أُسطورة صراع الحضارات بين الدين والثقافة والوعي
لا أدلَّ على تهافت فكرة «صراع الحضارات» من أنها بدأت بالخفوت والتبدد قبل وفاة المفكِّر الذي اشتهر بها، وأعني به الأستاذ صمويل هنتنغتون، الذي توفّي أخيراً في 24/12/2008. وهنتنغتون ليس صاحب الفكرة، بل صاحبُها المستشرق المشهور برنارد لويس، الذي كتب مقالةً عام 1990 بعنوان: «جذور الغضب الإسلامي»، خلال الحرب على العراق آنذاك، وقد وردت العبارة في مقالته تلك منسوبةً الى الإسلاميين المتشددين الذين يرون الصراعَ بينهم وبين الغرب حضارياً وليس سياسياً أو اقتصادياً وحسب! وعلى مرّ قُرابة العقدين ظلَّ برنارد لويس يكرر تلك المقولة الشديدة التبسيط، فمشكلة العرب على الخصوص - بحسب وجهة نظره - ليس احتلال فلسطين أو تدمير العراق، بل انهم عجزوا خلال القرنين الماضيين عن النهوض الى مراتب الندية مع الغرب مثلما فعلت كلٌ من اليابان والصين والهند (وهي الأمم التي عاشت تجربة الاستعمار التي عاشها العرب والمسلمون). ولذلك، وبدلاً من الانصراف الى نقد الذات، وتطوير التجارب لمواجهة التحديات، اعتبروا الغرب عِلّة العِلل، ومضوا باتجاهين: اتجاه التطرف ومُعاداة الحداثة، واتجاه مضغ الهزائم بالتعابير الكبيرة مثل أن الصراع بيننا وبين الغرب حضاري! وقد عاد برنارد لويس لكتابة هذا الكلام في مقالةٍ له هذا الشهر بمجلة «فورين أفيرز». وذلك بعد كتابيه: كيف حدث الخلل (2001 - 2002)، وأزمة الإسلام (2005).
وصمويل هنتنغتون ليس من مؤرّخي الأفكار والأطروحات الثقافية مثل برنارد لويس، بل هو كاتبٌ استراتيجي من كُتّاب الحرب الباردة وصراعات العسكر والموارد. وكما أثارت اعجابه واهتمامه أطروحة لويس الدينية/ الاستراتيجية أثارت اهتمامه وغيرته أطروحة فرنسيس فوكوياما في كتابه: «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». وفوكوياما أستاذ للفلسفة السياسية بجامعة جون هوبكنز، وقد غازل المحافظين الجدد من دون أن يكون منهم، وكان همُّه إثبات أن انتصار الغرب (الولايات المتحدة) في الحرب الباردة، ما كان بسبب السلاح أو الاقتصاد، بل بالوقوف من وراء فكرة الحرية كما تتجلى في الدولة الديموقراطية. ولذلك فقد تمددت تأملاته بين كانط وهيغل، وسار مع التفسيرات المحافظة للهيغليين الجدد وفي طليعتهم كوصيف، والذين اعتبروا أن «الدولة» تمثلُ ذروة تجليات العقل الإنساني، وبالذات في صيغتها (الأميركية) القائمة على الحرية. فالذي انتصر إذن هو فكرة الحرية وممارساتها كما ظهرت وتطورت في الغرب في القرنين الأخيرين. ولذا فإن الأمر أبعد وأعلى من الصراع العسكري أو الاقتصادي، وإن يكن هذان الأمران قد شكلا أدوات في التمهيد لسواد تلك الفكرة الإنسانية الكبيرة، فإذا كان «التاريخ» مسرحاً لأحداث العسكر والسياسة، فإنه انتهى بهذا المعنى ليكون الصراع الحقيقي صراع الأفكار الكبيرة، وقد انحسم الى غير رجعةٍ بهذا الشكل، ولن يستطيع أي فريقٍ مهما بلغ جبروته العسكري (الصين مثلاً) أن ينهض للتحدي، لأن الفكرة المنتصرة يملكها غيره، وسيكون عليه أن يسير في ركاب ذلك الغير ويعتنق أفكاره وتجاربه.
أما هنتنغتون فقد اعتنق فكرة فوكوياما، لكنه قادها الى نهاياتها بحيث بدت كأنها نقيضٌ لها. إذ انه إذا كان جوهر .الحضارة الغربية فكرة الحرية المنبثقة من التجربة اليهودية/ المسيحية، فإن ذلك يعني أن لكلّ حضارةٍ فكرةً رئيسةً تتمحور حولها، ولنقل أن تلك الفكرة الجوهرية هي الدين أو الإيمان، وقد بقيت في العالم سبع أو ثمان حضارات أو ثقافات كبرى، والإسلام واحدٌ منها، وكذلك الكونفوشيوسية/ البوذية والهندوسية... الخ. وإذا كان الخصم العسكري الأقوى للغرب الغربي وهو الاتحاد السوفياتي قد زال، فإن التاريخ لن ينتهي، لأن الصراع سيستمر لكن بين الأفكار أو الحضارات أو الأديان التي تتمحور تلك الثقافات حولها. وفي هذا المجال تشكل الثقافات الكبرى الباقية منافساً وتحدياً للغرب اليهودي/ المسيحي. وفي هذا المعرض يخطر على البال أن يكون الصراع القادم بين الصين والغرب أو اليابان والغرب أو الهند والغرب. بيد أن تلك الثقافات أو المجالات الحضارية الكبرى تُظهر تلاؤماً ونجاحاً بالتعاون مع الغرب وليس في مواجهته، ولذلك لا يبقى غير الإسلام الذي يُظهر حيوية وتجدداً وتشبثاً من جانب أتباعه به، ويُظهر في الوقت ذاته (وكما يقول برنارد لويس) عدوانيةً شرسةً تجاه الغرب في القيم والثقافة والوعي. ومن هنا فالذي يظهر ان العقود القادمة ستحفل بالصراع الحضاري بين الغرب والإسلام، «لأن الإسلام يملك تخوماً دموية»!
ونشر هنتنغتون تأمليته هذه في مقالةٍ بمجلة الفورين أفيرز في خريف العام 1993. وهنتنغتون من المحافظين القدامى وليس الجدد. لكن الذين فرحوا بالمقولة كانوا من المحافظين الجدد الذين عقدت لهم المجلة المذكورة ملفاً في شتاء العام 1993/ 1994. لمناقشة الأطروحة والدعاية لها. وما ناقش احدٌ منهم في صحة تلك المقولة، بل سلموا بها، لكنهم لم يسلِّموا جميعاً بأهوال الصراع القادم، بل قال بعضهم (فؤاد عجمي مثلاً) إن الإسلام المعادي للغرب لن يستطيع المواجهة، بسبب ضعفه وقروسطيته، وأن الحداثة الغربية اخترقت مجتمعاته ودوله. وهنتنغتون كان أستاذاً بجامعة هارفرد عندما ظهرت مقالته (التي صارت كتاباً عام 1996)، وما أبه لها اليساريون، واعتبروها - كما قال ادوارد سعيد وجويل تبنين - سمك، لبن، تمر هندي، وقد حضرت - وكنت أستاذاً زائراً بالجامعة في شتاء وربيع العام 1994 - سمينارات لمناقشة المقولة، وغصت المدرجات بالمستمعين المتحمسين أو المستنكرين. واشتهرت المقالة بحيث اضطر كثيرون من المستخفين لأخذها مأخذ الجد، وقد رأُوا أن اليمين الجديد يسعى لتحويلها الى سياسات تجاه المسلمين والإسلام. وجادل اليساريون الأميركيون والأوروبيون في أن الحضارة تتمحور حول الدين. كما جادلوا في حدوث الصراع بين الحضارات أو الثقافات، لأن الصراعات تحدث بين الأمم والدول. وهي لا تدور حول أمورٍ ثقافية، بل في الاقتصاد والجيوسياسي وعلى الموارد. ثم ان المشكلات بين الغرب والعرب والمسلمين تدور حول أمور ملموسة ليس منها الدين مثل الاستيلاء الصهيوني على فلسطين بمساعدة الغرب، ومثل استغلال الموارد، ومثل الاستيلاء الغربي على المنافذ والممرات الاستراتيجية، وحرمان العرب والمسلمين من ثمرات أرضهم ومواردها.
وجاءت تصرفات الثوريين الإيرانيين، وثوريي القاعدة (وهؤلاء الأخيرين بالذات)، كأنما لتدعم أطروحة هنتنغتون. والطريف أن مفكري إدارة بوش تحمسوا لمسألة الصراع الحضاري، بقدر حماسة الإسلاميين لها. وقد دفع ذلك عديدين مثل ادوارد سعيد وأكبر أحمد وطارق علي للحديث عن «صراع بين الأصوليات» الإنجيلية والإسلامية. وعندما أصدر المفكرون اليمينيون الأميركيون على أثر أحداث سبتمبر عام 2001 بيانهم الشهير عن «الحرب العادلة» اعتبروها - أي الحرب - عادلةً (ضد الإرهاب الإسلامي) لأنها دفاع عن النفس وقيم الحرية والعدالة، ولذا فقط دعا رامسفيلد الأميركيين والغربيين لشنّ «حرب أفكار» في ذاك الصراع الحضاري! وأقبلت دولٌ ومؤسساتٌ كثيرةٌ على الدعوة لحوار الحضارات أو تحالفها بدلاً من صراعها.
وما انكسرت حدة النقاش على ساحات الجرائد والمؤتمرات، بل كسرها الفشل المتبادل أو المشترك لإدارة بوش، ولمناضلي القاعدة، وبعد العام 2005. فلا البوشيون بجيوشهم الجرارة استطاعوا اقناع العالم بمشروعية غزوهم للعراق، ولا القاعديون أمكن لهم أن يهدموا الحضارة الغربية أو يدفعوا المسلمين للانضمام اليهم في فسطاطيهم. وهكذا انحسر بالتدريج الغبار الخانق للمعارك الوهمية، وعاد الناس للاهتمام بضحايا الضربات في العراق وفلسطين والبحيرات الكبرى، والبؤس المنتشر في أفريقيا وأميركا اللاتينية وبعض أجزاء آسيا. وعندما توفي هنتنغتون أخيراً قال المعلقون في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» إن مقولة هنتنتغتون كانت حلماً مزعجاً برر حروباً ظالمة، واستخف بحياة وكرامة ملايين البشر. بيد ان ذلك لم يمنع برنارد لويس من كتابة مقالةٍ نشرها في شهر آذار (مارس) هذا بالفورين افيرز الشهيرة، عن أحقاد المسلمين (أو العرب) على الغرب والعالم، والناجمة عن الفشل والعجز الذاتي عن التقدم!
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد