سورية: حرب الناتو "الإنسانية" التالية (28)
الجمل- قسم الترجمة- *بول كريغ روبرتس- ترجمة: د.مالك سلمان:
يتساءل المرء ماذا يفكر السوريون بينما يأخذ "الثوار" الذين أقسموا على "تحرير سوريا" البلادَ إلى الدمار كما فعلَ "ثوار" ليبيا ببلدهم. في ليبيا – التي كانت في عهد القذافي بلداً تُدار بطريقة جيدة و يفيد شعبها من العائدات النفطية عوضاً عن احتكارها من قبل مجموعة من الأمراء, كما هي الحال في المملكة السعودية – ليس هناك حكومة الآن, كما تعمها الفوضى وتتصارع فيها فصائل متناحرة على السلطة.
كما لم يعرف أحد هوية "الثوار" الليبيين الذين تغلغلت إلى صفوفهم عناصر من القاعدة, لا أحد يعرف ماهية "الثوار" السوريين أيضاً, أو إن كانوا ثواراً حتى. حيث يبدو بعض "الثوار" مكونين من عصابات تستغل الفرصة لتقوم بأعمال النهب والسلب وتنصبَ نفسها كحكومات على القرى والبلدات. أما الآخرون فيبدو أنهم من القاعدة.
حقيقة أن "الثوار" مسلحون تشير إلى تدخل خارجي. ظهرت تقارير تفيد بأن واشنطن قد أوعزت إلى الحكومتين الدميتين, السعودية والبحرين, لتزويد "الثوار" بالأسلحة العسكرية. ويعتقد البعض أن الانفجار الذي قتل وزير الدفاع السوري ورئيس إدارة الأزمة في الحكومة لم يكن من عمل شخص انتحاري, بل من صنع صاروخ أمريكي أو طائرة آلية (دون طيار) أمريكية على غرار محاولات واشنطن الفاشلة لقتل صدام حسين. بغض النظر عن ذلك, اعتبرت واشنطن الهجوم بصفته نجاحاً, معلنة أنه برهنَ على أن "الثوار" يحققون "تقدماً حقيقياً", كما دعت الحكومة السورية إلى الاستقالة بعد هذا الهجوم.
فيما يلي مقطع من وثيقة استخبارية مسربة تصف تدخلاً إرهابياً غربياً سابقاً في سوريا, في حالة كان بعض قرائنا ساذجين إلى درجة اعتقادهم بأن "حكومتنا لا يمكن أن تفعل شيئاً من هذا القبيل":
"من أجل تسهيل عمل القوات التحريرية، ...يجب التركيز على تصفية بعض الشخصيات الهامة ... ويجب تحقيق هذا الهدف في مرحلة مبكرة من الانتفاضة والتدخل، ...
حالما يتم اتخاذ قرار بالمباشرة بخلق الفوضى الداخلية في سوريا، تكون ‘سي آي إيه’ جاهزة، كما ستحاول ‘إم آي 6’ افتعال أحداث تخريبية على نطاق محدود داخل سوريا, بالتعاون مع بعض الأفراد. ... يجب ألا تتركز الحوادث في دمشق ... وبعد ذلك: إن ‘درجة ضرورية من الخوف ...والأحداث الحدودية (المرتبة)’ سوف ‘تؤمن ذريعة للتدخل ... ويجب على ‘سي آي إيه’ و ‘إم آي 6’ استخدام ... قدراتهما في المجالين النفسي والميداني لخلق التوتر." (وثيقة استخباراتية أمريكية – بريطانية مسربة, لندن وواشنطن, 1957)
لم يفسر أوباما سبب محاولة حكومته اليائسة إسقاط الحكومة السورية. كان الرئيس الحالي طبيبَ عيون في لندن تمت إعادته إلى سوريا ليحلَ محلَ أبيه الراحل كرئيس للبلاد. واشنطن متحفظة حول دوافعها الحقيقية التي تقنعها ببلاغة إنسانية عالية النبرة, لكن دوافعَ واشنطن شفافة.
يتجلى أحد الدوافع في التخلص من القاعدة البحرية الروسية في سوريا بهدف حرمان روسيا من قاعدتها الوحيدة في البحر الأبيض المتوسط.
أما الدافع الثاني فيتمثل في القضاء على سوريا كمصدر للسلاح إلى حزب الله لكي تتمكن إسرائيل من احتلال جنوب لبنان والسيطرة على مصادره المائية. فقد أفشلَ مقاتلو حزب الله مرتين المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى غزو جنوب لبنان واحتلاله.
الدافع الثالث هو تدمير وحدة سوريا عن طريق النزاع الطائفي, كما دمرت واشنطن ليبيا والعراق, وترك سوريا للفصائل المتناحرة لتقطيع أوصالها, مما يؤدي إلى إزاحة عقبة أخرى في طريق هيمنة واشنطن. ... ...
تغطي واشنطن دائماً إسقاطها العنيف للحكومات الأخرى بلغة أخلاقية. أولاً, تتم شيطنة الهدف, ومن ثم يتم توصيف عدوان واشنطن المباشر على أنه يهدف إلى "إحلال الحرية والديمقراطية," و "الإطاحة بدكتاتور متوحش", و "حماية حقوق النساء". ويبدو أن أي كلمات أو عبارات من هذا النوع تفي بالغرض المطلوب.
كانت هيلاري كلينتون متحمسة بشكل خاص لإسقاط الحكومة السورية. حتى أن الغبية أطلقت تهديدات ضد روسيا والصين لتجرئهما على إعاقة محاولة واشنطن استغلال قرار صادر عن "الأمم المتحدة" كغطاء لغزو سوريا. تسيء واشنطن تصوير مقاومة الحكومة السورية ضد المحاولات الرامية إلى إسقاطها من خلال تقديمها كحكومة ترهب شعبَها. لكن واشنطن لم تقم بإدانة الهجمات الإرهابية, سواء الهجمات التي تنفذها هي أو تلك التي يقوم بها الإنتحاريون الإرهابيون, التي أودت بحياة مسؤولين سوريين كبار. وقد دفعت معاييرُ واشنطن المزدوجة وزيرَ الخارجية الروسي, سيرغي لاڤروڤ, لاتهام واشنطن باتخاذ "موقف شرير".
وهذا, في الحقيقة, هو موقف واشنطن. ولكن ما هو المدهش في موقف واشنطن الشرير بعد العراق وأفغانستان وليبيا والصومال والباكستان؟ من المؤكد أن واشنطن ستنتقل إلى إيران في حال تمكنت من إسقاط سوريا. كما أن روسيا نفسها مطوقة بقواعد الصواريخ الأمريكية, وهناك معرضة خائنة ومناوئة للحكومة الروسية تتلقى تمويلاً أمريكياً. وتواجه الصين نمواً متسارعاً للقواعد الأمريكية الجوية والبحرية والعسكرية في المحيط الهادىء. متى ستظهر معارضة صينية مناوئة للحكومة وممولة من قبل واشنطن؟
المارد يتقدم, لكن مايراه السنة السوريون هو فرصة للإطاحة بالشيعة العلويين [؟!]. إذ إن السنة السوريين مستعدون للتحالف مع واشنطن على الرغم من إسقاطها للسنة العراقيين. يبدو أن معظم العرب لا يمانعون في أن يكونوا دمىً في يد نظام أجنبي يشتريهم بمليارات الدولارات.
تصف واشنطن الرئيس السوري بشار الأسد على أنه "دكتاتور" أو "دكتاتور دموي", ولكن لو أن الأسد دكتاتور حقاً, فإنه لا يلعب دورَ الدكتاتور بشكل صحيح؛ فالدكتاتور لا يسمح بظهور معارضة, ناهيك عن معارضة مسلحة. لذلك, من الأصح القول إن الحزب الحاكم سلطوي, لكن الحزب الحاكم قد أدخل مبادىءَ ديمقراطية في الدستور الجديد.
وكما أثبتت العراق, على الحكومات العربية أن تكون استبدادية لكي لا تسمح لمواطنيها السنة والشيعة بالدخول في حروب أهلية دائمة. يزعم بوش وأوباما أن واشنطن جلبت "الحرية والديمقراطية" إلى العراق. لكن العنف الدائر في العراق أكثر شدة الآن مما كان تحت الاحتلال الأمريكي. إليكم تقارير الأيام الثلاثة الأخيرة:
23 تموز/يوليو: "موجة من الانفجارات وإطلاق النار في بغداد وشمال العاصمة تقتل 107 أشخاص على الأقل. وهناك 216 جريحاً على الأقل."
24تموز/يوليو: يوم ثانٍ من الهجمات المكثفة تودي بحياة 145 عراقي على الأقل, بالإضافة إلى 379 جريحاً."
25 تموز/يوليو: "الهجمات مستمرة في كافة أنحاء العراق: مقتل 17, وجرح 60."
هذا ما فعلته واشنطن بالعراق. فبدلاً من أن تجلب واشنطن "الحرية والديمقراطية", جلبت الفوضى والموت. وهذا بالتحديد ما تعمل واشنطن على جلبه إلى سوريا.
*بول كريغ روبرتس (الأمين المساعد السابق لوزارة المالية الأمريكية, والمحرر المساعد ﻠ ‘وول ستريت جيرنال’)
("كاونتربَنتش", 27 تموز/يوليو 2012)
الجمل: قسم الترجمة
إضافة تعليق جديد