دور الرحلة في أبحاث المسعودي الحضارية
كان المسعودي أبو حسن (345ﻫ - 965م) مفكراً موسوعياً، متعدد الاهتمامات الثقافية، اشتهر كمؤرخ وجغرافي على السواء، وهو أبرز كتّاب القرن الرابع الهجري، جمع في شخصيته بين مزايا عدة، واهتمامات متنوعة، فهو رحالة، أمضى شبابه في الترحال طولاً وعرضاً، فزار أصقاعاً شتى، فبالإضافة إلى ترحاله في ربوع شرق أفريقيا وتجواله في البلاد العربية الإسلامية، فإنه زار الهند من طريق البحر فمر بالسند والبنجاب، وكنكان ومليبار، ثم بعد أن اجتاز سيلان (سرنديب) مضى قدماً نحو بحر الصين، ثم عاد إلى زنجبار ومدغشقر وأخيراً قفل راجعاً صوب عُمان متخذاً طريقه إلى مسقط رأسه بغداد، ثم قصد مصر في سني عمره الأخيرة حتى قضى عام 345ﻫ - 965م .
ولم يكن رحالة فحسب، بل مؤرخاً، وجغرافياً، وفلكياً وفقيهاً، واستطاع الجمع بين تلك الاهتمامات وصقلها في بوتقة الاختبار، بعد أن أضفت عليها الرحلة وسعة الصدر الكثير من العمق في التفكير والدقة في التعبير. وقد قال عنه ميكيل إنه «فيلسوف ذكي جداً، واسع الاطلاع، انفتح ذهنه على كل الأنظمة الفكرية، من فلسفات الحكماء الأسطوريين، إلى معتقدات ومذاهب عصره المتباينة، وهو مؤرخ ديانات، ذهب بعيداً في تقصياته فعرف السبئية والبوذية، ومذاهب النصارى واليهود، وقد سأل في أسفاره فقهاء أمم عديدة وعلماءَهم، كاليهود والفرس، والنصارى ... ويستغرب الباحث توفيقه بين العقيدة الإسلامية والتقصي العلمي«ومرونته في اتصاله بالكفار»، وكان قد تحدث عن رحلاته وأسفاره ومنهجه في البحث، في مدخل «مروج الذهب»، وأكد صراحة اعتماده المشاهدة والتجربة في دراساته، و موضوعيته في تناوله المذاهب والأديان التي تعرض لها، «وليعلم من نظر فيه أني لم أنتصر فيه لمذهب، ولا تحيزت لقول، ولا حكيت عن الناس إلاّ مجالس أخبارهم، ولم اعرض فيه لغير ذلك».
وتعايش مع الواقع ليعلم الأمور بالمشاهدة والترحال، و«تقاذف الأسفار، وقطع القفار، تارة على متن البحر، وتارة على ظهر البر، مستعلمين بدائع الأمم بالمشاهدة، عارفين خواص الأقاليم بالمعاينة، كقطعنا بلاد السند (وهي باكستان حالياً)، والزنج والصنف (موضع في بلاد الهند يُعتقد أنه فيتنام)، والصين، والزابج (يقصد سومطرة) وتقحمنا الشرق والغرب، فتارة بأقصى خراسان، وتارة بوسائط أرمينية وأذربيجان، والران والبيلقان (نواح من أرمينية) وطوراً العراق، وطوراً الشام».
شملت رحلاته كل البلدان من الهند إلى المحيط الأطلسي، ومن البحر الأحمر إلى بحر قزوين، ومن المحتمل، كما يشير كراتشكوفسكي، أنه قد زار الصين وأرخبيل الملايو، وكثيراً ما كان يثبت في مصنفاته تاريخ زياراته. واحتلت مصنفاته مكانة خاصة، بعد أن اكتسب «من رحلاته معارف ومعلومات لا تحصى في أمور الجغرافية والأجناس البشرية، يقدم خلاصة للآراء السائدة من الباحثين المسلمين عن امتداد المحيط الهندي».
فعندما كان الجيهاني ( أبو عبد الله أحمد بن أحمد 903م) مشغولاً بطريقة مكتبية، بجمع مادته اللازمة لإنجاز كتابه، كان أبو الحسن علي المسعودي يجوب الآفاق، فيقضي الجزء الأكبر من حياته في السفر والرحلات، ووصف أقاليم لم يسبق لكاتب عربي أن وصفها من قبل، فلم تقتصر رحلاته على ديار الإسلام من حدودها الشرقية حتى أفريقيا، فقد زار الهند وسيلان، وأرمينيا وساحل قزوين، وبحار الحبشة، والملايو والصين، يحمل معه اطلاعه الواسع على العلوم الإسلامية والتاريخ القديم، والجغرافية، وعقائد الشعوب وتصوراتهم، فتعرض في تأليفه للأقاليم المختلفة في العالم من غاليسيا Galicia والبرانس إلى الصين، وهناك شبه كبير بين آرائه عن التفاعل بين الإنسان وبيئته، وبين الآراء الحديثة.
وما لا ريب فيه أن المسعودي فتح آفاقاً جديدة في أبحاثه، عندما وضع في «مروج الذهب» خلاصة اختباراته وتجاربه وأسفاره، وكان في أكثر الأمور التي عالجها صاحب رواية وبصيرة نافذة، وإن بقيت بعض العجائبية الشائعة عن بلاد الشرق الأقصى وبحارها عالقة في أبحاثه، وحفظ لنا وقائع رحلة ابن وهب القرشي الذي غادر البصرة في رحلته من سيراف إلى خانفوه (كانتون) في الصين، في القرن التاسع الميلادي، ولعله قد سمعها من السيرافي الذي دوّنها بدوره، عندما صادفه عام 303ﻫ، فترك المسعودي وراءه ملاحظات واسعة عن حياة الصينيين والهنود، وسكان المحيط الهندي، ضمنها في كتابيه «مروج الذهب»،و«أنساب الأشراف» وجملة من الصور تعكس بمجملها المُتخيل العربي عن تلك الشعوب.
وقد توقف طويلاً في وصفه المحيط الهندي، وجزائره، وسكانه، وطبيعته، والتجارة التي تجرى فيه، والسفن التي تمخر عبابه، وكيفية صناعتها، واختلافها عن سفن البحر المتوسط، ولا يخلو وصفه من بعض العجائب، إلاَّ أنه عارض نظرية بطليموس القائلة بامتداد جنوب القارة الأفريقية نحو الشرق بطريقة يوازي فيها هذا الامتداد السواحل الهندية الصينية، ويشكل الامتداد ما يُشبه بحيرة مغلقة مع البر الهندي والصيني، إذ أشار إلى اتصال المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي وإلى إحاطة البحار بالجزء الجنوبي من القارة الأفريقية، فكان في ذلك مثل البتاني، في تصحيحه لخطأ بطليموس، أما القسم الأثنوغرافي من كتاب «أنساب الأشراف»، فهو يتعرض لتشعبات الأمم والشعوب، وتفرّع حضاراتها، فيقسم الأمم إلى سبع مجموعات، هي الفرس، والكلدانيون الذين يضم إليهم العرب واليهود، ثم أمة اليونان والروم، ثم الأفارقة، وبعدها الترك، فسكان الهند والسند، وأخيراً الصينيون، ومن المستحيل كما يقول «كراتشكوفسكي» «إنكار ما يتميز به المسعودي من تنوع النشاط العلمي، وما يتصف به من موضوعية في الحكم على ما يتعلق بالشعوب والأديان، فهو يسأل باهتمام ممثلي مختلف العقائد، ويتفحص بانتباه فائق كتبهم، ويتعرف جيداً على آدابهم، وكان موقفه محايداً إزاء النصارى واليهود والصابئة». وبكل الأحوال فقد قامت الرحلة والمشاهدة والاحتكاك بالناس، والتعرّف على آرائهم وتجاربهم بدور حاسم في أبحاثه حول الحضارة التي توجت إلى حدّ كبير خبراته وتجاربه.
شمس الدين الكيلاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد