العلاقات بين الدول الكبرى
في مرحلة الحرب الباردة لم تكن سياسات الدول الكبرى وإستراتيجياتها تتغير من سنة إلى أخرى، وربما من شهر لآخر، كما يحدث الآن، لا سيما منذ تولي جورج دبليو بوش رئاسة الولايات المتحدة الأميركية.
وهذا راجع لسببين اثنين أحدهما يتعلق بما يسود العلاقات الدولية من خوض نتيجة عدم قدرة الولايات المتحدة على فرض النظام الأحادي القطبية على العالم، كما نتيجة عدم قدرة الدول الكبرى الأخرى على فرض نظام تعدد القطبية بسبب معارضة أميركا له.
فأميركا في الحالتين القوة الكبرى "الوحيدة" القادرة على التخريب وإشاعة الفوضى. ولكن غير القادرة على البناء وإقامة النظام والاستقرار. وينطبق هذا الاستنتاج على الوضع الدولي ككل، كما على الدول التي احتلتها أو سيطرت على سياساتها.
أما السبب الثاني فراجع إلى معادلة دولية اختلفت عن معادلة مرحلة الحرب الباردة. وهذه المعادلة تتسم بتعاظم قوى المقاومة والممانعة في المجال الشعبي والرأي العام، وانفلاتها من ربقة الضغوط من قبل المعسكرين.
وذلك إلى جانب بروز دول عالم ثالثية متراوحة في ممانعتها للعولمة الاقتصادية ذات الطريق باتجاه واحد، كما ضد هيمنة الولايات المتحدة الأميركية، مثلا فنزويلا وإيران وبوليفيا في أعلى السلم، وكثرة من الدول التي تقف في الوسط المتردد والحائر.
وهنا لابد من ملاحظة التراجع المستمر عن الممانعة من جانب عدد من الدول العربية بما يتناقض حتى مع الاتجاه الدولي العام.
هذا التذبذب المتغير السريع في علاقات الولايات المتحدة بالدول الكبرى الأخرى لم يسمح لتلك الدول ببلورة سياسات وإستراتيجيات ذات ثبات وصدقية. وتظهر هذه السمة إذا لاحق المرء تغيرات السياسات الأوروبية والروسية والصينية والتداخل في كل سياسة بين الابتعاد عن السياسات الأميركية والتوافق معها.
فعلى سبيل المثال في خلال أسبوع واحد يمكن أن يتغير موقف روسيا من قضية معروضة في مجلس الأمن بين الرفض إلى الموافقة. ولا يغير من هذه الحقيقة أحداث بعض التغييرات في نص مشروع القرار ما دام الاتجاه العام الذي سعت إليه إدارة بوش قد ووفق عليه. وهنا أيضا ثمة تغير في الموقف الأميركي من التشدد إلى نصف أو ربع تشدد.
النموذج الصارخ لهذه الظاهرة تمثل في أغلب قرارات مجلس الأمن عام 2005 حتى الآن. ولم يشذ الملف النووي الإيراني وكيف مر من خلال مجلس الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى مجلس الأمن، وكيف راح يتراوح من جديد بين إطالة التفاوض والعودة إلى مجلس الأمن لإصدار قرارات بفرض عقوبات.
فأمام كل نقطة في مشروع قرار راحت تبرز تناقضات واختلافات ثم يحدث اتفاق حولها بعد تعديلات في المواقف وهذه لم تمر إلا عبر مساومات وتنازلات تقع في الغالب حول نقاط صراع بين أميركا وهذه أو تلك من الدول، لا علاقة لها بالملف النووي. لكن أميركا هي التي تدفع الثمن لروسيا والصين وربما فرنسا كذلك.
العلاقة الأميركية-الصينية تراوحت بدورها في معالجة الملفات المعروضة على مجلس الأمن، ومعظمها يخص البلاد العربية والإسلامية، بين التحفظات الصينية عن السياسات الأميركية والموافقة على صدور قرار من مجلس الأمن بعد تعديلات على مشروعه.
وكانت أميركا في كل مرة مضطرة لدفع الثمن للصين في قضايا تتعلق بتايوان أو التجارة بين البلدين. لكن في دارفور تركت الصين مشروع قرار إرسال قوات دولية يمر مع تسجيل تحفظها، وعدم موافقتها عليه. وذلك لأهمية موضوع السودان بالنسبة إليها.
بيد أن العلاقة الأوروبية-الأميركية هي الأكثر تعقيدا. وذلك عند تحديد أين موقع أوروبا، وعلى الخصوص فرنسا وألمانيا والآن إيطاليا وإسبانيا.
أما بريطانيا توني بلير فكانت ظلا للسياسات الأميركية بشكل أزعج غالبية البريطانيين. وهو على أية حال، في طريقه للاستقالة ومن ثم سيطرأ على العلاقات الأميركية-البريطانية بعض التغير، في إطار بقاء جوهر التحالف ثابتا.
ومع ذلك فإن هذا التغير سيكون مهما في مجرى العلاقات حيث لن تكرر هامشية سياسة توني بلير. وذلك باتجاه لعب دور بريطاني أقوى في التأثير في السياسات الأميركية التي راحت تتخبط بالأخطاء والإخفاقات في كل المجالات.
العلاقات الأميركية-الأوروبية لاسيما الفرنسية والألمانية دخلت بدورها مرحلة جديدة بعد التوتر الذي اتسمت به خلال العهد الأول لإدارة بوش 2001-2004. فمع بدايات العهد الثاني لإدارة بوش 2005 جنحت أميركا إلى ترميم علاقاتها بفرنسا وألمانيا.
وقد عادت إلى حلف الناتو باعتباره مرتكزا لتحالف ضفتي الأطلسي، كما رجعت إلى مظلة مجلس الأمن. وقد هجرتها تماما لشن الحرب على العراق. وهي بهذا تخلت عن إستراتيجية "تحالف الراغبين" التي وترت علاقاتها بأوروبا وجاءت الضربة القاضية لها من خلال انسحاب إسبانيا وإيطاليا منها. فلم يبق معنى لنظرية "تحالف الراغبين".
لم تكن أوروبا راغبة في ما حدث من توتر في علاقاتها بإدارة بوش في مرحلة 2001-2004. فمن أدار ظهره لتحالف الناتو ولمجلس الأمن كانت إدارة بوش. ومن عاد إلى حلف الناتو ومجلس الأمن كانت إدارة بوش. وذلك نتيجة لما عانته من عزلة دولية ولا سيما فشلها الصارخ في العراق.
ومن هنا يخطئ من يظن أن أوروبا عادت إلى "بيت الطاعة" في مرحلة إعادة رأب الصدع الأميركي-الأوروبي. وإذا كان أول ما يهم السياسات الأوروبية، خصوصا فرنسا (وهذه سمة دولية ملازمة لكل الدول) هو دورها وموقعها في السياسات الدولية، فإن النتائج الواقعية لعودة العلاقات الأميركية-الأوروبية تكشف عن أن أميركا هي التي تراجعت فيما تعاظم الدور الأوروبي في السياسات الدولية وهذا ظاهر في قرارات مجلس الأمن وفي معالجة البرنامج النووي الإيراني، وفي قرار 1701، وقيادة "اليونيفيل" في لبنان.
طبعا في المقابل تراجعت أوروبا عن بعض مواقفها إزاء القضية الفلسطينية ولبنان وسوريا والعراق، وحتى في مسائل الخروقات الأميركية لحقوق الإنسان (السجون الطائرة مثلا) لكن هذه التراجعات ليست ذات أهمية بالنسبة إلى أوروبا إذا كان المقابل دورا أكبر في السياسات الدولية، وحتى في السياسات المتعلقة بفلسطين (الإشراف على معبر رفح) أو بلبنان (قرار 1559 و1701 واليونيفيل) أو بالعراق (بانتظار دور قريب قادم) أو بإيران (تسلم المفاوضات في الملف النووي).
بل حتى تلك التراجعات لم تؤثر في علاقاتها الفلسطينية والعربية عدا مع سوريا بسبب ابتلاع المعنيين فلسطينيا وعربيا التراجعات الأوروبية مما يشجع أوروبا لتكسب "الحسنيين".
المهم في قراءة العلاقات الأميركية الأوروبية في هذه المرحلة يقتضي التخلص من الموضوعة المتهافتة التي اعتبرت أوروبا قد عادت إلى "بيت الطاعة". وذلك من دون أن ترى الأثمان المقابلة التي دفعتها أميركا لأوروبا.
ومازالت تدفعها مع طرح كل قضية في مجلس الأمن، أو تحرك دولي، أو عند التوصل إلى حلول. فمثلا تنازلت إدارة بوش لأوروبا عمليا في إدارة الصراع في أفغانستان عن جزء كبير من دورها المنفرد وذلك حين سلمت الأمر كله لحلف الأطلسي. وقد حدث تنازل أكبر في قيادة قوات اليونيفيل وتحديد صلاحياتها في لبنان.
فالمعادلة الأميركية-الأوروبية في هذه المرحلة تدخل ضمن الإطار العام الذي اتسمت به العلاقات الأميركية بكل من روسيا والصين.
هذا الإطار للعلاقات الدولية، المتشكل من 2005 حتى الآن سمح لوزيرة الدفاع الفرنسية ميشال أليو ماري أن تؤكد في المنامة في "مؤتمر أمن الخليج" أن العلاقات الأوروبية الأميركية لا تقوم على أساس نظام عالمي أحادي القطبية، وإنما تقوم على تعدد القطبية، والمشاركة بدور أكبر لأوروبا بما في ذلك السعي لتغيير الأحادية الأميركية في "المحافظة على أمن الخليج" إلى ثنائية قطبية أميركية-أوروبية.
ولهذا مغزاه لمن يرفع عن عينيه تلك الغشاوة التي تحول دون رؤية سمات الوضع الدولي الراهن والذي هو أقرب بالتأكيد إلى تعدد القطبية منه إلى أحادية القطبية.
صحيح يمكن القول أن نسبة الدور الأميركي داخل إطار تعدد القطبية أكبر من نسبة دور أية قضية. فأميركا عندئذ غير قادرة على الانفراد في فرض رأيها، ولا في الخروج عن التوافق الدولي، كما فعلت بين 2002 و2004.
بل هي في حالة ابتزاز وتقديم تنازلات مقابل تمرير قرار يخص أحد بلداننا.
هذه المعادلة غير مقنعة ولا مريحة بالنسبة إلى المحافظين الجدد (الإدارة الأميركية). فما أجبرهم عليها كان فشل إدارتهم في العراق ثم الفشل في فلسطين كما الفشل في تهاوي "أحجار الدومينو" في منطقتنا خشية من المصير الذي نزل بالنظام العراقي السابق، كما الفشل في أفغانستان إلى جانب العزلة عن الرأي العام العالمي، وتدهور شعبية جورج بوش في الولايات المتحدة الأميركية وارتفاع منسوب فضائح الإدارة والاحتجاجات ضده.
هذه المعادلة الدولية مناقضة لما رسمه المحافظون الجدد من معادلة دولية في إستراتيجية الأمن القومي الأميركي في 20 سبتمبر/أيلول2002. ومن هنا يمكن اعتبار الحرب التي قررتها إدارة بوش وحكومة أولمرت على لبنان في 12/7/2006 ولمدى 33 يوما، استهدفت فيما استهدفت استعادة المبادرة الأميركية لغرض الانفرادية الأميركية.
فعلى الرغم من حرص إدارة بوش على تغطية العدوان الإسرائيلي على لبنان ببيان صادر عن قمة مجموعة الثماني في بطرسبورغ فإنها انفردت بقرار الحرب واستمرت بها ورفضت توقفها إلى أن تأكد فشل الجيش الإسرائيلي في الميدان بعيدا عن التوافق الدولي أو المشاركة الأميركية-الأوروبية.
طبعا لم تأخذ الخلافات الشكل الذي اتخذته في حرب العدوان على العراق، لكن من يرصد التحركات الدبلوماسية والمواقف الدولية لاسيما منذ الأسبوع الثاني أو في مؤتمر روما يلمس أن إدارة بوش حاولت من هذه الحرب العودة إلى الانفراد والغرض ليس بالنسبة إلى الوضع في لبنان فحسب وإنما أيضا بالنسبة إلى علاقاتها الدولية بالدول الأخرى.
فالفشل الذريع الذي مني به الجيش الإسرائيلي أمام المقاومة الإسلامية في الميدان، وقد نجم عنه فشل أشد للدبلوماسية الأميركية التي قادتها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، أعادا إدارة بوش مرة أخرى للبحث عن التوافق الدولي ومجلس الأمن وتقديم التنازلات لروسيا والصين وخصوصا أوروبا. الأمر الذي كرس درجة من تعدد القطبية أعلى نسبيا مما كان عليه الحال من مطالع عام 2005 إلى 12 تموز/يوليو 2006.
منير شفيق
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد