الجهاد ... من الفقه التقليدي إلى الحركات الإسلامية
يعتبر ماهر الشريف في مقدمة كتابه «تطور مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي» (دار المدى - دمشق 2008)، أنه لدى انفتاحه على فكر عصر النهضة، وفي إطار بحثه عن الأسباب التي أدت إلى انقطاع مسار مشروع إصلاحي رافعته إسلام عقلاني، وجد نفسه مدفوعاً إلى دراسة نتاجات المعبّرين عن الإسلام السياسي أو «الحركي»، والمقارنة بينها وبين نتاجات رواد الإصلاح الديني. وفي خضم بحثه شعر بالحاجة إلى توسيع حقل البحث، وهو ما قاده للرجوع إلى الماضي لدراسة «فقه الجهاد» في إسلام العصر الوسيط.
تاريخياً وبحسب الشريف، ظهرت كتب السير والجهاد الأولى، التي حددت أحكام القتال وكيفية سلوك المسلمين خلال الحرب، في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي. ويُعتقد أن الفقيه الكوفي عامر بن شراحيل الشعبي المتوفى عام 721م كان أول من وضع كتاباً عن السير والجهاد. وأول مساهمة يعرض لها الشريف هي مساهمة الإمام «المرابط» عبدالرحمن الأوزاعي المتوفى 774م وهو من أوائل من كتبوا في الموضوع. أكد الأوزاعي أن الجهاد مع النبي كان «فرض عين» على المستطيع له من أصحابه. ثم أصبح بعد وفاة النبي واستقرار الشرع «فرض على الكفاية» إذا لم يتعين. ويتعين الجهاد بثلاث حالات: إذا التقى جمعان فعلى الحاضرين الثبات، وإذا هاجم العدو بلداً فيتعين على أهله قتالهم، وإذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير. ويعتبر الشريف أن عقيدة الجهاد قد تبلورت مع الإمام الشافعي المتوفى 820م. وقدر الشافعي أن الجهاد «فرض كفاية» بمعنى «أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية».
وكان ابن تيمية من أنصار الخلافة، حيث اعتبر أن ولاية الناس «من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها» وأن الإمام، بحسب سنة النبي، يكون في أصلين هما: الصلاح والجهاد. وقد ميز بين «الجهاد المكي» - نسبة إلى الدعوة الإسلامية في مكة - الذي يتم «بالعلم والبيان» وبين «الجهاد المدني» - نسبة إلى فترة الدعوة الإسلامية في المدينة - الذي يتم «باليد والحديد». وأكد ابن تيمية وجوب قتال كل من بلغته دعوة النبي محمد ولم يستجب لها، وذلك «حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» واعتبر أن الجهاد من أهم الفروض في الإسلام، وأن فضائله، المذكورة في الكتاب والسنة، أكثر من أن تُحصى، معتبراً أن التطوع للجهاد «أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة والصوم» واعتبر أن الدعوة إلى الجهاد موكلة بالإمام الذي «لو عيّن أهل الجهاد للجهاد تعيّن عليهم» وأوجب قتال كل من يقف في مواجهة دعوة الإسلام التي مقصودها «هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا» كما أوجب قتال أي طائفة انتسبت إلى الاسلام «وامتنعت من بعض شرائعه المتواترة» وقسّم ابن تيمية الجهاد قسمين: جهاد الابتداء، الذي يهدف «للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو» وهو فرض كفاية. والى جهاد الدفع الذي يهدف «للدفاع عن الدين والحرمة والأنفس» وهو فرض عين.
لم يعالج ممثلو الإصلاح الديني الذي أطلقه جمال الدين الأفغاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، موضوع الجهاد مباشرة إنما عالجوه بصورة عرضية في كتاباتهم. وقد اعتبر الأفغاني أن الضعف الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية يعود إلى الجهل، الذي يتسبب بدوره في سيادة الاستبداد، فدعا إلى إحياء الإسلام على أساس عقلاني. وقد اعتبر الأفغاني الحرب هي «من أقبح» أعمال الإنسان في الأرض، ومن أعظم الأدلة على كون الإنسان «أحط من الحيوان». وقد رد الأفغاني على من يقول إن الدين الإسلامي قد انتشر «بعامل القهر والسيف وسطوة الجيوش» فأكد أن انتشار الإسلام من مكة إلى المدينة، ثم عموم جزيرة العرب، قد ترافق مع غزوات معدودة، وانتشر في اليمن من دون قتال، وفي عهد أول وثاني الخلفاء الراشدين، فلم تتجاوز مجموع الجيوش الإسلامية الأربعين ألفاً.
مع الشيخ محمد رشيد رضا تم الانقلاب على الإصلاح الديني المتسامح، بحسب الشريف، فبعد أن وافق رضا أستاذه محمد عبده في آرائه، فإنه في مراحل متأخرة من حياته أخذ يشيع فكراً إسلامياً متسماً بالانغلاق والمحافظة والتزمت وبعيداً عن الانفتاح والتسامح والقبول بشرعية الاختلاف. وبهدف الوصول في وجه سياسات الدول الأوروبية، وإحباط مساعيها الاستعمارية، صار رضا يدعو إلى تعزيز الجامعة الإسلامية وإحياء الخلافة الإسلامية مشدداً على أن لا خلاص للعالم الإسلامي إلا بإحياء «منصب الإمامة، وإقامة الإمام الحق المستجمع للشروط الشرعية». وفي سياق دفاعه عن مكانة الخلافة في الإسلام، شن رضا هجوماً عنيفاً على الشيخ علي عبدالرازق، حيث رأى في كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، «محاولة هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق جماعته» حتى أنه أشاد بحكم هيئة علماء الأزهر، الذي قضى بإخراج عبد الرازق من زمرة العلماء وطرده من كل وظيفة. كما أصر رضا على تكفير طه حسين بعد أن كتب كتابه «في الشعر الجاهلي»
يعتبر الشريف أن «الإسلام السياسي» أو «الإسلام الحركي» بدأ مع تأسيس حسن البنا «جماعة الأخوان المسلمين» في مصر عام 1928، وتأسيس أبو الأعلى المودودي لـ «الجماعة الإسلامية» في باكستان عام 1941. وبالاستناد إلى كتابات حسن البنا وأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب، طرأ تغير على الموقف من الجهاد، بحيث غاب التمييز القديم بين «الجهاد الدفاعي» و «الجهاد الهجومي» وانتعشت الفلسفة التي ترى أن «الله لا يقبل ديناً غير الإسلام». مع حسن البنا أخذت النظرة إلى الغرب وجهاً واحداً سلبياً، بعد أن كان رواد الإصلاح يرون فيه وجهين إيجابياً وسلبياً، بينما لم ير البنا في الغرب سوى مظاهر الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح والإباحية... وهي ما باتت تصيب العالم الإسلامي، والتي باتت تحتاج إلى إصلاح أوضاع المسلمين الداخلية، عبر الوقوف في وجه «غزو» الحضارة الغربية لبلدانهم ونفوسهم، وذلك عبر إعادة إحياء الفكرة الإسلامية والعادات الإسلامية في حياتهم الاجتماعية، والقضاء على العادات «الأعجمية» في كل مظاهر هذه الحياة.
ويصنف الشريف أبو الأعلى المودودي واحداً من أبرز المرشدين الروحيين للتيار «الجهادي الراديكالي» الإسلامي، وحسب المودودي يقوم النظام السياسي في الإسلام على دعائم ثلاث: التوحيد والرسالة والخلافة. فالتوحيد يعني أن الحكم والسلطان هو لله وحده، بصفته «الخالق لهذا العالم ومن فيه»، وهو ما ينفي «حاكمية البشر» أما الرسالة، فهي الوسيلة «التي يصل بها إلينا القانون الإلهي» والتي تلقينا بواسطتها: القرآن من جهة، وشرح القرآن الذي «قدمه الرسول بقوله وفعله» من جهة ثانية. بينما تعني الخلافة أن الإنسان هو «خليفة الله»، الذي يحكم «تحت السلطان الرباني الإلهي» وهي لا تناط بفرد من الأفراد، بل «يفوّض أمرها إلى جميع أفراد المجتمع». أما أمر إدارة المملكة الإسلامية، فيفوض إلى أمير، يدير أمور الأمة «في الحرب والسلم»، ويساعده «مجلس شورى» الذي ينتخب أعضاءه عامة أفراد الشعب.
واعتبر المودودي غاية تأسيس «الجماعة الإسلامية» غاية عالمية هي «أن تستأصل شأفة كل نظام للحياة أُسس بنيانه ووُضعت قواعده على الانسلاخ من عبودية الله وعدم المبالاة بالمسؤولية الأخروية» وأن تقيم مكانه «نظاماً للحياة مبناه على طاعة الله عز وجل والإيمان بالآخرة وإتباع الرسل والأنبياء». ويعتبر أن الانقلاب الإسلامي لن يتحقق «إلا إذا قامت حركة جماهيرية على أساس نظريات الأحكام القرآنية ودعامة السير المحمدية والسنة النبوية».
لا شك في أن سيد قطب أكثر من ترك تأثيراً على المنتمين إلى التيار «الجهادي» الإسلامي الذي يمارس العنف المسلح. ولا تختلف أفكاره عن أفكار المودودي، فقد رأى قطب أن بعث الأمة المسلمة من جديد يتطلب وجود «طليعة أوعصبة مؤمنة تعزم هذه العزيمة وتمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً» داعياً هذه العصبة المتمسكة بـ «حاكمية» إلى المسارعة إلى التميّز من الجاهلية المحيطة به. مشدداً «أن تنفصل هذه العصبة، عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة، عن أهل الجاهلية من قومها». ولن يكون بعث الأمة الإسلامية، كما قدر قطب، في مصلحة المسلمين وحدهم، بل سيكون في مصلحة البشرية قاطبة. وعلى هذه الخلفية كتب قطب في موضوع الجهاد، الذي اعتبره التكليف الذي «يقتضي المسلمين أن يكافحوا الطواغيت وحاكميتهم» وأن يكافحوا «الظلم والبغي حيث كان، لا لتملك الأرض وتستذل الرقاب، بل لتحقيق كلمة الله في الأرض خالصة من كل غرض» واعتبر أن الإسلام في جهاد دائم حتى تحقيق ذلك.
ويعرض الشريف لأفكار عبدالله عزام الذي شارك في الجهاد الأفغاني، والذي اعتمد في أفكاره على المودودي قطب، مثل كل القادة الذين ذهبوا إلى أفغانستان. وهو يعتبر أن هدف الجهاد «إقامة دين الله على الأرض وتأسيس دولة إسلامية» معتبراً مثل أساتذته أن العقيدة الإسلامية وحدها القادرة على إنقاذ البشرية.
والشخصية الأخيرة التي يتعرض لها الشريف في الاتجاه «الحركي» هو سعيد حوى الذي شارك في قيادة «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» في سوريا والتي استخدمت السلاح في محاولة للإطاحة بالسلطة. ويعتبر حوى أن إقامة الدولة الإسلامية «فريضة» وأن المطالبة العامة بإقامتها «تشمل الجميع» وأن لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وهو أحد الفروض العظمى في الإسلام.
ولا يفوت الشريف أن يستعرض الاتجاهات الفقهية التقليدية بألوانها المتطرفة والمرنة والوسطية عبر أسماء من علماء السنة والشيعة مثل علي العلياني ومحمد سعيد رمضان البوطي وإبراهيم النعمة ووهبة الزحيلي ويوسف القرضاوي. ومن الشعية محمد المؤمن وعبد الكريم آل نجف ومحمد حسين فضل الله.
ومقابل الإسلام الحركي يعرض الشريف لمن يسميهم «المصلحون الجدد من دعاة اللاعنف» متتبعاً مواقف أربعة منهم وهم محمد مهدي شمس الدين، والشيخ جودت سعيد، والشيخ خليل عبد الكريم، والمفكر محمد شحرور.
يخلص الشريف من متابعته لتطور الفكر الجهادي إلى خلاصة، أنه كان من الطبيعي أن يلجأ الفقهاء المسلمون في سعيهم إلى إضفاء شرعية على أحداث لم يشهدوها، إلى لي عنق التاريخ، بما يجعله أكثر تكيفاً مع الأحكام التي وضعوها في زمن لاحق. وعلى مستوى تطور الفكر الجهادي الحديث، وعلى خلاف الكثير من الباحثين العرب والأجانب، الذين يرون توافقاً بين الإصلاح الديني والإسلام «الحركي» أو يرون الثاني امتداد للأول، يرى الشريف أن الإسلام السياسي الذي ظهر مع تأسيس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928، شكل قطيعة مع الإصلاح الديني. ويعتبر أن معظم الكتابات التي صدرت حول الجهاد في العقود الأخيرة، لم تتحرر من الكتابات الفقهية عن الجهاد العائدة إلى القرون الهجرية الأولى. كما تأثرت، بالمواقف التي تبناها من مسألة الجهاد رواد الإصلاح الديني، من جهة، ودعاة «الإسلام الحركي» من جهة ثانية.
سمير الزين
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد