أدونيس: محمود درويش عرف كيف يرثني وجماهيريته كانت ضده(4)
يواصل الشاعر أدونيس حواره مع «الحياة» في جزء رابع، ويتناول فيه الشعر الفلسطيني الحديث متوقفاً عند الشاعر محمود درويش في قراءة نقدية. ثم يتحدث عن الشعر المغاربي والاختلاف بين المشرق والمغرب، ويتناول الشعر العربي المكتوب بالفرنسية وبعض الشعراء العالميين وصورته كما قدمت الى القراء الفرنسيين في الترجمات التي أنجزت لشعره.
إنه أدونيس ولكن عبر الآخر، الذي هو الصديق أو الأب أو الخصم، وعبر علاقات تراوحت بين الصداقة والمحبة والجفاء والخصومة في أحيان، وعبر قضايا وشؤون كثيراً ما أثارت شغف قراء الشاعر وحفيظتهم.
أشخاص يتحدث عنهم أدونيس بحرية وجرأة، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل. إنها سيرته ومساره يستعيدهما عبر هؤلاء الأشخاص، القريبين والبعيدين على السواء، هؤلاء الأشخاص الذين صنعوا جغرافيته الحميمة وفضاءه الحيّ وأفقه الشعري والفكري.
هنا الحلقة الرابعة من «الحوار» مع أدونيس.
ماذا عن الشعر الفلسطيني؟ كيف تنظر الى طابعه الإشكالي؟
- هو الآخر جزءٌ من الشعر العربي، غير أنه يتحرّك في مدار من خصوصية المأساة الفلسطينية: شعراء فلسطين يعيشونها، ونحن الشعراء العرب، خارج فلسطين، نُعايشها. والفرق كبير. وهذا يلقي مسؤولية كبيرة وخاصة على الشعراء الفلسطينيين.الخلل، كما يبدو لي هنا، وهذا ما قلته مراراً، ومن زمن طويل، هو أن فلسطين تحوّلت في الشعر العربي كله، لا في الشعر الفلسطيني وحده، الى «موضوع» – بدلاً من أن تتحول الى «تجربة»، كما كان مُفترضاً.
فلسطين انفجارٌ مأسوي – كارثي في الحياة العربية، اجتماعاً وسياسة. فناً وفكراً. انفجارٌ يأخذ أبعاداً كونية. ولا أرى أن شعرنا ارتقى الى مستوى هذا الانفجار.
> ألا تعتقد أن محمود درويش استطاع أن يحقق هذا الإنجاز في شعره الأخير؟
- عرف محمود درويش، بذكاء كبير، كيف يستقطبُ اهتماماً كبيراً، عربياً وأجنبياً، في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ومن هنا يتقاطع في شخصه الشاعر والسياسي، البعد الواقعي للنضال الفلسطيني وبعده الرمزي. غير أن شعره في حد ذاته مسألة أخرى. وأجد، شخصياً، صعوبة في الكلام على شعره، بسبب أساسي من صداقتنا في أثناء إقامته في بيروت، وبخاصة في أثناء إقامته بباريس. وقد كان، كما تعرف، عضواً في هيئة تحرير «مواقف»، فترة، ثم أنشأ مجلته «الكرمل». ذلك أن الصداقة قد تكون حجاباً، في حالات كثيرة، بينها مثل هذه الحالة.
في كل حالٍ محمود وارثٌ ذكي لمن سبقه من العرب: نزار قباني، سعدي يوسف وأدونيس. هذا على صعيد طرائق التعبير. أما على صعيد المضمون فهو أيضاً وارثٌ ذكي للثقافة العربية، خصوصاً كما تُعاش في الحياة العربية اليومية. ومعنى ذلك أن شعره لا يصدر عن تجربة ذاتية اختراقية تساؤلية، وإنما يصدر بالأحرى، عن موقف ثقافي جمعي. فشعره، على هذا المستوى، كمثل حياته العامة شعر مصالحة. لم يُصارع في حياته أي نوع من أنواع الطغيان الذي تحفل به الحياة العربية، بل كان صديقاً لجميع الأنظمة، بدءاً من نظام صدام حسين. وكثيرٌ منها كان يستقبله بوصفه رمزاً شعرياً وطنياً، وكان يتقبّل أوسمتها. ولم يصارع في شعره كذلك أية مشكلة، صراعاً ذاتياً فنياً: لا التراث، ولا اللغة، ولا الدين، ولا الذات، ولا الآخر. حتى المشكلات التي كان يطرحها أحياناً، كالموت والمنفى أو غيرهما، إنما كان يطرحها، ثقافياً، وفي إطار ثقافي معروف. شعره مكتوبٌ بلغة الجمع، ورؤية الجمع. غير أنه مكتوبٌ بذكاء غير عادي. يشهد لذلك «الإجماع» عليه.
وفي رأيي أن هذا «الإجماع» يشهد، شعرياً، لا معه بل ضده. لسبب أساس: ليس في الفن، والشعر بخاصة، إجماع. كلّ إجماع على ما هو ذاتي يتم بعناصر ليست من داخله، بل من خارجه. يتم بتلفيق ما. كلُّ إجماعٍ اصطناع.
> والغنائية لديه، كيف تنظر إليها؟ لا تحب الغنائية أو لست بميالٍ إليها؟
- لستُ مَيّالاً الى غنائية البكاء والندب، غنائية الرثاء الذاتي أو المدح الذاتي. لكن كل شعر عظيم إنما هو شعر غنائي من حيث انه يحوّل الكون كله الى نشيد، والإنسان الى صوتٍ وموسيقى.
> هل استوقفتك تجارب أخرى في الشعر الفلسطيني؟
- هناك، لا شك، كتابات مهمة، خصوصاً تلك التي تُفلت من الغنائية السهلة. تابعت بعضها، لكن يؤسفني أنني لم أقدر أن أُتابعها كلها.
> هل قرأت سميح القاسم؟
- قرأت ما وقعت يدي عليه. هو في طليعة شعراء جيله.
> والشعراء الفلسطينيون الجدد؟
- طبعاً، هناك شعراء فلسطينيون آخرون. ويؤسفني أنني لم أقرأ لمعظمهم إلا قصائد متفرقة، محدودة لا تسمح لي، أو لا تُجيز لمن يحترم الشعراء والشعر، أن يُصدر أحكاماً، سلباً أو إيجاباً.
> سنتحدث عن الشعر المغاربي. أقول مغاربي، قصداً، لأن الشعرية هناك، في المغرب العربي، في شكل عام، تختلف عن الشعرية المشرقية. هل توافقني على هذا التقسيم أنت الذي تعرف الشعر المغاربي جيداً، وأنت الحاضر جداً في المغرب العربي؟
- لا أظن أن في المغرب وحدة شعرية، فنياً. ما يكتب باللغة العربية في تونس مثلاً يتميز عما يكتب في المغرب والجزائر. فهو الأكثر قرباً الى اللغة الشعرية المشرقية. وما كتب أو يكتب باللغة الفرنسية، يختلف كلياً عما يكتب بهذه اللغة في لبنان، مثلاً. هذا أولاً.
ثانياً، الكتابة المغاربية الأدبية، الشعرية والروائية، باللغة الفرنسية أكثر قوة منها باللغة العربية، إجمالاً. لا نجد في الدول المغاربية حتى الآن روائيين أو شعراء باللغة العربية في مستوى كتابها باللغة الفرنسية: كاتب ياسين أو محمد ديب أو رشيد بوجدرة، أو ياسمينة خضرة، أو آسيا جبار، أو محمد خير الدين أو عبدالكبير الخطيبي، تمثيلاً لا حصراً.
ثالثاً، الشعر المغاربي، باللغة العربية – وأعني شعر الأجيال الراهنة الشابة، أعمقُ ثقافة، وأقلّ هجساً بالذاتية (وهما مزيتان)، من شعر الأجيال الراهنة الشابة في المشرق العربي.
رابعاً، وإذا ربطنا بين الشعر والفكر، في المغرب والمشرق، فإن الفكر في المغرب، متمثلاً في محمد أركون، وعبدالله العروي، وهشام جعيط تمثيلاً لا حصراً، أكثر غنىً وعمقاً من الفكر المشرقي.
خامساً، تتجلى الإبداعية المغاربية، بشكلها الأكثر خصوصية، في الفنون التشكيلية، وسؤالي هنا هو: ما يكون في هذه الظاهرة، دور التوترات، والصراعات اللاواعية والواعية، التي تعيشها «لغات» المغرب العربي، غير التشكيلية: العربية الفصحى، العربية الدارجة، الأمازيغية، اللغة الفرنسية؟
> كيف تفسّر ظاهرة قبولك في المغرب العربي، شعرياً، والأثر الذي تركته في النص الشعري المغاربي؟
- إن كان هذا القبول وهذا الأثر صحيحين فهما يسعدانني كثيراً. أعرف شخصياً معظم الشعراء والرسامين والروائيين والمفكرين المغاربيين. وتربطني بعدد منهم صداقات قديمة وعميقة. وكنت في المشرق بين أوائل، وربما أول من تنبهوا لأهمية الشعر والفكر في المغرب باللغتين العربية والفرنسية، ورحبوا به، ونشروه، خصوصاً في مجلة «مواقف»، بدءاً من أواخر ستينات القرن الماضي. وكانت مجلة «الثقافة الجديدة» التي أسسها الصديق الشاعر محمد بنيس أختاً لمجلة «مواقف» وامتداداً مغربياً عالياً لجذريتها وانفتاحها، ونظرتها النقدية الشاملة.
> طالما تحدثنا قليلاً عن الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، أود أن أسألك عن رأيكَ في الشعر العربي الفرنكفوني، وعن بعض الشعراء الذين كتبوا بالفرنسية، ومن هم الأقرب إليك، سواءٌ في المغرب أو المشرق؟
- في المغرب كاتب ياسين، ومحمد ديب، ومحمد خير الدين. في المشرق جورج شحادة، وفؤاد غابرييل نفاع، وصلاح ستيتية. أما مستقبل الشعر العربي الفرنكفوني، فأمرٌ يصعب عليّ التكهن به، خصوصاً في أفقٍ يزداد فيه تراجع اللغة العربية وأكاد أقول: انهيارها، فنياً وفكرياً.
> هل تعتقد أن الشعر الفرنكفوني العربي، ساهم في ثورة الحداثة التي خضتموها أنتم الشعراء الذين تكتبون باللغة العربية؟
- كلا، لا أعتقد. كان جمهور هذا الشعر محصوراً بعارفي اللغة الفرنسية. وكان قرّاؤه بينهم محدودين. الحداثة جاءت «غريبة» على جمهور القراء العرب، إجمالاً. كان حتى المثقفون والأساتذة الجامعيون يسخرون منها، وكان بعضهم يأسف على مواهبنا التي تضيع فيها. حتى الآن لم تنشأ قراءة حديثة في مستوى الكتابة الحديثة. لا يزال النمط السائد في القراءة قديماً.
> كنت أول من قدّم الشعر العربي الفرنكفوني في مجلة «شعر». ترجمت كاتب ياسين وجورج شحادة وفؤاد غابرييل نفاع وعبداللطيف اللعبي وآخرين وقدمتهم الى القراء العرب. كيف تقرأ نفسك اليوم مترجماً الى الفرنسية؟ هل تشعر أنك كنت تحلم بالكتابة بهذه اللغة؟
- أبداً. ظلّت، بالنسبة إلي، لغتي الثقافية. إبداعياً، تربطني باللغة العربية علاقة كيانية. اللغة – الأم هي لغة الإبداع الشعري، وليس للإنسان إلا أمٌّ واحدة. أشك في أن يكتب شاعرٌ بلغتين بالحيوية ذاتها، وبالطاقة الإبداعية ذاتها. وإن كان هذا ممكناً في النثر. غير أن اللغة الفرنسية أفادتني شعرياً بوصفها لغة ثقافية. مثلاً، بفضل شعرها، ممثلاً على الأخص برامبو وبودلير ومالارميه، أعدتُ اكتشاف الشعر العربي، ففهمته بشكل مغاير تماماً للفهم الذي كان سائداً عندنا، وبخاصة في مدارسنا وجامعاتنا، وصرت أقرؤه في أفق الشعرية الكونية. محمود درويش وأدونيس في طوكيو عام 1974 عندما قرأت بودلير، وقرأت في ضوئه أبا نواس، رأيت مطابقات بينهما، في ما يتعلق بحس المدينة، وبالعابر الزائل في أحضان الأبدية، وبالجمال الخاص بالمدينة وحياتها اليومية. ورأيت أن بودلير يكرر في شعره أجواء ومناخات نواسية. وعندما قرأت مالارميه، فهمت دور اللغة، ومكانها في العالم الشعري الذي يخلقه الشاعر.
ثمّ بعد ذلك في ضوء السوريالية، أعدت اكتشاف اللغة الصوفية، في معزل عن الدين. ورأيت أن هناك مفهومات مشتركة بين الصوفية والسوريالية. مثلاً، ما سمّته السوريالية بالكتابة الأوتوماتيكية، أو الآلية، كانت الصوفية تسميه إملاء، أو شطحاً. وهو الكتابة الخارجة على كل رقابة عقلية. وما سمّته «النشوة»، كانت الصوفية تسمّيه «الانخطاف». وما كان يقوله رامبو: «الأنا آخر»، كانت الصوفية تقوله، بطريقتها: «الأنا لا أنا»، أو «الآخر هو أنا» – بحيث ان الإنسان لا يصل، في سفره نحو ذاته، إلا عبر الآخر. فالآخر عنصرٌ تكوينيٌّ من عناصر الذات. وعَبر ذلك أعدت اكتشاف معنى الهوية. الهوية في التصوّف ليست إرثاً، أو ليست جاهزة مُسبقاً، وإنما هي ابتكارٌ دائم. فكأن هوية الإنسان لا تجيء من ورائه أو ماضيه، وإنما تجيء من الأمام، أو من المستقبل. إضافة الى مفهومات أخرى كثيرة، فصّلتها في كتابي الذي صدر منذ سنوات، وأعيد طبعه مراراً: «الصوفية والسوريالية».
هذا كله يحتّم على الشاعر العربي أن يعيد قراءة تراثه باللغة العربية. ذلك أنه لا يستطيع أن يكون حديثاً فيها، إلا إذا عرف قديمها، ولا يستطيع أن يخلق بها جمالاً جديداً، إذا لم يعرف جماليّتها، وتاريخها الجمالي. ومن هنا لا تزال الحداثة عندنا مُلتبسة.
> عندما تقرأ نفسك مترجماً الى الفرنسية، اللغة التي تجيدها، ما يكون شعورك، وكيف تقرأ لحظاتك الشعرية في لغة الآخر؟ هل ترى نفسك غريباً؟
- لا أرى نفسي تماماً في لغتها الأصلية، دون ترجمة، فكيف أراها في الترجمة. وإذا كان الشعر ترجمة أولى للنفس، في لغتها الأصلية، فإن ترجمة هذه الترجمة الى لغة ثانية، ستجعل النفس أكثر بعداً، وأكثر تغرّباً. الترجمة تقدم علامات، إشارات، أفكاراً، علاقات من النص الشعري المُترجم. هكذا تقدّم «عالمه»، بالمعنى الواسع. غير أنها لا تقدم ما لا تتم شعرية النص إلا به: موسيقى اللغة، العلاقات بين الكلمة والكلمة، الحرف والحرف، ومن ثم الصور وكيمياءها الشعورية واللغوية. فالشعر يُترجَم رؤية ومُقاربة، لكنه لا يُترجم لغة وفناً. المهمّ إذاً في ترجمة الشعر أن يضع المترجم رؤية النص ومقاربته للأشياء في لغة عالية يستطيع أن يخلق بها مُعادِلاً للغة المنقولة في كل ما يتعلق بالموسيقى، والصور، والمخيلة والعلاقات في ما بين الكلمات، وبحيث يتم هذا كله وفقاً لعبقرية اللغة الناقلة، وخصوصياتها.
> سأقلب الآية، وأقول إنك ترجمت سان – جون بيرس، ترجمة إبداعية الى حد أنك خنت بعض المقاطع، كما قيل عنك؟ ماذا تقول عن علاقتك بشعره، وعن هذه الترجمة؟
- ليس هناك تطابق بين لغة ولغة، لا في تركيب الجملة، ولا في علاقة الكلمة بالكلمة، ولا في العلاقة بين الكلمة والشيء، ولا في الموسيقى اللغوية، أو في الصورة الفنية. انعدام هذا التطابق يدفع بعضهم الى ترويض لغته الناقلة، وجعلها تستسلم كلياً للغة التي تنقلها بحيث تصبح الترجمة نوعاً من الاستنساخ، بحجة الدقة والأمانة والعلم – وما إلى ذلك من الحجج التي تُقال، خطأ في غير مَوْضعها. وتأتي هذه الترجمة مضحكة، إجمالاً، ليس فيها شيء من الشعر، وإن كانت «أمينة» و «عالمة». وبعضهم، وأنا منهم، يرفض هذا الاستسلام. يحاول أن يخلق بلغته الناقلة لغة لا تكتفي بأن تعادل اللغة المنقولة، وإنما تحاول كذلك أن تتفوّق عليها، تعويضاً عما لا يمكن تداركه في اللغة المنقولة. وهذا عملٌ يُعطي معنى جديداً لترجمة الشعر: لا تعود نقلاً أميناً، وإنما تُصبح إبداعاً. وفي كل إبداع خروج. وفي كل خروج نوعٌ من الخيانة. غير أنها خيانة تحول دون أن يُخطئ الشعر، في حين أن الأمانة تحول دون أن يُخطئ الحرف. وشتّان بين الأمرين: أفضل، شخصياً، أن أخطئ حرفياً، على أن أخطئ شعرياً.
في هذا الأفق، وعلى هذا الأساس، نظرت الى شعر سان – جون بيرس وترجمته. وها هو نصه بالعربية يكاد أن يكون تأسيسياً. مضارعاً بذلك لغته الأصلية. ونعرف جميعاً أنه خلق تياراً في الكتابة العربية. وبعضهم لا يزال يترنح في مَهب رياحه العالية. في هذا الأفق أيضاً، حلمتُ ولا أزال أحلم بأن أترجم ثلاثة شعراء فرنسيين: بودلير، ورامبو، ولوتريامون.
> ومالارميه؟
- ترجمته، بالنسبة إليّ، متعذّرة لطبيعة اللغة التي يكتب بها. ثم إنني لا أجد في شعره ما يأسرني حقاً، وإن كنتُ أجدُ فيه حساً باللغة عالياً وفريداً.
> لكن عملك على سان – جون بيرس، كان تأسيسياً. وقد أثر في شعراء عديدين. لماذا اخترته؟
- لِنَفسه الملحمي الذي يتدفق في لغة غنائية كونية، ينصهر فيها الحِسُّ والذهن، الواقع والمخيلة، المرئي واللامرئي، الشعور والفكر، المجرد والمحسوس، على نحو مُدهش. وللمناسبة، لا يحبه الشعراء الفرنسيون الشبان، ولا الشعراء المتأثرون بالشعر الأميركي الراهن. يكاد أن يكون معروفاً في الشعر العربي، أكثر منه في أي شعر آخر، راهن، ولا أستثني الشعر الفرنسي الراهن ذاته.
> هل أثّر فيك سان – جون بيرس؟
- طبعاً. خصوصاً في القصائد التي كتبتها، فيما كنت أترجمه. أخصّ بالذكر: «مرثية القرن الأول» و «مرثية الأيام الحاضرة» و «أرواد، يا أميرة الوهم». والقصائد الثلاث منشورة في كتاب «أوراق في الريح». وتأثيره هنا اقتصر على طريقة تركيب الجملة الشعرية عنده، وعلى بنية الصورة الشعرية. حتى أنني استعرت منه في هذه القصائد، أكثر من جملة. لكن تأثيره الأكثر أهمية هو أنه أقنعني ألاّ أكتب قصيدة نثر، بالشكل الشائع، القصير الموجز. فبتأثير منه استخدمت النثر بوصفه «وزناً» آخر لكتابة الشعر، وكتبت بالنثر قصائد طويلة ذات نَفَسٍ ملحمي بلغت ذروة أجدها مهمة جداً في كتاب «مفرد بصيغة الجمع». غير أنني تابعت، في ما بعد، كتابة القصائد الطويلة، نثراً.
> لماذا وفّقت في ترجمة سان – جون بيرس، أكثر مما وفقت في ترجمة إيف بونفوا، وهذا ما لمسناه فعلاً؟
- لأن شعره «عاقل» و «هادئ»، وبعيدٌ عن «الجنون» الذي يُتيح «الخيانات». بونفوا يكتب شعره بحضور العالم. سان – جون بيرس يكتب شعره، مقتحماً العالم، معيداً تكوينه.
> ما الذي جذبك الى ترجمته؟
- صداقتنا. كانت ترجمته نوعاً من التحية الشخصية.
> ترجمت الكثير من الشعر الفرنسي. من استوقفك، إضافة الى الشعراء الذين ذكرناهم؟ مثلاً، رينه شار، ماذا يعني لك؟
- شاعر مهم. يمكن وصفه بأنه متوسطي، كمثل صديقه ألبير كامو.
> تحدث مرة أندريه فيلتير عن حضورك في الشعر الفرنسي، عبر شعرك المترجم الى الفرنسية. كيف تفسر هذا الحضور؟
- شعري متأصلٌ في الذاتية العربية، غير أن الآخرية، وبخاصة الفرنسية، متموجةٌ في هذه الذاتية كما لو أنها جزء منها. ولهذا يبدو شعري مختلفاً عن الشعر الفرنسي، وفي الوقت نفسه مؤتلِفاً معه. وفي هذا ما نبّه القرّاء الفرنسيين وبخاصة الشعراء الى أبعاد شعرية وفكرية يهتمون بها: كمثل الوحدة بين الشعر والفكر، وكمثل الغنائية الأرضية الجسدية، نقيضاً لتلك الانفعالية الغضبية الفردية، أو الحُزْنية. وكمثل الشفوية، والترحل، والوحدة بين المرئي واللامرئي، المعقول واللامعقول... هذا كله خلق مناخاً من الاهتمام بشعري في فرنسا – قراءة، وتأثيراً.
> يلاحظ أنك على الرغم من اهتمامك بالفرنكوفونية الشعرية، لم تكن بعيداً عن أجواء الشعر الأنغلوسكسوني. شاركت، مثلاً، يوسف الخال في ترجمة قصيدة إليوت «الأرض الخراب». كيف تنظر الى علاقتك بهذه الضفة الثانية – الثقافة الأنغلوسكسونية؟
- علاقتي هنا بشعراء، لا بمدارس أو اتجاهات، شعراء هم إجمالاً من الفترة الكلاسيكية، باستثناء إليوت، وعزرا باوند. واليوم، لا أهتم كثيراً، إلا من باب الاطلاع، بالشعر الأميركي الراهن، أو الإنكليزي الراهن. لا أجد فيه ما يفتح أفقاً للتأمل، أو ما يُغني.
> «الأرض الخراب»، هل أثّرت في شعرك، من حيث انها حضرت بشدة في الشعر العربي الحديث؟
- أظن أن القراءة العميقة للشعر لا يمكن إلا أن تؤثر في القارئ، قليلاً أو كثيراً، بشكل أو آخر. لكن التأثر شعرياً لا يعني التماثل، وإنما يعني، على العكس، التمثل. التأثر بشاعر ليس أن نأخذ جملة منه، أو فكرة وندمجها في كتابتنا، بطريقة أو بأخرى. التأثر هو أن نتمثل كيفية رؤيته للأشياء، وكيفية مقارباته لها. هو أن نخترق عالمه، ونرى الضوء الذي يشعُّ منه، وكيف؟ وهو تأثّر طبيعي وضروري، مارسه وعاشه الشعراء الكبار في العالم. وكل شاعرٌ لا يقرأ الشعر الكوني، في مستوى هذه القراءة، أتردَّدُ في تسميته شاعراً.
> أتذكر هنا توفيق صايغ. كيف ترى الى هذا الشاعر؟
- توفيق صايغ حالة خاصة في كتابة الشعر نثراً. فهو، فنياً، لا يصدرُ عن جمالية اللغة العربية وشعريتها، بقدر ما يصدر عن في المغرب مع الشاعر محمد بنيس والشاعر عبداللطيف اللعبي والرسام محمد قاسمي في الثمانينات جمالية اللغة الإنكليزية وشعريتها. وقد يسمح ذلك بالقول إن لغته الشعرية بِنيَةٌ إنكليزية بألفاظٍ عربية. وهو، مضمونياً أو فكرياً، يصدر عن ثقافة سيكولوجية – مسيحية مُغَربَنَة حضارياً، أكثر مما يصدر عن مسيحية مشرقية – عربية تشحنُها التجربة الذاتية بغَربٍ مُشَرْقَن. وفي هذا ما يجعل «هويته» في كتابته الشعرية تبدو وكأنها «ثقافية» أكثر منها جمالية. ويجعل شعره سفراً في الأفكار، أكثر منه سفراً في أرض اللغة التي يكتب بها، أو في «جسدها» و «ما وراءه».
مع ذلك، تبقى كتابته، كما يبدو لي، ظاهرة تدفعنا، شعرياً وإنسانياً، الى أن ندرس معنى « الجسر» الذي حاول أن يقيمه بين اللغة العربية وثقافة كونية لا يَبدو فيها من محيط الثقافة العربية إلا «قاربٌ» لغوي، شعري عائمٌ، غائمٌ، بعيد.
* غداً حلقة أخيرة
عبده وازن
المصدر: الحياة
إقرأ أيضاً:
أدونيس: قصيدة النثر لا تعني بذاتها شيئاً (3)
أدونيس: القومية العربية لم تجذبني وحافظ الأسد خلص البعث من طفولته(2)
أدونيس:تركت العائلةمراهقاً وانتمائي الى الحزب أخرجني من العشيرة(1)
إضافة تعليق جديد