم الى الحد الذي يشكون فيه من انهم يلعبون سياسة خصومهم. تصل الغرابة حتى الشك في انهم يديرون حرباً ضد أنفسهم، ثم انهم لا يفعلون سوى تكذيب انفسهم. المثال الديموقراطي لا يكذبه شيء اكثر من ابي غريب وغوانتانامو. بل انهم في احيان يكذّبون امبراطوريتهم ايضا. فحرب بهذا الطول وهذا العنف، سخرية من الامبراطورية بالطبع. إذا كان في وسع قطّاع الطرق ان يُربكوها، فماذا تكون.
مع ذلك، فإنه من المضحك ان نلعب بكليشيه الاحتلال كي نكذب نحن على أنفسنا، ونخفي الحرب الاهلية بكليشيه الاحتلال. أليست في هذا سخرية من القتلى والشهداء والمصابين. ثم هذا الكذب على الأسماء. المقاومة نسميها كذلك ولا نجد سوى حرب اهلية. نعلم انها/انهم بعثيون يقاتلون لاستعادة نظام الأنفال والمقابر الجماعية، واصوليون يقاتلون لابادة الشيعة. أليس بهذا الاسم نهين الابرياء الذين يسقطون كل يوم.
أما عن كذبنا السياسي أتكلم عن لبنان فإن سياسة لم تجد بعد واقعا تتكلم في الهواء، تكذب من دون ان تكذب، وتهذر من دون ان تهذر. انها كلام بكلام. شيء قبل التجربة. لنقل انها في الغالب كلام على عواهنه. سجلّ الكذب هنا كبير، ومن يكتب <<ماذا سمعت عن لبنان>> سيجد بحرا. لكن افضل ان اسمي نكاتا هنا. من هذه النكات <<الغرباء والسوريون قاموا بالتخريب في الاشرفية>>، <<لا يريدونني رئيساً بسبب انشغالهم بمصالحهم الخاصة>>، <<سلاحنا ضمانة للتنمية والسلم الأهلي>>.

 

عدنان حب الله
عن السفير

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...