البُعد الإنساني في الهوية العربية الإسلامية
البحث يدور حول البُعد الإنساني في داخل الإنسان العربي المسلم، وفي هويته..الأبعاد في الهندسة هي: الطول والعرض والارتفاع، هذه أبعاد المكان، ثم أضيف إلى هذه البعاد الثلاثة بُعدٌ جديد وهو الزمان. هذه الإضافة ليست قديمة، إذ لم نكن نعلم أن لبعد الزمان صلة بأبعاد المكان.
وحين صار الزمان بُعداً رابعاً معتبراً؛ فهم الناس الوجود فهماً جديداً ونسبياً، وقد سئل العالم الذي أضاف بُعد الزمان وجاء بنظرية النسبية، سُئل عن الكيفية التي يمكن بها تقريب هذا المفهوم إلى ذهن الإنسان العادي، فأجاب بأن الناس يظنون أن الزمان والمكان سيبقيان بعد فناء المادة، فإذا فهموا أن الزمان والمكان لا يبقيان بعد فناء المادة؛ فسيفهمون هذه المشكلة.
إن الأبعاد الأربعة التي ذكرناها هي أبعاد الوجود المادي، أي أن الوجود المادي يقاس بالأبعاد الثلاثة المكانية وببعد الزمان.
لكن اطلاعي ودراستي كشفا لي أن هناك أبعاداً أخرى، فقد أضاف المؤرخ جون آرنولد توينبي بعدين آخرين فقال: هناك بُعد خارج عن نظام المادة وهو بُعد الحياة، حيث أن الساعة لا تصنع ساعة مثلها، بينما الحياة تصنع نسخة أخرى من نفسها. فبُعد الحياة هو البُعد الخامس، أما البُعد السادس فهو الإنسان، وحين نقول: البُعد الإنساني فإننا نعني بُعداً جديداً مضافاً إلى الأبعاد الأخرى، وكل بُعد من هذه الأبعاد يضيف وجوداً جديداً وبتسلسل هندسي، وفي قمة هذه الأبعاد نجد البُعد الإنساني.
وقد انصبَّت دراستي على محاولة بحث هذا الموضوع لتقريب مفهوم البُعد الإنساني وبُعد الإنسان إلى الأذهان، ليتم لنا فهمه أولاً ثم ننتقل إلى أنفسنا فنقيسها به، ونكشف ما لدينا من البُعد الإنساني.
البُعد الإنساني في الخطاب القرآني:
ربما يؤهلني وضعي لبحث هذا الموضوع من الجانب الإسلامي، فأنا مسلم أولاً، وقد تشرّبت الثقافة الإسلامية في معهدٍ عريق هو الأزهر الشريف، من المرحلة الابتدائية إلى أن تخرجت من الجامعة، لذلك فإنني حين أقوم بتوضيح هذه الأبعاد، إنما أوضحها بأمثلة قرآنية وإسلامية، لأعطي للإنسان البُعد الحقيقي أو البُعد السادس من أبعاد الوجود.
ولكن كيف يعرض القرآن البُعد الإنساني؟
لقد اهتم القرآن بعرض البُعد الإنساني في الوجود اهتماماً بالغاً، وعرضه بأساليب مختلفة ومتفاوتة من حيث الوضوح والدلالة، فقد قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30]، هذا المشهد هو المشهد التدشيني الذي أضيف به بُعدٌ جديد، أو وجود جديد، وهذا البُعد ليس من جنس الوجود فحسب، بل هو مهيمن عليه، فقد وضعه الله في المرتبة العليا من مراتب الخليقة.
وحين يتحدث الله عن الحياة ونمو الأجنة يقول عن الإنسان: {ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14]، أي أن هذا الوجود الجديد، هو وجود آخر ليس كوجود سائر المخلوقات المادية والحية، سواء ما كان منها جماداً أو نباتاً أو حيواناً، إنه نموذج جديد: {ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}.
ثم إنه تعالى يذكر شيئاً آخر فيقول: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (الحجر: 29]، لقد نُفخ في هذا الإنسان من روح الله، من روح رب العالمين خالق الكون. إنه ليس كالمادة، بل هو خلق آخر، وهو خليفة نفخ فيه من روح الله تعالى.
وحسن دشن الله هذا البُعد بأن جعل الإنسان خليفة في الأرض، جرى حوار جميل بينه تعالى وبين الملائكة، هذا الحوار يبرز البُعد الإنساني أيضاً، فحين قال تعالى للملائكة {إن جاعل في الأرض خليفة}، اعترض الملائكة على هذا الاستخلاف وقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسَبِّحُ بحمدك ونقدِّس لك} [البقرة: 30]، فكأنهم رأوا أنفسهم أعلى من هذا المستخلف فاتهموه بأنه غير جدير بهذا المنصب وهذه المهمة التي وكلت إليه، ألا وهي مهمة الاستخلاف في الأرض: {أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30]، إنها تهمة كبيرة، تهمة الفساد في الأرض وسفك الدماء، فما هذا الذي جعل الإنسان على هذا القدر ومستأهلاً للخلافة؟ ما الذي برز فيه ليكون حقاً خلقاً آخر من روح الله تعالى؟.
حين اعترض الملائكة على الاستخلاف محتجين بأن هذا الإنسان سيُفسد في الأرض ويسفك الدماء؟، رد الله تعالى بقوله: {إني أعلم ما لاتعلمون} [البقرة: 30]، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن حقيقة الإنسان ومستقبله غير ما قالته الملائكة، وغير ما نشاهده من أفعال الإنسان اليوم.
إننا نلاحظ أن الإنسان ما زال عند توقعات الملائكة، ما زال يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولذلك يصعب علينا أن نتصور ما يشير إليه الله تعالى بقوله: {إني أعلم ما لا تعلمون}، فنحن ما زلنا نعيش في مرحلة مبكرة من حياة الإنسان.
منهج القرآن في معرفة التاريخ:
أريد الآن أن أنتقل من العرض القرآني إلى عرض آفاقي أنفسي، وأريد أن أتحدث عن الإنسان من خلال المعرفة الإنسانية، فالإنسان قبل بضعة قرون لم يكن يعرف من تاريخه شيئاً، فقبل أربعة قرون كان الناس يقدّرون عمر الكون بأربعة آلاف سنة فقط، لقد حسبوا أجداد المسيح، وقدّروا لكلٍ عمراً معيناً، وخلصوا إلى أن عمر الكون لا يتجاوز أربعة آلاف عام.
لقد كانت المعرفة الإنسانية بتاريخ الإنسان محصورة بهذا الزمن المحدد القليل والمحدود جداً، ولكن المعرفة الإنسانية بالتاريخ بدأت بعد ذلك بالتوسع، وهنا أعود لأستشهد بآية قرآنية تعرفنا بمنهج البحث في تاريخ الإنسان على هذه الأرض، فالله تعالى يقول: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الأخرى} (العنكبوت: 20]، يقول لنا بكلمات بسيطة جداً: إذا أردتم أن تعرفوا كيف بدأ الخلق، خلق الإنسان، وخلق كل شيء موجود في الأرض، فعليكم أن تسيروا وتحدّقوا وتنظروا في الأرض، إنه تعالى لا يقول لنا الطريقة التي خلق بها الأشياء، بل يدلنا على المكان الذي يمكن لنا أن نعرف من خلال النظر والسير فيه الكيفية التي خلق بها الله الأشياء، والمراحل التي مرت بها المخلوقات إلى أن صارت على ما هي عليه الآن: {سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} (العنكبوت: 20]، سيروا في الأرض لا في مكان آخر، وانظروا بأعينكم لا تقرؤوا في كتاب ولا تسمعوا فقط، اقرؤوا في كتاب الكون تاريخ الكون، وكتاب الكون هو آيات الله في الآفاق والأنفس، فالأرض التي نسير عليها سجلت تاريخ الإنسان، وتاريخ الخلق، وقد قال أحدهم:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل
هذه الرسالة المكتوبة على الأرض، لا يستطيع أن ينكرها إنسان إلا إذا أنكر إنسانيته، لأنها تنطق بالحق، وتتكلم بالحق، والقرآن يأمرنا أن نعتمدها في علمنا.. يأمرنا أن نذهب إلى هذا المكان لنطلب فيه المعرفة.
لقد سار الإنسان في الأرض ونظر كيف بدأ الخلق، وعلم ما كان يجهله منذ أربعة قرون، فالناس كانوا يظنون أن الإنسان وجد على الأرض ومعه المحراث والثور، وأنه وجد عالماً بالزراعة والحصاد، لقد ظن الناس هذا؛ لأنهم منذ نشؤوا رأوا المحراث والثور، فحسبوا أن هذا وجد مع الإنسان الأول.
لقد رأوا آبائهم يعملون بالأرض والزراعة وتعلموا منهم فنونها، لكنهم لم يعرفوا كيف وصل آباؤهم إلى هذا، لم يعرفوا كيف بدأ الخلق.
إن هذه المعرفة كانت غير ممكنة بالنسبة للعالم كلّه، لكنهم حين بدؤوا يتأملون في الأرض؛ صارت الأرض تحدّث أخبارها، وزلزلت زلزالها، وكان الزلزال الأول الذي أصاب الناس حين عرفوا أن الأرض ليست مركز الكون، هذه المعلومة زلزلت الناس زلزالاً عظيماً، وصدمتهم صدمة شديدة إلى درجة أنهم كانوا مستعدين للموت ولقتل الآخرين في سبيل بقاء تصوراتهم السابقة، وقد فعلوا هذا، وما زالوا يفعلون مثله إلى اليوم.
لقد عرضت شيئاً عن معرفة الإنسان للتاريخ الإنساني، وعرضت قبل ذلك آيات من القرآن الكريم، لأنني أؤمن بوجوب السير في هذين المسارين معاً، وذلك بأن نعرض آيات الكتاب، ونعرض آيات الآفاق والأنفس. ولو كان مناسباً لعرضت هنا لموضوع العلاقة بين الكلام المخطوط وبين المعنى، بين الخط والوجود، بين الكتاب والواقع.
الكتاب والواقع:
إن معرفة الإنسان للكتابة والكتاب قد سبقت نزول الكتب، فالله سبحانه لم ينزل كتاباً إلا بعد أن تعلم الإنسان الكتابة، ولذلك قال: {وعلّم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، أي أعطاه القدرة على إطلاق الأسماء وتمييز الأشياء، ولكنه لم يقل إنه أنزل عليه كتاباً، وقال عن إبراهيم وموسى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18 - 19]، إذن، الكتاب والواقع مرتبطان لا ينفكّان، فإذا انفكّا ضاع كلٌ منهما، لأن المعرفة البشرية كانت تضيع من دون كتابة، ولا شك أنه قد كانت للإنسان تجارب كبيرة، ولكنها ضاعت لأنها لم تقيد بالكتاب، وكذلك الكتاب بدون الواقع، فهو يؤدي إلى خيالات جامحة، فلا بد من هذين الزوجين؛ لتستمر البشرية الحقة: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} [الذاريات: 49].
نعود إلى موضوع الإنسان، كيف كشف ذاته؟ كيف عرف تاريخه؟ إنه نظر إلى الشجر، نظر إلى النباتات؛ فرأى أن الشجرة تتحدث بأخبارها، وتشير إلى عمرها والسنين التي قضتها، حتى أن الإنسان الحاذق حين ينظر إلى الشجرة المقطوعة يستطيع أن يحدد إحداثياتها ومكان نباتها في الكرة الأرضية، بحسب نمو جذعها وغير ذلك من الدلالات فيها.
إنه يرى الأشجار التي تحجرت قبل آلاف السنين، ويستطيع أن يعرف منها أن سنة ما كانت خصبة أكثر من تلك، فهي تتكلم بهذا ولا يستطيع أحد أن ينكر حديثها، وقد صار الناس الآن في مستوى يمكّنهم من قراءة هذه الأحداث، فالجبال تحدثت، والصخور تكلمت، والمستحاثات والديناصورات أخبرت.
وبذلك فهم الإنسان أنه لم يكن قبل عشرة آلاف عام يعرف الزراعة، ولم يكن قد استأنس الحيوان بعد، بل كان عرياناً يعيش في المغارات، ويجمع طعامه كسائر الحيوانات، ويقضمه كالحيوانات أيضاً.
إنه تاريخ عجيب كشفه الإنسان، وبدأ يتابعه بالسير في الأرض والنظر كيف بدأ الله تعالى الخلق.
إنه لحدث عجيب أن العلماء جمعوا العظام المتحجرة لإنسان في الحبشة، في منطقة البحيرات التي طمرت، كانوا يجمعون العظم إلى العظم وحين يحللون العظام يجدون أن عمر هذا الهيكل العظمي الذي يدعى (لوسي) يمتد من ثلاثة ملايين إلى أربعة ملايين عام.
لقد تحدثت الأرض بأخبارها، وشهدت شهادة لا يستطيع أحد أن يكذبها، لأنه إن كذبها فقد ألغى إنسانيته وألغى الوجود، ألغى نطق الله، ألغى نطق الكون: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20]، لقد أتى على هذا الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، كان يأكل لحم أخيه الإنسان، وهذا ثابتُ تاريخياً، ولكن دعني أعود قليلاً إلى الكشف الإنساني للوجود وقراءته، وللواقع وقراءته، فخلايا الإنسان تتكلم، والوجود كله ينطق، وحين أراد الله استخلاف آدم في الأرض قاله له: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغداً حيث شئتما، ولا تقرباً هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [البقرة: 35]، فما هي هذه الشجرة التي منع آدم وزوجه من الأكل منها؟ لقد قال المفسرون في هذه الشجرة أشياء كثيرة، ولكن تفسيرها لم ينته بعد: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]، ولذلك نستطيع نحن أيضاً أن نتكلم عن هذه الشجرة بمعطيات عصرنا، كما أننا نستطيع أن نتكلم في الآية التي ذكر الله تعالى فيها وسائل المواصلات القديمة فقال: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 8]، فالمفسرون العظام والأئمة الكبار؛ لم يكن يخطر في بالهم، ولم يكونوا يتخيلون ما نراه اليوم بأعيننا: {ويخلق ما لا تعلمون}. وربما يكون التطور في مجال المواصلات أوضح من التطورات الأخرى، وقد انعكس هذا التطور على حياة الإنسان في كل المجالات.
لقد عاش الإنسان من مليونين إلى ثلاثة ملايين من السنين وهو يمشي على قدميه، وبعد ذلك استأنس الحيوان، وركب الحصان, وبعد عشرة آلاف عام ترجل وترك هذه الوسائل وركب شيئاً آخر.
الإنسان هو البعد الأهم إذن، ولذلك قال الله تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات} [الإسراء: 70].
إن هذا الخلق الآخر هو الذي نفخ فيه من روح الله، وهو المستخلف في الأرض.
لقد اتهمت الملائكة الإنسان بأنه سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن الله تعالى قال لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، ولذلك فإن ما يهمني جداً هو أن يصير بإمكاننا أن نتخيل أن للإنسان وجوداً غير هذا الوجود الذي نراه ونعيشه، وهذا ما عجزت الملائكة عن إدراكه، وهو ما بدأنا نتلمس ومضاته في هذا العصر النووي، فالإنسان إن لم يكف عن الحرب فإن تقنيته ستدمره، ولذلك صار مجبراً على التخلي عن سفك الدماء، وهذا ما لم يكن متصوراً فيما سبق من الزمان.
إننا لم نكن نعرف طرف الأرض، ولم نكن نعرف الذين عاشوا على الأرض قبلنا، وحين وصلوا إلى أمريكا قبل خمس مائة عام تعجبوا جداً، لأنهم وجدوا بشراً يعيشون هناك، وصاروا يدرسون الكيفية التي يمكن للإنسان المنفصل عن الآخرين أن ينشئ حضارة تختلف اختلافاً تاماً عن تصوراتنا، ووجدوا نماذج حية للقرابين البشرية، فإذا كنا نعيش في عصر العلوم والتكنولوجيا، فإن قوماً آخرين كانوا يعيشون عصر ما قبل الزراعة في غابات الأمازون، وما زال أقوام يعيشون كما كان الإنسان يعيش قبل عشرة آلاف عام، أي أن بإمكاننا أن نرى تسلسل تاريخنا من خلال رؤية أولئك الأقوام، وإذا كان صعباً علينا أن نرى بشراً يجلسون حول مائدة وضع عليها لحم إنسان ليؤكل، إذا كانت رؤية هذا المنظر صعبة علينا؛ فلا يجب أن نظن أن فزيولوجيتنا لا تقبل هذا، أو أننا خلقنا بشكل أرقى، فالحقيقة أن هذا راجع إلى الثقافة وتراكم الخبرات البشرية التي وصلت إلينا، فإذا استطعنا أن نكشف هذا التحول العجيب في تاريخنا، فما يجب أن نكتفي برؤية هذا التاريخ؛ بل يجب أن نستشرف آفاق المستقبل، وما يمكن أن يحدث فيه من تحول وبذلك نستطيع أن نفهم رد الله على الملائكة، فلنسمع ما شئنا: حواراً، رمزاً، توقعاً، خيالاً روائياً، ليس هذا مهماً، المهم أن الله يقول للملائكة: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
إننا إلى الآن لم نعلم من هذا الإنسان إلا ما علمته الملائكة، ولكنني أتوقع أن نعلم في المستقبل ما علمه الله في الإنسان. فإذا عرفنا كيف كان الإنسان قبل أربع مئة عام، كيف كان أكثر الناس تحضراً هذه الأيام يقيمون محاكم التفتيش ويحرقون الناس ويكسرون عظامهم، ثم بعد ذلك كيف صار لديهم قانون حقوق الإنسان، وأصبح الإنسان عندهم محترماً، وكيف أنهم إلى اليوم يعتبرون أن الإنسان الحقيقي هو الإنسان الأبيض فقط، فإذا استطعنا أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس قبل أربع مئة عام فبإمكاننا أن نستشرف مستقبله.
لقد وصف الله الإنسان، الخليفة، البُعد الذي نتحدث عنه؛ بصفات مختلفة، فقد قال: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} [الشمس: 7 - 10].
إن الإنسان قابل للتزكية وقابل للتدسية، فهو ذو طبيعة مزدوجة: قابل لأن يكون في أحسن تقويم، كما في سورة التين، وقابل لأن يكون في أسفل سافلين، وكل هذا ينتج عن تراكم التجارب والمعارف للجنس البشري، فالمعرفة البشرية هي التي تحوّل الإنسان إلى ما هو عليه، وكما أن الإنسان حين كشف قوانين المادة وحقيقتها وسننها استطاع أن يتعامل معها، بعد أن كانت بنظر كثير من الكتب في تاريخنا نوعاً من السحر، فالكيمياء كانت كالسحر، يدرسون من خلالها كيفية تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، وهناك خيالات كثيرة حول التراكيب الكيميائية، فكما أن الإنسان حين كشف المادة سخرها، كذلك حين يكشف النفس الإنسانية يستطيع أن يتعامل معها ويزكيها.
لقد تحول الشيء الذي كان سحراً إلى علمٍ دقيقٍ، فعرف الإنسان الطاقة، وعرف الأشياء التي يحتاجها التحول من عنصر إلى عنصر، وبهذه المعرفة فجّر الطاقة، وسخر الضوء، وسخر الموجات، فاستخدم آلات التسجيل، وموجات البث التلفزيوني فأصبح يرى البعيد قريباً.
إن التسخير المادي أمر عظيم ورائع، فبوسائل المواصلات والاتصالات تمكنا من نقل الأخبار بسرعة إلى جميع أنحاء العالم. إن الناس لم يكونوا يعرفون طرف الأرض، ولا أنواع البشر الموجودين عليها، وحين قال الله للناس: {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً} [النساء: 1]؛ لم يكونوا يعرفون عدد البشر الموجودين في العالم. هذا التاريخ ما ينبغي لنا أن ننساه أبداً.
نشأة الإنسان ومستقبله:
إنك حين تلتقي بإنسان غريب، لم تره ولم تتعرف عليه من قبل؛ تستوحش من هذا الإنسان الغريب، وتتحدث إليه بأدب. وطلاب المدرسة حين يأتي إليهم أستاذ جديد لأول مرّةٍ ينظرون إليه باحترام، لكي يجسوا نبضه ويتعرفوا عليه، ثم بعد ذلك يتخذون مواقفهم على أساس ما يبدو لهم منه. كل هذا يدل على أن معرفتك بالإنسان هي التي تحدد موقفك منه، فمعرفتك بتاريخ الإنسان هي التي تجعلك تنظر إليه نظرة موضوعية بناء على معرفة حقيقية، فلا ترفعه عالياً أكثر مما يستحق ولا تخفضه أقل من قدره.
إن الإنسان بطبيعته قابل للارتفاع وقابل للانخفاض، فإذا لم يتيسر له ذلك فهذا لا يرجع إلى طبيعته، بل يرجع إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ولذلك صار المجتمع مسؤولاً عن حماية الذين ينشؤون فيه، وهذا يدعونا إلى معرفة الكيفية التي يصنع بها المجتمع أبناءه الذين ينشؤون فيه، ولا شك أن البشر لم يكونوا يعرفون هذا كما لم يكونوا يعرفون طبيعة المادة، ولا القوة الهائلة الكامنة في المادة.
لقد خلق الله الأرض وقدّر فيها أقواتها وأوجد البترول، وكانت معدّةً لاستقبال الإنسان قبل أن يأتي إليها، وإن لهذا الإنسان مستقبلاً كبيراً، وأنا لا أتحدث عن غيب ولكن دراستي لتاريخ الإنسان تجعلني أتوقع مستقبله، لقد عانى هذا الكائن إلى أن استوى على قدميه، وقبل أربع مليارات من السنين كان الطحلب أول الكائنات الحية، ونحن الآن نرى هذا الإنسان في أحسن تقويم، ومستقبل هذا الإنسان قادم، فلا تظنوا أن الكون خلق وانتهى خلقه، إنه ليس كتمثال صنع ورفع عنه الستار، وبدأ يتعرض لعوامل الحت والتعرية، وهو يسير إلى الانقراض، إنه ليس كذلك؛ بل لا يزال خالقه يعمل فيه بإزميله، ولا يزال ينمو، ولم يتحقق بَعْدُ العهد الأساسي الذي توقعه الله وعلمه لهذا الإنسان.
إننا لا نزال في وقت مبكر من حياة الإنسان، ولم نصل بعد إلى نهاية حياته، وليس مقبولاً في أذهاننا أن هذا الكائن الذي اقتضى خلقه ملايين بل مليارات السنين حتى استوى؛ يمكن أن يُقضى عليه بقنبلة نووية.
لقد مرّ الإنسان بأزمات عصيبة، ولكنه نجا وبقي حياً، وبقي صامداً، ولم يمضِ عليه إلا مئة سنة بعد أن أضاء بيته، فهل هذه هي نهاية الإنسان؟ لا، ولكي أبَيّن سبب تفاؤلي، أقول: إن فهم الأشياء والأحداث التي مرّت بالإنسان، وقراءة الكتاب الذي فتح من حديث الأرض التي بدأت تحدث بأخبارها، ومقارنة هذا الكتاب بالكتاب المُنزل الذي يقول: {سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20]، كل هذا يدعونا إلى التفاؤل.
ولا أريد هنا أن أبحث في الآخرة بمعنى يوم القيامة، ولكنني أريد أن أتحدث عن الآخرة التي يقتضيها الكون، وأستطيع أن أفهم من قوله تعالى: {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة}، أن للإنسان نشأة آخرة، وأقل ما يقال في هذه النشأة أن الإنسان سيغير منظومة أفكاره، وسيستطيع العيش بلا دم، وسيتفرغ لمهمات أجل، هذا الخلق الآخر هو تفسير لقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}، أي أن للإنسان مستقبلاً لا تعلمونه أنتم وأنا أعلمه.
لأجل هذا الفهم أستقبل الحياة بتفاؤل، فأنا لست متشائماً. لقد أعلنت الفلسفة الغربية موت الله على يد نيتشه، وقبل أن يمضئ مئة عام على هذا الإعلان، أُعلن موت الإنسان على يد فوكو، ووصل الإنسان الغربي إلى العدمية. هذا ما يقوله هابرماز، وهذا ما وصل إليه فوكو متردداً حين يقول: مات الإنسان. لقد كانوا يظنون أن الله هو ما في مخيلة الناس، فمات ما في مخيلة الناس فظنوا أن الله قد مات، نعم لقد مات هذا الإله الذي في أذهان الناس وخيالاتهم، ولكن الله شيء آخر. وكذلك فقدوا ثقتهم بالنموذج الذي عرفوه للإنسان فأعلنوا موته، ولكن الإنسان لم يمت.
إنني أنظر إلى تاريخ الإنسان فأعرف أن هذا الإنسان ليس هو الإنسان الذي ظنوا أنه سيموت وينقرض بهذه الألاعيب، إنه لا زال معدّاً لمهمات كبيرة: {كلاّ لمّا يقضِ ما أمره} (عبس: 23]، لم يبدأ بعد بمهمته الحقيقية، وهو ما يزال في مرحلة مبكرة من تاريخه.
أين هو البُعد الإنساني؟ وأين هي الهوية العربية الإسلامية؟ كيف سأربط هذا بالتاريخ؟
الوحي النازل من السماء والوحي الصاعد من الأرض:
إن الإنسان هو التاريخ، والإنسان بغير التاريخ هو كالفرد الذي فقد ذاكرته، ولهذا كان لختم النبوة مغزىً عظيماً، ولم أرَ أحداً في العالم كله انتبه إلى مغزى ختم النبوة إلا محمد إقبال، فقد نبهني إلى أهمية معنى ختم النبوة، فبختم النبوة لم تعد السماء تتحدث إلى الأرض بالطريقة القديمة التي ولّى زمانها ووصلت إلى نهايتها، وحين قال تعالى: {وخاتم النبيين} [الأحزاب: 40]، أوضح أمراً عجيباً، فقبل أن يتهيأ الإنسان للاستفادة من التاريخ قال له: أنت مُقبلٌ على وحيٍ آخر لا يستطيع أن يكذبه أحد، فالنوع الأول من الوحي وهو النازل من السماء يستطيع الناس إنكاره، ولكن الوحي الذي أشار إليه بقوله: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزلة: 5]؛ لا يستطيع أحد تكذيبه، وهو وحيٌ صادق أيضاً. ولهذا فإن معرفة التاريخ هي التي تعطي للإنسان إنسانيته، فالإنسان هو التاريخ، والإنسان إنسان بقدر ما في دماغه من التاريخ، وبقدر ما في ذهنه عن الإنسان، وليس هذا فحسب، بل إن من الواجب المقدس أن يعلم الإنسان تاريخ الإنسان، وإلا لم يعلم حقيقة نفسه، وسيبقى جاهلاً بها، وهذا ما تعلمناه من القرآن.
لقد تعلمنا من قوله تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20]؛ ما لم يخطر في بال نبي ولا ولي من الذين سبقونا.. تعلمنا أن الإنسان يسير في الأرض فينظر كيف بدأ الخلق، ولم يكونوا يستطيعون فهم هذا، ولم يكن فهمه من مهماتهم، وبالرغم من أننا اليوم لا نستطيع أن نتجاهل هذا القول، إلا أننا في الهوية العربية الإسلامية لا نريد أن نسير في الأرض ولا نريد أن ننظر كيف بدأ الخلق، وليس هذا فحسب، بل لسنا على استعداد لأن نقرأ ماذا شاهد الذين ساروا في الأرض!!..
الحضور في العالم والشهادة على الناس:
الله سبحانه وتعالى يقول: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78]، فالإنسان حين يأتي إلى هذا الوجود لا يعلم شيئاً، فإذا تركناه ولم نزوّده بالعلم والمعرفة يبقى كما هو، وإذا قدمنا له المعلومات وحشوناه بالحقائق المعرفية والتاريخية يصير إنساناً. إن الإنسان الذي يعرف التاريخ تتغير سحنة وجهه، والأقدمون حين كانوا ينحتون التماثيل كانوا يجعلون لها عيوباً جاحظة، أما العين الثاقبة والوجه المشدود العضلات فهي سمات الإنسان المليء بالمعرفة، يقول تعالى: { سيماهم في وجوههم} [الفتح: 29]، إن سيمياء الإنسان تتغير بمجرد تغير معلومة من معلوماته، والمعلومة حين تضاف إلى خزينة الإنسان تُغيّره، وربما يصيبه الأرق في ليله وكأن العالم قد تزلزل، لهذا صار التاريخ مصدراً للمعرفة الحقة، ولهذا قال الله تعالى: {سيروا في حين جاءه بعضالأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل} [الروم: 42]، ومحمد أصحابه ليشفعوا في إقامة حدٍ على إنسان مرتكب لخطيئة، وأرادوا أن لا يطبق القانون على الجميع، وأن يكون بعض الناس فوق القانون قال لهم: «إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.. والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(1) لم يقل لهم قال الله، وإنما قال: قال التاريخ.. قال ذلك حين أراد أن يوضح لهم خطورة الأمر الذي جاؤوا يشفعون فيه. وإن هذا الشكل من عدم تطبيق القانون على الجميع محكوم عليه بالهلاك، وهذا قانون وسنة بدلالة التاريخ.
لم يتكلم بذلك، وإنما جعل التاريخ يتكلم، ولهذا يجب علينا أنمحمد ندرس التاريخ، وأن نبحث في سِيَر الذين خلوا من قبل، وإذا كان الله تعالى يحدثنا في سُوَر طوال وقصار عن أخبار عاد وثمود وفرعون وأصحاب الأخدود وأصحاب الرُس، فإنه يريد منا أن نتعظ وأن نعلم أنَّ سنة الله واحدة في خلقه. إن الذي حدث في العالم قبل نزول القرآن قليل بالنسبة للأحداث الكبيرة التي نعيشها نحن اليوم، الله يقول: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد} [الفجر: 6 - 10]، ولكن هذه الأمم أقل شأناً من الاتحاد السوفيتي وما وصل إليه من التطور والتكنولوجيا والرؤوس النووية، والصواريخ العابرة للقارات، إنه شيء مدهش وغير قابل للوصف، لذلك أقول: ألم نرَ ما آل إليه حاد الاتحاد السوفيتي؟ ألم نرَ ماذا فعل الله به؟ هل نحن بحاجة لأن ينزل القرآن في كل مرة؟ لا لسنا بحاجة إلى ذلك، لأن الأرض تتكلم.. الأحداث البشرية تتحدث، لقد انتهى وقت نزول الوحي فيجب علينا أن ننظر وأن نتعلم من أخطاء غيرنا، والمؤمن أو الإنسان المبصر لا يلدغ من جحر مرتين، ولا يلدغ من جحر لدغ منه إنسان آخر، وإذا لدغ فهذا يعني أنه ليس حاضراً في هذا العالم، والحضور في العالم من المهمات التي كلف بها الله الإنسان المسلم، ومن أولويات البعد الإنساني الذي يجب أن يتصف به الإنسان في الهوية الإسلامية: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143]، والشهادة المطلوبة هي الشهادة على العالم أجمع.
الحضارة من الحضور والغائب لا يمكن أن يكون متحضراً ولا يمكن أن يكون شهيداً، ولا تقبل شهادته أيضاً.. إن أخبارنا وتاريخنا نحن العرب المسلمون تأتينا عن طريق الآخرين، فهم الذين ينقلونها إلينا، ولا شك أنهم مهما كانوا أمناء لا ينقلونها إلينا بدقة، فالإنسان لا يستطيع أن ينقل الخبر الذي لا يعجبه إلا بالشكل الذي يعجبه ويخدمه.
إذن، أين نحن؟ أين الهوية العربية الإسلامية؟ أين الوجود السنني الكوني؟ أين المكان والزمان اللذين ضيع فيهما العرب والمسلمون هويتهم؟
هوية الإنسان ومعلوماته:
هوية الإنسان ليست لونه ولا شكله ولا هيكله العظمي، هويته هي ما يملك من وعي وإدراك للحياة والوجود، ما يملك من حضور فيه.. لقد تجاوزنا عصر الزراعة والصناعة، ودخلنا عصر المعلومات، وإن كمية المعلومات المرتبة والمخزنة لدينا هي التي تحدد موقفنا من الوجود، هي هويتنا، فإذا لم يكن لدينا معلومات مخزنة عن حياة الإنسان؛ فهذا يعني أنه ليس لدينا هوية.
ولهذا نحن الآن في أسفل سافلين، وكُتِبْنا في الأذلين، وكلما فتحنا الراديو يصبُّ علينا الذل وننكس رؤوسنا، لأننا لسنا حاضرين في العالم، كأننا عميان لا نبصر. والآخرون يفعلون بنا ما يشاؤون، ولا نستطيع أن نرد عليهم ولا أن نقاومهم، والقرآن يتحدث عن الإنسان وأنه ربما يصل إلى حالة لا يستطيع معها أن يسمع أو يبصر أو يعي شيئاً، وطبعاً ليس ذلك من الناحية الفيزيولوجية، فالأعضاء سليمة ولكن الإنسان لا يعتبر مما يسمعه ويراه، يقول الله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20]، ويقول: {لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم قلوب لا يعقلون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179]، ويقول أيضاً: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7]. كيف يصل الإنسان إلى هذه الحالة؟! كيف يفقد الإنسان القدرة على أن يغير وضعه عندما تقتضي الظروف ذلك؟، إن الإنسان ذو طبيعة مزوجة والطبيعة تقتضي المزدوجة ليست سيئة بل جميلة، والحياة كلها خلقت من أزواج والله هو الواحد: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]، وهذه الزوجية ضرورية لاستمرار الحياة، وهي تماماً كدعسة البنزين ودعسة الفرامل في سيارتك، إذا لم تستخدم دعسة البنزين لا تستطيع أن تمشي ولا حتى أن تقلع، وإذا لم يكن في سيارتك فرامل فسرعان ما تتعرض لحادث خطير، فالمرونة والقساوة كل منهما مطلوب، ولكن كل في مكانه.
كم جميل في الإنسان أن يكون صاحب مبدأ، وكم جميل أن يكون على استعداد لأن يموت في سبيل مبدئه؟!.
يذكر جمال الدين الأفغاني في كتابه (خاطرات) أن صوفياً جاء إلى لص سرق فقطعت يده ثم سرق ثانية فقطعت رجله، ثم عاد فسرق فصلبوه، فانكب الصوفي على رجْل هذا اللص وقبّلها وقال له: «يالك من ثابت على مبدئك!».. كم عجيب هذا الإنسان الذي لديه القدرة أن يضحي بكل شيء في سبيل مبدئه، وأن يبذل حياته في سبيل فكرة يؤمن بها؟!
إن لدى الإنسان قدرات عجيبة، فالدماغ هذا النسيج الهلامي السنجابي المحمي بالجمجمة، لديه توق وحب شديدين للمعرفة، وهو حاد مثل الشوك الذي برز حديثاً، إنه من أبدع ما خلق الله، فالطفل الصغير يستطيع أن يتعلم أربع لغات ويتكلم بها كما يتكلم بلغته الأم إذا نشأ في مجتمع يتكلم عدة لغات، إنها مرحلة مهمة :من عمر الإنسان يجب أن تستغل لتزويد الإنسان بالعلوم الأساسية، يقول رسول الله «كل مولود يولد على الفطرة»(2).. ويقول الله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً} [النحل: 78]، لكن كليات الطب البشري استنفدت الذكاء العربي والإسلامي، فالطلاب الأذكياء في بلادنا يتوجهون لدراسة الطب دون غيره، حتى أن الأطباء البارعين جداً والمتفوقين في واشنطن ولندن وباريس جاؤوا من بلاد العرب والباكستان وإيران. لكن أين الأنثروبولوجي المسلم؟ أين المؤرخ المسلم الذي هو في مستوى ويلز وتوينبي؟ أين عالم الاجتماع المسلم؟ أين عالم النفس المسلم؟
يقول تعالى: {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10]، وحين يتحدث الله عن مرض القلب فإنه لا يقصد التضخم ولا تضيق الشرايين وتصلبها، إنما يقصد الحيرة والظلمة والحسد وكراهية الجار لجاره والأخ لأخيه. هذا هو المرض الذي يقصده القرآن في حديثه عن مرض القلب.
حدثني زميل لي كان يدرس علم الاجتماع في الغرب أن بروفيسوراً قال له: إن هذا العلم لا يليق بكم أنتم العرب، ادرس الشريعة الإسلامية لأعطيك دكتوراه فيها، أما علم الاجتماع فهو علمنا نحن!!..
فالإنسان لديه قدرات عجيبة ومدهشة والله سبحانه وتعالى يقول: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 7-10]، هذه التسوية عظيمة جداً ولائقة بالإنسان، بها ألهم الله النفس البشرية فجورها وتقواها، وجعلها قابلة للتزكية والتدسية. صحيح أن الذي سواها هو الله، لكن الذين يزكيها أو يدسيها هو الإنسان: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، فوظيفة الإنسان إذن تغيير ما بالنفس، والله تعالى يقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]، والكلام مهما كان عظيماً ومقدساً ليس له معنى إذا لم نتعامل مع الواقع، وحين نتعامل مع الواقع يصبح المعنى عظيماً، وإنني حين أدرس الواقع ثم أرجع إلى القرآن أجد أن آيات القرآن تسبقني، لهذا يقول الله: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق} [العنكبوت: 20].
فالجيولوجي الذي يسير ويبحث في الأرض ويدرس تاريخها ويعرف كيف يُنْطِقُها ويجعلها تتحدث بأخبارها هو الذي يعرف كيف يسجد لله ويعبده.
المثقف وصناعة الإنسان:
أعود إلى سؤال البداية: ما هو البعد الإنساني وما هي الهوية الإنسانية؟ أين هو البعد الإنساني في الهوية العربية الإسلامية؟ إن الإنسان الذي يشهد العالم ويفتح سمعه وبصره لا يمكن أن يُستغل أو أن يُستضعف، أما الإنسان الجاهل الذي ليس على شيء من العلم والمعرفة فهو الذي يكون دائماً فريسة سهلة، فَيُذَلُّ وتُنْهَبُ خيراته، وهو يظن أنه يحسن صنعاً: {وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} [النحل: 76].
جميع الأطفال يولدون ولديهم قدرات متساوية، لكننا نحن الذين نمسخ أبناءنا في البيت وفي المدرسة، إن الإنسان المسلم إنسان مصاب بالرعب، لا يقدر على شيء، وأينما توجهه لا يأت بخير، فإذا سألنا أستاذ الجامعة والمفكر والأديب والسياسي عن هذا الوضع فإنهم يتنصلون من المسؤولية، وكل منهم يقول: أنا لا علاقة لي، أمشي بجانب الحائط وأقول يا رب استرني.
في الماضي كان الناس يؤمنون بالسحر، وكان الرجال والنساء يخافون أن يكتب لهم ما يفسد حياتهم الزوجية، ويذهبون إلى الشيوخ ليفكوا لهم هذا السحر، وإلى الآن يوجد من يؤمن بهذا، ولكنني أريد أن أنبهكم إلى سحر أكبر، وهو الكيفية التي صنعنا بها الإنسان العربي المسلم بهذا الشكل الممسوخ العاطل؟ ما هو السحر الذي استعملناه لذلك؟ بصراحة أقول: إن المثقف هو الذي صنع هذا الإنسان الذي أينما توجه لا يأت بخير. إنني لا أعرف العوم أو السباحة، ولكنن أستطيع أن أميز بين الذي يتقن السباحة والذي لا يتقنها، إذا رأيت كلاً منهما، ولا أظن أن أحداً ينكر عليَّ هذا، وأنا لست مثقفاً، ولكنني أستطيع أن أرى نتائج عمل المثقفين، لذلك أقول: إن مثقفينا سحرة ماهرون في السحر، سحروا الإنسان العربي المسلم فصار يشعر أنه عاجز تماماً، ولا يستطيع أن يذهب إلى من يحلون له سحره هذا!! يقول أحد الكتَّاب: «إننا نعطي بترولنا كله لمن يستطيع أن يشخص مرضنا»، وهذا صحيح لأننا حين نتعافى يمكننا أن نتعلم كيفية تدبير شؤوننا.
يروى أن الأصمعي قال لطفل رأى فيه النجابة: يا غلام هل يعجبك أن يكون لك مئة ألف دينار وأنت أحمق؟ قال: لا والله، فإن حمقي يضيع علي المئة ألف دينار وأبقى أحمقاً.
إذن علينا أن نغير ما بأنفسنا وأن نرمي بالأفكار البالية التي تقيدن وتثقل كواهلنا، ومالك بن نبي رحمه الله يقول: «كما أن لكل مجتمع مقبرة ليدفن فيها جثث موتاه، كذلك لكل مجتمع مقبرة للأفكار التي ماتت وينبغي أن تُرَحَّل لأن بقاءها يفسد علينا أجواءنا».
في الماضي قبل أن يعرف الناس الجراثيم كان المرض يأتي ويذهب وقد حصد معه الكثير من الناس، لا أحد يعرف لماذا جاء ولا كيف ذهب، وكل مبلغهم من العلم هو أن يتجلدوا ويتجملوا بالصبر ويتقبلوا فقدانهم لأحبتهم، هذا الصبر كان محموداً فيهم، أما الآن فقد عرف الناس قانون المرض والسنة فيه.. المرض ربما يأتي من محب وهو يُقَبِّل من يحبه، ويبكي عليه حين يموت، وهو لا يعلم أنه هو الذي تسبب بموته. إننا ننقل الأمراض الفكرية للمجتمع، هذه الأمراض التي تجلب الهلاك للناس، ومع ذلك فإننا نبكي عليهم ولا نعلم أننا نحن من تسبب بهلاكهم! صحيح أننا تطورنا كثيراً بالنسبة للأمراض الجسدية، وصار بإمكاننا التغلب عليها، لكننا بالنسبة للأمراض الفكرية والنفسية متخلفون جداً. حين ينتشر الوباء في بلد ما ويحصد ما يحصده من الناس لا نقول: إن هذا قضاء الله وقدره، وإنما نقول: هذا بلدٌ قذرٌ. والآن حين تنشب حرب أهلية في بلد، فإن هذا لا يكون قضاءً وقدراً من الله، وإنما يكون هذا البلد قذراً فكرياً. أرجو أن نتفهم خطورة هذا الموضوع، إنه مرض خطير يعاني منه العالم العربي والإسلامي، وليس لدينا أخصائيون فيه، وحتى الذين يدرسون في الغرب من أبناء جلدتنا لا يستطيعون أن يفكروا في هذا المجال، وعملهم محصور في النقل فقط، والقرآن حين يذكر قصص الأنبياء وجدالهم لأقوامهم ودعوتهم لهم، نجد الأقوام يرفضون ما يُدعون إليه، بحجة أنهم لم يسمعوا بذلك في سلفهم السابق، وقد ذكر الله كمثال على ذلك الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وقومه فقال: {واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون} [الشعراء: 70 - 73]، فأجابه قومه بأن قالوا: نحن لا نبحث الموضوع على أساس المنفعة والمضرة، بل نفعل ما نفعل لأن آباءنا كانوا يفعلون ذلك: {قالوا بل وجدنا آبائنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 74]، حين ذكر القرآن قولهم هذا لم يذكره في معرض المدح لهم، لكن العالم العربي الإسلامي صار يَعدُّ عدم تجاوز الآباء والأجداد فضيلة وعملاً يستحق المدح!!..
ورد في الإنجيل أن المسيح عليه السلام كان يخاطب قومه بالأمثال، وأنا سأضرب الأمثال لتقريب الأمور.. صحيح أن الطب تطور كثيراً، وأصبح من السهل على الطبيب المختص أن ينقل الأعضاء من جسم إلى جسم آخر، كالكلية والقلب وغير ذلك، لكن المشكلة تكمن في تقبل الجسد لهذا العضو الغريب، فالجسد يرفض بيولوجيا هذا العضو ولو كان سليماً، وكأنه يقول: لن أقبل هذا العضو ولأمت!.. هذا الذي يحصل في البيولوجيا ينطبق تماماً على الثقافة، فنحن نرفض الأفكار الجديدة ونتمسك بالأفكار البالية وكأننا نقول: لن نتخلى عن أفكارنا البالية ولنمت!!..
أرجو أن أكون قد استطعت أن أزغلل في أعينكم.. حين كنت أدرس في الأزهر كان لي صديق أعمى لا يرى شيئاً، ولكنه إذا مر أمام رجل يعمل بلحام الأكسجين كان يقول: «إيه اللي بيزغلل في عيني؟» فهل استطعت أن أزغلل في أعينكم؟
مشكلة شراء الأسلحة وتكديسها:
إن البعد الإنساني ملغى تماماً عندنا، كيف نبحث عن الهوية العربي الإسلامية وأشرف ما في الإنسان العربي المسلم هو دماغه المعطل؟!.. إنني أقول هذا لأنني أرى أشياء لا أستطيع أن أفهمها في هذا العالم العربي الإسلامي. لقد جعلني هذا أشك في نفسي وأتساءل هل أنا مجنون؟ إن ما أراه في العالم العربي الإسلامي لا يمكن أن يدخل إلى الدماغ فهو كما يقولون لا يدخل لا بميزان ولا بقبان، فشراء العالم العربي والإسلامي للأسلحة لا يفيد في شيء، لا بل يضر كثيراً.. إنها مثل التماثيل التي كان قوم سيدنا إبراهيم عاكفون على عبادتها.. ما هذه الأصنام التي نشتريها بالأثمان الباهظة؟ إنهم أعداؤنا، ولا يمكن أن يبيعونا شيئاً يضرهم ويهدد وجودهم ونحن نشتري من الأسلحة ما نقوّم به ميزانياتهم المنهارة، وهو يتوازعوننا كسوق لتصريف منتجاتهم من الأسلحة. فالصين مثلاً تبيع لإيران، وروسيا تفتتح معرضاً للأسلحة في الخليج العربي، ونحن لا نملك ثمن الكتاب الذي يقرؤه أولادنا، ولا رغيف الخبز الذي نسد به جوعننا، ونشتري بالمليارات هذه الأسلحة التي لا يمكن أن يستفيد منها إلا بائعها!!.. أي دماغ هذا؟! أي بعد إنساني هذا؟! أي شيء، فات أوانه؟ ألا نعتبر بالاتحاد السوفيتي وقد سقط وهو يملك ما يدمر به الكرة الأرضية كلها: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} [يوسف: 110].
لقد مرّ الإنسان في بدء حياته بظروف صعبة فقد كان فريسة للحيوانات المتوحشة كما كان هو نفسه يطارد الذئاب وغيرها ويتغذى بها، ثم خرج من ذلك وأصبح إنساناً آخر، وأنا أقول: إننا سوف نخرج مما نحن فيه رغماً عنا في المستقبل، فالأذهان بدأت تتوجه لتبطل هذا السحر الذي نعيش في دوامته، وبدأنا نقلب أنظارنا في الكون من حولنا لنرى ما يجري ويدور فيه، لا بد أننا سندرك أن هذه الأسلحة التي نشتريها ما هي إلا خردة لا تضر ولا تنفع.
الأمم المتحدة وحق الفيتو:
ولكننا إلى الآن ننظر إلى الذي يشتري الأسلحة ويهاجم جيرانه ويحتل أرضهم على أنه بطل! إن الأمم المتحدة التي نخافها ما هي إلا وهم وسراب، إنها أشبه بنمر من كرتون لا يقدر على شيء، وحق الفيتو ليس له وجود أيضاً، بل هو وهم أوجده الغرب، وفي حرب الخليج كان حق الفيتو عندنا نحن في سورية ومصر، فلو عارضنا هذه الحرب ما نشبت وما ضرب العراق، إذن هذه العبارات والتسميات الطنانة فارغة، ولكنهم يستغلون جهلنا وخوفنا ويتلاعبون بنا، فقط إذا قلنا لا بكل ثقلنا لا يستطيع أحد أن يجرنا إلى حرب نتيجتها محسومة من قبل أن تبدأ.
لا خاتم الأنبياء، ألغى الخوارقزلنا نعيش زمن الخرافة والأسطورة لكن محمد لم يقبل أن تكون المعجزة دليلاًوالأساطير، جاء بالسننية وألغى اللاسننية، ومحمد ليه، وقد كان المعاصرون له يطالبون بمعجزات وخوارق، يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} [الأنبياء: 5]، وكان ينزل الرد القرآني ليقول لهم: {تلك أمة قد خلت} [البقرة: 141]، ويقول أيضاً: {ألم يكفهم أنا أنزلنا ، فسننعليك الكتاب} [العنكبوت: 51]. لقد انتهى زمن الخوارق، ببعثة النبي محمد الله ثابتة، وقوانينه صارمة لا تحابي أحداً. يقول الله تعالى: {ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً} [فاطر: 43].
نحن إذا نطحنا الجدار برؤوسنا فلا بد أن رؤوسنا هي التي سوف تنكسر، وأنا أقول: إن حربي الخليج الأولى والثانية هما نموذجان لنطح الجدار، فحين استمر الإمام الخميني في حربه مع صدام حسين، ورفض أن يوقف هذه الحرب قائلاً: «لـن أوقف هذه الحرب حتى يسقط صدام حسين» كان تفكيره تفكيراً خوارقياً، لأن السنن ترفض أن ينتصر الخميني، فثمانية وثلاثون دولة كانت تمد كلا الطرفين بالسلاح وكانت هذه الحرب أشبه بسوق عكاظ لتصريف الأسلحة، فما الذي يجعل أحد الطرفين ينتصر، ونصرهما وأسلحتهما وقوتهما تأتي من الآخرين؟! وكلا الطرفين يرى نفسه على حق، وكل منهما: {زُيِّنَ له سوء عمله فرآه حسناً} [فاطر: 8]، {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} [البقرة: 11-12].
ولم يمض وقت طويل حتى استجمع صدام قواه، واستعد لحرب جديدة ولكن النتيجة معروفة وقانون الله واحد {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8].
الوعي والبعد الإنساني:
إذن فالبعد الإنساني هو الوعي، وحين قال الله تعالى للإنسان لا تقرب هذه الشجرة فهذا يدل على وجود الوعي لدى الإنسان، فأنت لا ترسل الذئب في قطيع من الغنم ثم تقول له: لا تقرب هذه الخراف، ولا ترسل الأبقار في بستانك وتقول لها: لا تقربي الأشجار والعشب، لأن هذا الحيوان لا قدرة له على أن يضبط نفسه، والغريزة هي التي تحركه. أما الإنسان فتستطيع أن تقول له: هذا حرام أو هذا ممنوع. إن فكرة الحلال والحرام تنشأ بين شخصين اجتمعا في غرفة واحدة فالمكان الذي يجلس فيه أحدهما يصبح محرماً على الآخر، فلا يمكن أن يجلس فوقه، وأنا أقول أنه ليس لدينا حرام ولا حلال، وكل منا مستعد لأن يجلس فوق صاحبه. نحن لا نحترم حقوق الآخرين، ولا يوجد لدينا قانون، ونعيش شريعة الغاب، ولا نعرف الحلال والحرام. لقد عرض الله سبحانه وتعالى الأمانة في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]، فالإنسان أسرع وقال أنا ألتزم القانون، والإنسان وحده القادر على حمل الأمانة، فهو قادر أن يفعل وقادر أن لا يفعل، إنه حر مختار، أما غيره من المخلوقات فلا تستطيع ذلك، الكائنات الأخرى كلها خاضعة للغريزة، وحين يذكر القرآن الكريم ما توقعته الملائكة من أنه سوف يفسد في الأرض، حين خاطبهم الله تعالى بقوله: {إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}.. فيجيبهم الله تعالى قائلاً: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، إلى الآن لا يزال الإنسان عند ظن الملائكة، يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكن لا بد أن يتجاوز هذا ويحقق علم الله تعالى حين خاطب الملائكة قائلاً: [إني أعلم ما لا تعلمون}، وحين يقص القرآن الكريم علينا نبأ بني آدم بقوله: {واتل عليهم نبأ بني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فَتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27]، في هذه القصة نجد أن ابن آدم الذي فشل في عمله ولم يتقبل الله تعالى قربانه هو الذي بدأ بالحرب ولكن ابن آدم الآخر الذي تقبل الله تعالى قربانه ذكره الله تعالى في معرض الثناء بقوله: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [المائدة: 28]، وورد عن رسول ، في توضيحه أهمية الأمانة والثقة بين الناس قوله في الحديث الشريف: «واللهالله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن» فقال الصحابة: خاب وخسر من هذا يا رسول الله؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه»(3)، فلا يؤمن من لا يثق به جاره، إنه لن يخونه ولن : «إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة»(4) وذلك يسرقه ولن يخذله، وفي حديث آخر يقول جواباً لأحد الصحابة حين جاءه وسأله عن أشراط يوم القيامة.
شريعة الغاب وشريعة الإنسان:
هناك ظاهرة عجيبة في تاريخنا لقب الراشدينوهي أننا أطلقنا على الخلفاء الأربعة الذين جاؤوا بعد رسول الله وسكتنا عن الذين جاؤوا من بعدهم لأنهم ليسوا راشدين، ولا أدري ما الاسم الذي يليق بهم، ولكن الراشدين سمّوا بذلك لأنهم لم يأخذوا الحكم بالقوة، والذين جاؤوا من بعدهم حكموا الناس بالقوة وأخذوا الحكم بالقوة، ولم يحملوا الأمانة التي تعهد الإنسان بحملها حين قال أنا ألتزم القانون. وهناك شريعتان تحكمان في هذه الأرض: شريعة الغاب التي تقوم على القوة والبطش، فالقوي يأكل الضعيف. وشريعة الإنسان التي تعني الخضوع للقانون الذي يوضع بالاتفاق بين جميع الأطراف الخاضعة له، يلتزمه جميع الأطراف، ولا يسمح بالخروج عليه. وإن تاريخنا الحافل كتب كله بعد الخلافة الراشدة. كتبوه وهم يستنبطون شريعة الغاب، وحين وصل عثمان إلى الحكم قال أبو سفيان لبني أمية: «تلقفوها كالكرة ولا يغلبنّ عليكم أحد»، وصارت الخلافة بعد معاوية وراثية، فكل خليفة يورّث الخلافة لابنه وأخيه من بعده، وهكذا نسي العلماء الأصل المحمدي والأمانة الإنسانية التي قبلها البشر، وأباحوا أخذ الحكم، بالقوة، ومنذ ذلك الوقت دخلنا شريعة الغاب، وإلى يومنا هذا لا يأمن جار جاره، وأكبر دليل على هذا الكويت والعراق، وإيران والعراق، وكل بلدان العالم العربي والإسلامي لا يأمن بعضها بعضاً، لذلك نلجأ لأمريكا لتحول بيننا، لأننا نعيش شريعة الغاب.
أرجو أن أكون قد استطعت أن أبين الهوية العربية الإسلامية، وهل دخلنا في البعد الإنساني أم لا يزال بيننا وبينه فاصل. إنني أنادي العرب المسلمين: لا تفرحوا إذا تعادى العرب على أساس شريعة الغاب، ولا تصفقوا للذين يريدون أن يحلوا المشكلات بالقوة فإنهم يجيّرون القضية لصالح أمريكا، إن شاءت نصرتهم وإن شاءت خذلتهم، وإن شاءت جعلت كلا البلدين يتقاتلان حتى يفني كل منهما الآخر!!.. {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9]، إن مراجعنا هي تلك الثقافة التي ترسخت في عهود ما بعد الراشدين التي إن أحييناها الآن يمكن أن نعدّ العدة لحرب خليجية أخرى، هذه الثقافة التي يلغي المسلمون فيها بعضهم بعضاً، هكذا تنشب الحروب فيما بيننا ويستفيد الآخرون من ذلك، فمتى سنستيقظ من هذا النوم العميق؟!.. إننا وبجهود قليلة صابرة نستطيع أن نقف موقفاً سليماً، أنا أطالب أن تكون هناك معارضة شريفة، مثل الرسول فقد كان في دعوته يلاقي الكثير من الأذى والعذاب، فقد قتل الكفار سمية وياسر، وعذبوا عمار، وعمار لم يأخذ بثأر أبيه وأمه، ولم يأمره الرسول بذلك، وكان محمد مع ذلك كله محط ثقة القرشيين به، أكثر من ثقتهم بأبنائهم، وكانوا على يقين تام من أن محمداً وأصحابه لا يمكن أن يصدر عنهم شر، وجاؤوا إلى النبي وقالوا له: إن كنت تريد جعلناك ملكاً علينا وزوجناك أجمل فتياتنا!.. قال: لا، لأنه يريد أن يغير أمة ولا يريد أن يجلس على كرسي الحكم، وأنت عندما تصل إلى درجة أن يثق بك من تعارضه أكثر من ثقته بأبنائه وحرسه الخاص تكون معارضاً إسلامياً، وإذا لم نصل إلى ذلك فسنعيش شريعة الغاب، وأقل ما يقال: إننا يجب أن نحرِّم العنف فيما بيننا نحن المسلمون والعرب، لأن الذي يلجأ إلى العنف لحل مشكلاته لا يسيء إلا إلى نفسه.
أنا لا أسيء الظن بالعالم العربي ولا بزعمائه ولا أقول إنهم غير مخلصين لبلادهم، ولكنني أقول: إنهم لا يعرفون كيف يقودون بلادهم، ولا أقول عن مثقفينا أيضاً أنهم غير مخلصين لكن رؤاهم ونظراتهم لا تزال قاصرة. إن الذين كانوا أعداء في الحربين العالميتين صاروا الآن أمة واحدة، فرنسا وألمانيا.. يجب أن نطرح البديل على العالم العربي والإسلامي، يجب أن لا يضار أحد منهم في بلده ولا في زعامته ولا في أرضه ولا في ماله.. أن يتعاون مع إخوانه في شيء ينفع الجميع، وبهذا يربح الجميع ولا يخسر أحد منهم شيئاً.. إننا نطرح هذا، ويجب على أهل الاختصاص أن يقدموا لنا الحل بحيث يربح الجميع ولا يخسر أحد شيئاً.
جودت سعيد
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري في الحدود، باب: إقامة الحد على الشريف والوضيع رقم (6405)، ومسلم في الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره رقم (1688)، وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات، رقم (1292)، ومسلم في القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، رقم (1258).
(3) أخرجه البخاري في الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوائقه، رقم (5670)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان تحريم إيذاء الجار، رقم (46).
(4) أخرجه البخاري في العلم، باب: من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث... رقم (59) وفي أبواب أخرى.
إضافة تعليق جديد