الانتخابات الأمريكية: قضايا خارجية في انتخابات محلية

23-11-2006

الانتخابات الأمريكية: قضايا خارجية في انتخابات محلية

 خلال عشرات السنين الماضية لم تنقطع المتابعة العربية الرسمية والفكرية والإعلامية والشعبية للانتخابات الأميركية، وإنما غلبت عليها أساليب واستنتاجات تثير السخرية المريرة، كالقول إن صوت الناخب الأميركي ينوب عن الناخب العربي المحروم من اختيار مَن يحكمه وسياسات الحكم إلا من بعض عمليات تصويت مقيد ومشوه مضمونا وإخراجا.

وفي الآونة الأخيرة فقط بدأ ينتشر شيء من التنويه بأن الانتخابات الأميركية لا تغير أسس السياسة الأميركية أو توجهاتها المحورية وإن بدلت أشكال إخراجها، فآن الأوان إذن للتخلي عن "التلهف والتخوف" في انتظار جولاتها جولة بعد جولة، ليصاب عاقدو الأمل عليها بخيبة أمل بعد أخرى.

هذا ما يسري على الانتخابات النصفية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2006م، وكان التركيز العربي عليها كبيرا كالمعتاد أو أكثر، لا سيما بعد أن ظهر للعيان أن مأساة حرب احتلال العراق تحتل مكانة متميزة بين عوامل ترجيح حزب على حزب ومرشح على مرشح.

وإن متابعة تلك الانتخابات ونتائجها مع رصد العناصر الحاسمة والجانبية في مجراها وفيما يُتوقع بعدها موضوعيا، تستدعي التمييز الدقيق بين تلك العناصر، وقد تداخلت في كثير من التحليلات والتعليقات إلى درجة تُضعف موضوعية التقويم وتضيع الفائدة منه.

من ذلك على سبيل المثال العناوين المعدودة التالية لصور متقابلة، وإن ظهر فيها شيء من التبسيط يفرضه الإيجاز والبقاء في حدود ما يرتبط بموقع القضايا العربية والإسلامية:

إن العراق لم يكن لدى الناخب الأميركي عاملا رئيسيا بسبب تدمير العراق نفسه، دولة ووحدة وطنية وبذورَ تقدم علمي وتقني واعد، بل كان صوت الناخب متأثرا بعجز حكومته الأميركية عن السيطرة على العراق رغم تدميره، والأهم من ذلك ما سببه هذا العجز من ارتفاعٍ في حجم النفقات المالية، على حساب الناخب واحتياجاته الاجتماعية والاقتصادية.

إن هبوط شعبية الجمهوريين وزعاماتهم لم يكن بسبب مقتل مئات الألوف من أهل العراق، وإصاباتٍ لا تُحصى وتشريد لا ينقطع بل كان في الدرجة الأولى بسبب مقتل زهاء ألفين وإصابة عشرات الألوف من الجنود الأميركيين.

إن تقدم الديمقراطيين وزعاماتهم لم يكن بسبب سياسات ودية تجاه العرب والمسلمين وقضاياهم يمكن أن تحل محل ما سمي حربا على الإرهاب، أو تجمل وجهها -"الإرهابي" أيضا- بل كان بسبب كثرة الأخطاء التي ارتكبها خصومهم الجمهوريون في أسلوب خوض تلك الحرب وفي ميادين أخرى.

إن سقوط وزير الدفاع الأميركي رمسفيلد لم يكن نتيجة "مباشرة" لِما صنع في غوانتانامو وأبوغريب وسواهما، بل يأخذ هذا مكانا محددا في إطار حلقة من مسلسل طويل، من أهم حلقاته الحاسمة انتخابيا تضخمُ الخلل بالمنظور الأميركي في موازين الربح والخسارة، قياسا على الأهداف التي أعلنها رمسفيلد نفسه قبل خمسة أعوام، ووجدت القبول والتأييد عموما، ولكن أفسدت ذلك الوسائلُ المتبعة منذ بدء الحروب الأميركية الجديدة، ويمكن أن يعود التأييد إذا اتبعت وسائل أخرى، لا تثير "ضجة" ولا تسبب "خسارة".

إن كثيرا مما سبق يعبر عنه التركيز على عبارة "إساءة السمعة الأميركية عالميا".

إن ما رجحته الانتخابات بشأن تعديل الصيغة الشمولية/ الإستراتيجية للسياسات الدولية الأميركية، لا يحصل إذا حصل نتيجةَ رفض الناخب الأميركي لعنصر الهيمنة المحوري في تلك السياسات، وهي هيمنة تصنعها مراكز قوى شبه دائمة في حلبة الصراع الداخلي ومسيطرة غالبا، وباتت تستهدف المنطقة الإسلامية أكثر من سواها، بل قد يأتي التعديل المرجح، بحثا عن وسائل بديلة أو مكملة، بعد إخفاق وسائل سابقة، ودون تغيير أهداف الهيمنة تغييرا يستحق الذكر.

لهذا فإن الزلزال السياسي بالمنظور الداخلي الأميركي لنتائج الانتخابات النصفية الأميركية عام 2006م، يمكن أن تكون نتائجه -من حيث الجوهر والحصيلة وليس مظهر التعامل اليومي- سلبيةً للغاية على صعيد المنطقة العربية والإسلامية.

إذا ما بقيت العلاقات قائمة على ركيزتي الهيمنة هنا والتبعية هناك مع أساليب تجميلية، أقرب إلى تهدئة الثورة المضادة على المستوى الشعبي، ومستوى المقاومة، وأقرب إلى إعطاء مسوغات وهمية لدعاة مزيد من التبعية تجاه الدولة الأميركية، فالحصيلة آنذاك هي إيجاد ظروف سياسية ودبلوماسية أنسب، لتمرير كوارث سياسية كبرى، من مثل تصفية قضية فلسطين، وتأجيج موجات صراع جديدة، على محور قومي بين عرب وأكراد وأتراك، أو على محور ديني بين سنة وشيعة وربما مسيحيين ومسلمين.

السياسات الأميركية تجاه جميع القضايا العربية والإسلامية بدءا بقضية فلسطين ومرورا بأفغانستان والعراق والصومال وانتهاء بتهديد سورية ولبنان، ليست محور خلاف جذري بين هذا الفريق وذاك، ولن تتبدل كثيرا بحصيلتها، وإن سقطت لغة العنجهية والاستعلاء، مع التبجح بالإجرام على صعيد حقوق الإنسان، كما غلب على أقطاب المحافظين الجدد.

إن الخطوط الكبرى في السياسات الأميركية لا ترسمها غالبية جمهورية بصورة متناقضة مع غالبية ديمقراطية، بل ترسمها غالبية مراكز القوى الأميركية من وراء الديمقراطيين والجمهوريين معا، ومن وراء جميع من تعاقبوا ويتعاقبون على منصب الرئاسة وإدارة الدولة.

على المستوى الدولي لم يبدأ في عهد بوش الابن من الجمهوريين مسلسل الانسحاب من المنظمات والاتفاقات الدولية، على أصعدة مكافحة الألغام ضد الأشخاص، أو مواجهة أخطار تبدل المناخ، أو تشكيل المحكمة الجزائية الدولية، أو اتفاقية حظر الصواريخ المضادة للصواريخ النووية البعيدة المدى، أو سوى ذلك مما أصبح التبجح به واضحا، وإنما كانت البداية الأولى لجميع هذه الخطوات دون استثناء في عهد سلفه كلينتون من الديمقراطيين.

طرح شعار الزعامة الانفرادية الأميركية عالميا مع تسويق شعار نظام عالمي جديد لم يطرحه الجمهوريون المحافظون بعد وصولهم إلى السلطة مع بوش الابن، بل كان طرحه في عهد بوش الأب من الجمهوريين، ولم يتبدل العمل من أجله طوال ثماني سنوات تالية في عهد كلينتون، ثم السنوات التالية في عهد بوش الابن.

مشروع الدرع الصاروخي الذي ينقل التسلح والسباق عليه إلى الفضاء الكوني لم يبدأ تمويله مؤخرا بل كان طرحه لأول مرة في عهد ريغان، وتقلب على حسب إمكانات التمويل ليأخذ مجراه من جديد في عهد كلينتون، ويزداد رسوخا في عهد بوش الابن.

وعلى مستوى القضايا العربية والإسلامية لم تتغير سياسة واشنطن تجاه مكافحة التسلح بأسلحة حديثة رادعة لعدوان خارجي طوال عشرات السنين الماضية تجاه باكستان وإيران، وتجاه مصر وسورية وتجاه العراق والسعودية،
وإنما اختلفت الوسائل ما بين السيطرة المباشرة من داخل الحدود عبر ثغرات اتفاقات التوريد، وقطع الغيار، والتدريب، والخبراء، وأجهزة المخابرات، والقواعد العسكرية، وبين الحرب الشاملة كما كان في العراق، مع عدم استبعاد أن يصيب سواه ما أصابه، ولكن بإخراج جديد، بغض النظر عن اسم الرئيس الأميركي، وما هي الغالبية الموجودة في واشنطن.

والتحول في السياسة الأميركية على صعيد قضية فلسطين من سيئ إلى أسوأ لم تتبدل درجاته وسرعته وطرق إخراجه نتيجة انتخابات أميركية، بل كان يتبدل على حسب ما يتم تنفيذه من مخططات سابقة للبدء بمخططات أخرى، وعلى حسب ما يقع من تراجع على الجبهة المحلية من عصر القومية والاشتراكية، إلى حقبة الدول المواجهة والمساندة، إلى مرحلة الهرولة الرسمية والمقاومة الشعبية على صعيد التطويع الأمني المطلق والتطبيع لما لا يمكن تطبيعه.

أما آن الأوان أن ننظر إلى الانتخابات الأميركية على أنها شأن داخلي أميركي، وأن ننظر إلى قضايانا جميعا على أنها شأن داخلي إسلامي أو قومي أو وطني، وأن العلاقات المنبثقة عن ذلك بالدول الأخرى كبيرها وصغيرها لا تستقيم إلا بقدر ما تنبثق عن استقامة تعاملنا مع قضايانا الذاتية ذاتيا، ومع بعضنا بعضا من منطلق المصلحة العليا المشتركة بيننا جميعا؟ 

ليست المشكلة كامنة فقط في اختزال العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية بين عنوان دولة معادية وعداؤها ظاهر للعيان، ودولة صديقة وصداقتُها قائمة على مصالح ذاتية قد يكون بعضها مشروعا وعلى مطامع هيمنة عالمية ليس فيها شيء مشروع إطلاقا.

وإنما المشكلة الكبرى كامنة أيضا في أن منطلق تحديد تلك العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية، سيان حجم عدائها وحجم صداقتها، لا يصدر عن أنفسنا ومصالحنا، وواقعنا وإعطاء الأولوية للوطن، أو المجموعة الإقليمية التي ننتمي إليها انتماء قوميا أو دينيا أو حضاريا، فقد تعددت العناوين تمزيقا وعداء محليا، ولم تتعدد بحثا عن القواسم المشتركة الكثيرة المتوافرة تكتلا وتعاونا وتضامنا ومواجهة مشتركة متكاملة للأخطار الخارجية المتفاقمة.

وليست المشكلة كامنة في رصد الانتخابات الأميركية وما تفرزه، ولكنها كامنة في وضع ذلك موضع الصدارة في التفكير في قضايانا، وليست هي قضايا الناخب الأميركي ولا قضاياه قضايانا، وقد باتت النظرة العلنية لا سيما على المستوى الرسمي في بلادنا تزعم أن تطور أوضاعنا مرتبط بنجاح فلان أو فلان، والحزب الفلاني أو الحزب الفلاني في الولايات المتحدة الأميركية، وجل ما تسفر عنه تلك النظرة هو تكييف سياساتنا وتعديل أهدافنا وربط مصائر قضايانا بدرجة الانحياز الشديد أو الأقل شدة من جانب واشنطن.

يجب أن نرصد ما يجري في العالم حولنا بدءا بجورجيا ونزاعها مع موسكو، وانتهاء بدولة كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية، ولكن لا يفيد الرصد إلا بعد تحديد "من نحن" وأين موقع قضايانا لدينا داخليا في العلاقة مع الشعوب، وإقليميا في العلاقات بين دول المنطقة، وعالميا في إطار شامل لدول العالم؟
وذلك ليكون للرصد قيمة استيعاب ما يجري للتعامل معه من منطلق مصلحتنا المشتركة العليا، وليس من المنطلق الانهزامي المتدني بحثا عن الزاوية التي تبقيها لنا درجة الانحياز الجديدة بعد الانتخابات هنا وهناك، لنحشر أنفسنا ودولنا وسياساتنا فيها حشرا.

إن مطلب التحرير تحرير بلادنا جميعا، بدءا بالعراق وفلسطين وأفغانستان ليس مطلبا موجها إلى المحافظين أو الديمقراطيين، بل هو مطلب ثابت لا يتبدل ولا يتغير، ولا ينبغي أن تتبدل الوسائل المفروضة المشروعة لتحقيقه، مقاومة بمختلف أشكالها، وتعاونا علنيا مع المقاومة المشروعة، ودعما علنيا لها.

وليس مجهولا أن الحصار المضروب حول فلسطين مثلا لا يفعل فعله بسبب صدور القرار عن واشنطن أو بروكسل، بل يفعل فعله لأن المشاركة فيه تشمل أقرب المقربين لفلسطين وأهلها من العرب والمسلمين، رغم أن حصيلة ما يجري في فلسطين يصيب بعواقبه الجميع دون استثناء.

إذا كان من درس يُستفاد من الانتخابات النصفية الأميركية، فقد يبدو لنا -ما دمنا لسنا أميركيين- في أن بوش من الجمهوريين يعرض بعد الهزيمة الانتخابية التعاون مع خصومه من الديمقراطيين، فيما يحقق المصلحة الأميركية المشتركة.

والسؤال الذي يطرح نفسه على مَن لا تجري لديهم انتخابات أصلا أو تجري ولا تغير شيئا، هو ما إذا كانوا على استعداد بعد انتخابات الأميركيين، أن يعرضوا على بعضهم بعضا التعاون فيما يخدم المصلحة الذاتية العليا، بدءا بالفريقين المتنازعين في لبنان، أو على مستوى العلاقات الإيرانية العربية، أو على صعيد ما وقع بين سورية ومصر والسعودية والأردن، أو على أي صعيد وطني وعربي وإسلامي آخر، شريطة "تطهيره" من التبعية للولايات المتحدة الأميركية وسواها.

أي انطلاقا مما تفرضه على العرب والمسلمين دماءُ الضحايا في العراق، ودماء الضحايا في فلسطين وفي لبنان وفي أفغانستان وفي الصومال وفي كل مكان من الأرض العربية والإسلامية.

وهنا مغزى الدرس الثاني من تلك الانتخابات، فنتيجتها تلك نتيجة لم تفرضها هذه الدماء، وإنما فرضتها دماء الجنود الأميركيين على الناخب الأميركي وعلى المسؤول الأميركي.

نبيل شبيب

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...