الفهم الإسلامي الجديد لعلاقة الدين بالدولة
صارت شعارات الإصلاح الإسلامي مضحكة بعض الشيء، أو انها متهمة بتجاهل المشكلات على الأرض، والدعوة للسير في خطط مثالية كأنما المشكلة هي في التطرف الإسلامي أو في الفشل السياسي، أو هما معاً. والواقع أن القضايا والمشكلات تكاتفت وتداخلت، وما عاد من الممكن الفصل بينها أو تقديم عامل على آخر في مقاربتها، فضلاً عن أن الصراع على المنطقة حامٍ وهائل، وهو يبتدئ بالصراع على الموارد والموقع، ولا ينتهي بالصراع على الآلام روحاً واتجاهاً ومصائر. ولذلك يكون على المهتمين بصون الوجود والمصالح، أن يُراعوا في مشروعاتهم الإصلاحية مشكلات الواقع من جهة، وتحديات الصراع على منطقتهم ودينهم ووجودهم القومي والإنساني. وكي يكون واضحاً ما أقصده بتداخل المشكلات، وبتفاقم الصراع، سأضرب مثلاً على ذلك في أمرين اثنين، أحدهما يتعلّق بالفهم الإسلامي الجديد لعلاقة الدين بالدولة، والآخر يتعلق بالحرب الدائرة في لبنان.
في الأمر الأول يكون على الإصلاحيين أن يدركوا الدمج الذي حصل في فكرة الدولة، وفي ممارستها (إدارة الشأن العام) بينها وبين الدين أو الإسلام من خلال رؤى الإسلاميين وتصرفاتهم الثورية أو التلاؤمية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. لدينا من جهة قيام الثورة الإسلامية في إيران (1978 – 1979) والتي انتهت الى صيغة ولاية الفقيه (وضع الدولة والشأن العام بيد رجل الدين)، ولدينا مقتل الرئيس أنور السادات عام 1981، من جانب تنظيم يقول بالحاكمية وبالجهاد. ولا تزال رؤية الإسلاميين السنّة (المتشددين والمعتدلين) تقول بالدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة، وإن تكن الشريعة لديهم مرتبطة بالنص أكثر من ارتباطها بالفقيه والمؤسسة الدينية، كما هو الأمر لدى الشيعة. وهذا تحول كبير لدى السنّة والشيعة، يزيد من أهميته الدعم الجماهيري الكبير له، كما ظهر في مناسبات متعددة خلال العقد الأخير من السنين. ولهذا التطور نتائج كبرى على المستوى الواقعي، وعلى طبائع التحرك في المنطقتين العربية والإسلامية. فالإسلاميون في حال هجوم في سائر البلدان تقريباً، وإن اتخذت حركتهم سمة التمرد في بعضها، وسمة الاعتدال وديموقراطية الانتخابات في بلدان أخرى. وهذا الأمر يستتبع تغييرات في المقاربة الفكرية والسياسية لمسألتي الدولة والاجتماع الإنساني، كما يستتبع تفكيراً في تأثير قيام الدولة الإسلامية على العلائق بالعالم والعصر، وقبل ذلك بالترتيبات الجارية في المنطقة. فالمشروع الإصلاحي الإسلامي، ومنذ مطالع القرن العشرين، وعند السنّة والشيعة، يقول بالدولة المدنية، التي تقيم تمايزاً بين المشروعين الديني والقومي/ الدولي. وبغض النظر عن التجربة العربية البائسة في مجال الاجتماع المدني والدولة المدنية، ما عاد من الممكن الحديث عن الدولة المدنية حتى بالطريقة التي تحدث بها الشيخ محمد مهدي شمس الدين في الثمانينات والتسعينات. وليس هناك محاولات أو بدائل منظورة في هذا الصدد اليوم غير التجربة التركية في المصالحة بين الدين والدولة بعد حقبة عنيفة باسم العلمانية فُرض فيها الافتراق بين الإسلام والنظام العام هناك. ولست من مؤيدي الإسلامية الجديدة، ولا من الراغبين في التغيير باتجاهها. لكن الجماهيرية الجارفة التي تتمتع بها تدفع الآن باتجاه مخاض عنيف سيستمر لعقد أو عقدين، وعلينا جميعاً بحكم عروبتنا وإسلامنا، وبحكم التزامنا، ألا نقف في مواجهة الجمهور أو على الحياد.
أما وقوع المنطقة في قلب الصراع العالمي على الموارد والمصالح والنفوذ، فأقرب الأمثلة عليه ما جرى ويجري بلبنان. إذ بادر «حزب الله» المتربّص بسلاحه على حدود فلسطين المحتلة منذ انسحاب اسرائيل من لبنان عام 2000 – بادر بالهجوم على جنود إسرائيليين خارج حدود لبنان، فردّ الجيش الإسرائيلي بحرب جوية وبحرية وبرية شاملة خرّبت البُنى الأساسية اللبنانية، وقتلت حوالى الألفي لبناني، ودمّرت عشرات ألوف المساكن، وشرّدت حوالى المليون مواطن. وقد صرّح السيد حسن نصرالله زعيم «حزب الله – وهو مُحقّ في ذلك – بأن الحرب هذه المرة ليست إسرائيلية بل أميركية. في حين صرح الرئيس الأميركي جورج بوش – وهو محقّ في ذلك أيضاً – أن هجوم «حزب الله» على إسرائيل هو هجوم إيراني وسوري. وما اقتصر الأمر على المناطحة الأميركية – الإيرانية، بل ثار الجمهور العربي وبعض الإسلامي، واعتبر صمود «حزب الله»، وصواريخه على إسرائيل، بداية جديدة لتحرير فلسطين، بعد أن عجزت الأنظمة العربية عن ذلك من قبل. والواقع اننا لم نر من التحرير شيئاً، بل فجعنا الخراب الذي أصاب لبنان، والتهجير الفظيع الذي نزل بمواطنيه. ولا يزال الخوف يخالجنا من استمرار الصراع، بعد إعلان إيران عن نيتها الاستمرار في التخصيب، والاستمرار في مخاصمة أوروبا والولايات المتحدة، حول هذه المسألة ومسائل أخرى كثيرة.
إن الذي أُريد التوصل اليه من وراء هذا المثل الثاني للصراع ومتغيراته أن المشكلات يترابط بعضها ببعض، وأن الهجمة الأميركية تحت اسم «الحرب على الإرهاب» والتي بدأت بأفغانستان واستمرت بالعراق، استدعت ردود أفعال من جانب الأصوليات السنية والشيعية، وسواء كانت تنظيمات أو دولاً. وهذا الصراع يزيد من الضغوط على العرب وجوداً ومصالح وسياسات، وقبل ذلك وبعده تشكل نتائجه أثماناً باهظة يدفعها استقرارهم وقدرتهم على استيعاب مشكلاتهم والتصرف إزاءها.
يجد العربي نفسه بين أصوليات مسلحة: الأصولية الأميركية ذات الحروب الاستباقية، والصراعات الدونكيشوتية، والفهم الغريب والمأسوي لمسرح الصراع ومتطلباته. قبل سنتين تحدّث رامسفيلد عن حرب الأفكار، وتبين قبل أيام أن حرب الأفكار تُمارس بالطائرات والمدرعات، فقد زعم الرئيس بوش أن الصراع الآن مع «الفاشية الإسلامية» أو بين «الحرية والإرهاب ومن العراق الى لبنان»! ثم هناك الأصولية السنية الممتدة بين جبال أفغانستان وأنحاء أخرى كثيرة خفية وظاهرة، الى حد أن الرئيس بشار الأسد يتهددنا بالقاعدة في لبنان! وهي مستجدة في مواجهة إسرائيل، وعريقة في مكافحة التغريب والأمركة، كما هي عريقة في الانتحاريات بالداخل العربي والإسلامي! وهناك أخيراً الأصولية الشيعية التي تستخدمها إيران خارج حدودها، عندما ترى ذلك أو تعتقده ملائماً لمصالحها. والمشكلة أن العرب وحدهم في هذا الصراع لديهم مصالح مهددة. فالأميركيون مهيمنون على الطاقة والموارد والممرات الاستراتيجية، وتخريب العراق، ومواجهة إيران، لن يزيدهم هيمنة أو استفادة. أما إسرائيل فقد مضت الأزمنة التي كانت فيها عدوانيتها أو توسعيتها مفيدة أو ممكنة، ووجودها ليس مهدداً أو ضعيفاً، ولن يزيده وثوقاً تخريب لبنان، ولا قتل شعبه، أو الشعب الفلسطيني. وأما إيران فلست أدري كيف يفيدها هذا القتل الذريع بالعراق، وهذا الخراب المتسارع بلبنان. ومن جهة أخرى لست أرى – والله أعلم – أن التكنولوجيا النووية مهمة الى هذا الحد بحيث تجري المخاطرة بأمن البلاد والدولة من أجل النووي أو غير النووي!
أما العرب فالصراع كله جارٍ على أرضهم ومواردهم وموقعهم. وجارٍ على التفكيك والتخريب لأوطانهم في العراق وفلسطين... ولبنان، وحتى السودان والصومال! وهذا تحدٍ آخر يواجهه المثقفون الملتزمون العرب، أكثر مما يواجهه مقاتلوهم. المقاتلون حسموا أمرهم، وأقبلوا على الاستشهاد دونما تردد أو استئذان. أما المتشبثون بالحياة والمستقبل العربيين، فهم الذين تُثقل كواهلهم الهموم والصعوبات، وهم مخيّرون أو مجبرون بين المضي مع «المجاهدين» أو الارتهان للتردد وصولاً للاتهام بالتغريب أو بالخيانة! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد