السعودية: حكم الصبية
أجهز الملك سلمان أمس على ما تبقى من تركة سلفه عبدالله، بإعفاء الأمير مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد، بعدما كان الضمانة الوحيدة لوصول الأمير متعب بن عبدالله، وزير الحرس الوطني، إلى العرش... وبذلك تصبح المملكة السعودية خاضعة بالكامل لسلمان وابنه محمد، وزير الدفاع وولي ولي العهد ورئيس لجنة الشؤون الاقتصادية والتنمية، وابن شقيقه محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية ورئيس لجنة الشؤون السياسية والأمنية.
وفي سابقة في تاريخ الدولة السعودية يتمّ إعفاء ولي العهد من منصبه، إذ لم يصل الخلاف الذي نشب بين سعود وفيصل في مطلع الستينيات من القرن الماضي إلى حدّ إعفاء سعود لأخيه فيصل من منصبه، ولكن سلمان فعل ذلك رغم أن الأمر الملكي رقم أ/86 الصادر عن الملك عبدالله بتاريخ 28 آذار 2015 ينص على أن أمر تعيين مقرن في ولاية العهد «لا يجوز بأي حال من الأحوال تعديله، أو تبديله، بأي صورة كانت من أي شخص كائناً من كان، أو تسبيب، أو تأويل، لما جاء في الوثيقة الموقّعة منّا ومن أخينا سموّ ولي العهد..» أي سلمان. ومن الواضح أن هذه الفقرة كان يراد منها قطع الطريق على الملك، بعد عبدالله، في إجراء أي تعديل، إذ لا يمكن تصوّر حصوله في عهد الملك عبدالله.
تجدر الإشارة إلى أن من بين الأوامر الملكية الأربعة والعشرين التي صدرت أمس، هناك أربعة أوامر تثير إهتماماً خاصاً وهي: إعفاء مقرن من ولاية العهد، وسعود الفيصل من وزارة الخارجية، وتعيين محمد بن نايف ولياً للعهد، ومحمد بن سلمان ولياً لولي العهد.
ما يلفت في الأمر الملكي الخاص بإعفاء مقرن (رقم أ/90) من ولاية العهد أنّه جاء على «كتاب» مؤّرخ في (10 رجب 1436هـ الموافق لـ29 نيسان 2015) أي في اليوم نفسه الذي صدر فيه أمر الإعفاء، بل بعد ساعات قليلة من تقديم الكتاب للملك، ما يثير سؤالاً حول السرعة في الاطّلاع على «طلب الاعفاء» وتنفيذه الفوري، الأمر الذي يتجاوز الإجراء الشكلي، وأنه يومئ إلى صدوره قبل هذا التاريخ، وأن «كتاب» مقرن مجرد تحصيل حاصل.حجم الأوامر الملكية ونوعها ودلالاتها في غضون ثلاثة شهور منذ تولي سلمان العرش تعبّر عن أزمة الدولة السعودية
في قرار تعيين محمد بن نايف ولياً للعهد ومحمد بن سلمان ولياً لولي العهد ليس ثمة جديد، ولكن ما يلفت أن تعيين الأخير في منصبه الجديد جاء على «توصية» من محمد بن نايف لتفادي «الإحراج» الشكلي وسط العائلة المالكة، ليوحي وكأن الملك سلمان لم يكن ليختار ابنه لهذا المنصب لولا التوصية التي رفعها ولي العهد الجديد، وهذه سابقة أيضاً في تاريخ الدولة السعودية الحديثة. فقد تطلّب تعيين محمد بن سلمان تقديم «شهادة حسن سيرة وسلوك»، إذ أشاد الملك بابنه الشاب، وقال ما نصّه: «نظراً لما يتطلبه ذلك الاختيار من تقديم المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ولما يتصف به صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز من قدرات كبيرة - ولله الحمد - والتي اتضحت للجميع من خلال كافة الأعمال والمهام التي أنيطت به، وتمكن - بتوفيق من الله - من أدائها على الوجه الأمثل، ولما يتمتع به سموّه من صفات أهّلته لهذا المنصب، وأنه - بحول الله - قادر على النهوض بالمسؤوليات الجسيمة التي يتطلبها هذا المنصب، وبناءً على ما يقتضيه تحقيق المقاصد الشرعية، بما في ذلك انتقال السلطة وسلاسة تداولها على الوجه الشرعي وبمن تتوافر فيه الصفات المنصوص عليها في النظام الأساسي للحكم، فإن سموّه يرشّح سموّ الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ليكون ولياً لولي العهد». وأضاف إلى تلك الشهادة «تأييد الأغلبية العظمى من أعضاء هيئة البيعة لاختيار سموّه ليكون ولياً لولي العهد».
التأمل في عبارات الإطراء يظهر أن سلمان يرد على منتقدي ابنه في الأسرة المالكة بدرجة أساسية في إدارة ملف الحرب على اليمن، ما اضطره إلى أن يقدم تلك الشهادة ذات الطبيعة الدفاعية والإطرائية لناحية تبرير قرار التعيين، خصوصاً قوله «تقديم المصالح العليا للدولة على أي اعتبارآخر» لنفي الاعتبار الشخصي.
نشير إلى أن التقديمات الاجتماعية في الدفعة الأخيرة من الأوامر الملكية اقتصرت على العاملين في القطاعين العسكري والأمني، والغاية واضحة: ترسيخ سلطة محمد بن نايف وزير الداخلية، ومحمد بن سلمان، وزير الدفاع.
دلالات الأوامر الملكية الجديدة
ـ ان ثمة أزمة حكم في البيت السعودي. فحجم الأوامر الملكية ونوعها ودلالاتها في غضون ثلاثة شهور منذ تولي سلمان العرش تعبّر عن أزمة الدولة السعودية. تأتي الدفعة الثالثة من الأوامر الملكية (الأولى كانت في يوم وفاة الملك عبدالله في 22 كانون الثاني، والثانية في 29 كانون الثاني)، في سياق عملية تقويض ممنهجة لتركة الملك عبدالله. الدفعات الثلاث لا تقتصر على شكل السلطة، بل تطاول بنية السلطة وجوهرها. وبخلاف دعوى نقل السلطة إلى «جيل الشباب» لتبرير تعيين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان في منصبين سياديين على مقربة من العرش، فإن الأوامر الملكية تستهدف تركيز السلطة وليس نقلها، إذ باتت الدولة السعودية بكامل حمولتها في عهدة بيت سلمان بدرجة أساسية، ومحمد بن نايف، فيما أصبح أبناء الأمراء الكبار، سواء في الجناح السديري (فهد، سلطان، أحمد..) أو أبناء عبدالله (متعب، تركي، عبد العزيز..)، دع عنك آلاف الأمراء في الأسرة المالكة، خارج معادلة السلطة.
على أيّ حال، فإن إعفاء مقرن يجعل سلمان الملك المطلق، وهو وحده يدير لعبة السلطة الآن وفي المستقبل، إذ لن يكون هناك منافسون، لا من جناح عبدالله ولا من أي أجنحة أخرى داخل آل سعود.
ـ وضع حدّ للتباينات داخل العائلة المالكة حول العدوان على اليمن، بعد ظهور مؤشرات على معارضة أمراء للمقاربة العسكرية منذ البداية واستفراد محمد بن سلمان بقرارات الحرب والسلم. مقالة راغدة درغام في صحيفة (الحياة) لصاحبها الأمير خالد بن سلطان، حول القرار 2216 الخاص باليمن تحت الفصل السابع، في 24 نيسان الجاري تشير، في الحد الأدنى، إلى تباين المقاربات بين الأمراء، وتلفت إلى الغاية من الانتقال من «عاصفة الحزم» إلى «استعادة الأمل» التي وصفتها بـ«استراتيجية خروج» وأنها «كانت ضرورية لتجنّب الانزلاق إلى مستنقع بري في اليمن، لا سيما بعدما بات واضحاً أن لا مصر ولا باكستان جاهزتان للتورط بقوات برية في اليمن». درغام لمّحت إلى ما كان يتداوله أمراء آل سعود في السر عن «الاستعجال» الذي وقع عندما بدأت «عاصفة الحزم»، وأن «العملية لم تجهّز الناحية البرّية من الحرب في اليمن، ولم تضع خطة «باء» في حال عدم توافر الجيوش البرية. فالغارات الجوية وحدها لم يكن لها أن تنجزالمهمة العسكرية مهما كانت مكثفة». أسهبت درغام في نقد الاستراتيجية العسكرية السعودية في «عاصفة الحزم»، وأن المسؤول عن قرار الحرب، أي محمد بن سلمان، لم يكن على دراية كافية بقواعد الحروب، وشدّدت على الإرباك المبكّر في بنية التحالف العشري، لا سيما «عبر إعلان انتماء باكستان إلى «التحالف» ليليه رفض باكستان الانخراط فيه». بدا المقال كما لو أنه «سرديّة» عسكرية من نوع خاص، إن لم يكن بمثابة خلاصة لجلسة مكثفة مع خالد بن سلطان وأمراء آخرين لديهم مقاربة مختلفة عن تلك التي لدى وزير الدفاع محمد بن سلمان..
ـ احتواء تداعيات فشل العدوان على اليمن، الأمر الذي يتطلب «تماسك» الجبهة الداخلية في حال تقرر وقف الحرب دون تحقيق منجزات ميدانية يمكن التعويل عليها. صدور أوامر ملكية بهذه الحساسية والخطورة وفي هذا التوقيت على وجه التحديد يندرج في سياق تأويلي مختلف. في الأحوال الاعتيادية، يصبح مثل الإعفاءات والتعيينات تلك مألوفاً، ولكن حين تصدر في وقت الحرب تأخذ دون ريب معنى آخر، وتعكس أزمة داخلية تستدعي مثل هذا الإجراء العاجل.
ـ ان الأوامر الملكية أخذت إلى حدّ كبير طابعاً شخصياً، وأن سلمان تجاوز الأعراف السائدة فيما يرتبط بالمناصب السيادية، وفرض معيار الولاء له شخصياً وليس الولاء للعائلة المالكة. ظهر ذلك بوضوح في الدفعة الثانية من الأوامر الملكية التي اختار فيها وزراء على ولاء له ولابنه محمد بن سلمان، وها هو يؤكّد ذلك في الأوامر الجديدة. عادل الجبير، وزير الخارجية الجديد، تجاوز، على سبيل المثال، الآليات المعتمدة في عمل السفراء وصار يرسل تقاريره إلى الملك مباشرة دون الرجوع إلى مسؤوله المباشر، أي سعود الفيصل، ما يعزّز فكرة الولاء الشخصي، من بين أفكار أخرى ينطوي عليها تعيين الجبير في منصب وزير الخارجية.
التأمل في الأوامر الجديدة يوصل إلى نتيجة مفادها أن سلمان دخل مع الأميركي في ترتيبات السلطة، وتقوم على انتقاء أشخاص مقرّبين من واشنطن (مثل وزير الداخلية محمد بن نايف ووزير الخارجية عادل الجبير) في إطار صفقة تشمل تعيين محمد بن سلمان في منصب ولي ولي العهد وإعفاء مقرن وتالياً تهميش جناح عبدالله.
يثبت سلمان أنه على استعداد لتقديم ما لم يقدّمه سلفه للأميركيين من أجل إعادة ترميم التحالف الاستراتيجي بين الرياض وواشنطن، وإن الوجوه الجديدة التي جاء بها تؤكّد هذا المنحى؛ فوزير الداخلية محمد بن نايف يحل محل بندر بن سلطان، ووزير الخارجية الجديد عادل الجبير يتولى مكان سعود الفيصل، وبالتالي أصبح ملفا الداخلية والخارجية في العهدة الأميركية.
السيناريوات المحتملة في المرحلة المقبلة سوف تأتي في السياق نفسه الذي بدأه سلمان منذ الساعات الأولى لاعتلائه العرش، وهناك سيناريوان مطروحان في الوقت الراهن:
ـ الأول: تنحّي الملك عن السلطة وتعيين محمد بن نايف ملكاً ومحمد بن سلمان ولياً للعهد، على أن يصبح سلمان رئيس مجلس العائلة من أجل ضمان انتقال سلس وهادئ للسلطة برعايته الشخصية، وبما يحول دون تفجّر خلافات مستقبلية. قد يكون هذا الإجراء مخرجاً مثالياً لاحتواء مبكر لصراعات داخل العائلة يشارك فيها الأمراء المتضررون من احتكار السلطة من قبل أبناء سلمان ونايف.
الثاني: إلغاء وزارة الحرس الوطني وإعفاء الأمير متعب من منصبه كوزير للحرس، وإلحاقها بوزارة الدفاع التي يتولاها محمد بن سلمان، فيما يتولى متعب منصباً شرفياً. كان الأمر الملكي بنقل الحرس الوطني إلى الحدود مقصوداً، وقد أجابت الأوامر الملكية الجديدة عن أسئلة رئيسية حول الغرض من هذه الخطوة، ومنها إبعاد الحرس من مركز السلطة لتفادي أي ردود فعل يمكن أن يقدم عليها متعب، وأيضاً وهذا الأهم التمهيد لخطوة أكبر يصبح فيها الحرس الوطني تحت سلطة وزير الدفاع.
رسالة الرئيس الأميركي أوباما إلى الأمير متعب ليست معزولة عن تطوّرات أمس، بل قد تأتي في سياق احتواء ردود فعل متوقّعة من قبل جناح وجد نفسه بلا «ريش» في غضون فترة قياسية.
فؤاد إبراهيم
25 أمراً ملكياً
25 أمراً ملكياً خرجت على السعوديين صباح أمس حملت تغييرات كبيرة في الحكم السعودي. وإضافة إلى التغيير في مركز ولي العهد وولي ولي العهد ووزارة الخارجية، شملت التغييرات أيضاً منصب وزير الصحة بتعيين خالد الفالح وزيراً وإعفاء وزير التخطيط والاقتصاد محمد الجاسر من منصبه وتعيين بدل منه عادل فقيه. كذلك تم تعيين مفرج بن سعد الحقباني وزيراً للعمل بدل فقيه وتعيين حمد السويلم رئيساً للديوان الملكي بمرتبة وزير خلفاً لولي ولي العهد محمد بن سلمان.
كذلك عيّن محمد بن سليمان الجاسر مستشاراً في الديوان الملكي بمرتبة وزير وأعفي خالد بن عبدالرحمن العيسى من منصبه كنائب لرئيس الديوان الملكي وعيّن وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء.
وشملت التغييرات أيضاً مناصب في هيئات ومؤسسات حكومية.
سعود الفيصل: 40 عاماً في صناعة... الوحول
لا تُخصتر فترة أربعين عاماً قضاها سعود الفيصل على رأس وزارة الخارجية بعرض المواقف الديبلوماسية حيال عدد من الأزمات التي شهدتها المنطقة العربية، بل الأدعى الوقوف على واقع المنطقة العربية في يوم تنحّي "أقدم وزير خارجية عربي".
وتكمن أهمية الطرح لجهة وضوح الرابط بين السياسة الخارجية السعودية وسعود الفيصل (المولود عام 1940) الذي راكم نفوذه في بلاده وفي العالم العربي بشكل سمح له بالتأثير المباشر في الأحداث وفي تحديد السياسات. وفي تقرير نشرته وكالة "رويترز"، أمس، نقلت عن دبلوماسيين في الرياض قولهم إنّ "السياسة الخارجية السعودية مثل جهاز الضوء الكاشف، قادرة على التركيز الشديد على المجال الذي يهتم به الملك والأمير سعود أكثر من غيره".
قيادة "الانقلاب العربي"
الرجل الذي ظهر قبل أيام في مؤتمر صحافي إلى جانب وزير الخارجية الفرنسي وقد بدت عليه آثار المرض والعجز، والذي استقبل قبل أسابيع جون كيري مستعيناً بعكاز لبحث قضية اقتراب التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، شارك منذ عام 2011 في قلب موازين القوى ضمن العالم العربي، لمصلحة دول مجلس التعاون الخليجي.
وكنتيجة لذلك، تتشارك اليوم طائرات تابعة لدول مجلس التعاون والطائرات الأميركية في حروب مزعومة ضد الإرهاب في العراق وسوريا. وبالتوازي، تقود السعودية حرباً في اليمن، في قرار لم يسبق له مثيل على المستوى السعودي. وجاء قرار الحرب في اليمن، الذي بدا كأنّ الرياض اتخذته منفردة، في ظل احتجاج سعودي واضح على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في عهد الرئيس باراك أوباما. ومعروف أنّ وزير الخارجية السعودي كان صاحب الصوت الاحتجاجي الأقوى في هذا الصدد.
ولعقود مضت كان لا يمكن الحكم على السياسة الخارجية السعودية إلا من باب التبعية لواشنطن. وحتى في يومنا لا يمكن الحديث عن استقلالية سعودية في هذا المجال، لكن من المؤكد أنّ انقلابات جرت في المشهد العربي منذ عام 2011 ــ كان سعود الفيصل أحد أركانها ــ منحت الرياض هامش تحرك أوسع.
مستعيناً بالتغيرات التي أنتجتها أحداث ما سمّي "الربيع العربي" في دول عربية مهمة، قاد سعود الفيصل منذ عام 2011 سياسة أدت إلى إمساك السعودية بزمام القرارات العربية. وكان الوزير السعودي طليق اليدين بعد الحدّ من الوزن السياسي لدمشق، فيما كان من أبرز الداعمين لإخراج جماعة الإخوان المسلمين من دائرة القرار في القاهرة ووصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى سدة الحكم (حليف السعودية حالياً). حتى في بغداد، قاد سعود الفيصل معركة واضحة بوجه حكومة نوري المالكي، في محاولة لاستعادة النفوذ السياسي السعودي على العراق.
بناء السياسة: إيران و"الإرث العربي"
المحدد الأول للسياسة الخارجية السعودية الذي كان سعود الفيصل يبرر من خلاله التدخل القوي لبلاده في شؤون المنطقة، هو "مواجهة النفوذ الإيراني". وحتى قبل عام 2011، تشير وثائق "ويكيليكس" إلى هذه المسألة، وتشير أيضاً إلى تبنّي سعود الفيصل لهذا الخطاب في سلسلة أحاديث جرت مع مسؤولين أميركيين. مثلاً، تقول وثيقة أميركية تعود إلى شهر آذار 2009، إنه "من وجهة نظر السعودية، فقد تجاهلنا، نحن الأميركيين، نصيحة الملك ووزير الخارجية سعود الفيصل بعدم غزو العراق، لأن التدخل العسكري (بحسب الفيصل) في أفغانستان والعراق قد قلب المعادلات الإقليمية لصالح إيران". ومعروف أنّه في عام 2003 كان موقف سعود الفيصل رافضاً لغزو العراق.
وعرف الوزير الحائز إجازة في الاقتصاد من جامعة برينستون الاميركية عام 1964، والذي قضى أعواماً في وزارة البترول تحت رعاية وزير البترول السعودي، أحمد زكي يماني، أهم أيامه في الخارجية في عهد الملك عبدالله. وفي إطار الأسرة الحاكمة الكبيرة العدد، ثبت أن سعود كان من أقرب حلفاء عبدالله. واستطراداً، عندما شرع الملك الراحل، وهو ولي للعهد، في سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية عام 2000، كان سعود الفيصل، بما اكتسبه من خبرة إبان عمله في وزارة النفط، هو الذي عمل معه لفتح الطريق أمام شركات الطاقة الأجنبية للعمل في حقول الغاز السعودية.
وكان لمواقف سعود فيصل وزن في الساحة العربية، نظراً إلى الثقل السعودي بدرجة أولى، ونظراً إلى طول فترة توليه منصبه. وفي عام 1975، جاء تسلم الفيصل للخارجية في فترة كانت تشهد فيها دول الخليج طفرة اقتصادية، وهو عامل أدى إلى تنامي التأثير السعودي إقليمياً. وفي حينه، كان العالم العربي يعيش تداعيات حرب 1973، وكان "إرث عبد الناصر" لا يزال حاضراً، فيما كان أنور السادات يُعدّ لمشروع سلامه مع إسرائيل، وكان العالم العربي يعيش آخر مراحل الانقلابات في عدة دول، قبل أن يدخل في فترة استقرار نسبي. انتهت تلك الحقبة عام 1979: ثورة في إيران، بداية التدخل السوفياتي في أفغانستان وما قابله من بحث أميركي عن قواعد في الخليج تثبّت لأميركا نفوذها، وكذلك اتفاق كامب دايفيد.
يتحمّل سعود الفيصل، بصفته وزيراً للخارجية، مسؤولية عن كل تلك المرحلة وما أنتجته من تداعيات ظهرت في ما بعد حرب الخليج الثانية. لكن الأكيد أنّ ما سيسجّل للوزير السعودي هو مشاركته الفاعلة في تثبيت دور السعودية عربياً في عقد الستعينيات وما تلاه، من خلال وراثة القضايا العربية، وكذلك اتساع نفوذ الرياض في القضية الفلسطينية.
أدوات تدخل متباينة
عرفت السياسة الخارجية السعودية تدخلات عدة في تلك المرحلة، من دول شرق آسيا، أو حتى في يوغوسلافيا السابقة. وهي تتحمل في ذلك العهد مدّ الخطابات الإسلاموية بالحياة ونموّها في العالم العربي.
وليست الحالة اللبنانية عابرة ضمن كل هذا المشهد، نظراً إلى اتفاق الطائف الذي رعته السعودية وساهم فيه الأمير السعودي. وبفضل هذا الاتفاق وصيغة الحكم التي أنتجها، وضعت السعودية يدها على مفاصل الحكم في لبنان وعلى توجهاته السياسية.
وفي وقت لاحق، مثّل لبنان لسعود الفيصل ساحة أخرى للتجاذب مع إيران، على خلفية العلاقة مع حزب الله. وتكشف وثائق "ويكيليكس"، أيضاً، أنّ سعود الفيصل اقترح إبان أحداث أيار 2008 في بيروت تشكيل قوة عربية تدعمها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي للتدخل في لبنان والقضاء على حزب الله.
عموماً، المفارقة أنّ الأحداث الراهنة في العالم العربي قدّمت نموذجاً آخر لسياسات سعود الفيصل. فما عمل عليه وزير الخارجية السعودي المتنحّي في لبنان ومن ثم في العراق ما بعد الغزو، قدّم نموذجاً أكثر خطورة منه في سوريا بعد 2011، إذ قاد سياسة التسليح وساهم في شرعنة سياسات فصل المناطق عن السلطة السورية. وفي أوائل عام 2012 سئل عمّا إذا كان يعتقد أن "تسليح مقاتلي المعارضة السورية فكرة جيدة"، فجاء ردّه سريعاً "أعتقد أنها فكرة ممتازة"، لا بل طالب قبل أسابيع بـ"وجود قوات قتالية على الأرض" في سوريا تحت ذريعة "محاربة داعش".
الجبير: موظف بذهنية أميركية
كان خروج عادل الجبير في آذار الماضي، ليعلن بنفسه من واشنطن بدء حملة «عاصفة الحزم» على اليمن، دليلاً كافياً على أن الرجل لن يكون اسماً عابراً في المرحلة المقبلة من تاريخ السعودية. اختير الجبير الذي شغل منصب السفير السعودي في الولايات المتحدة منذ عام 2007، ليكون واجهة المغامرة الأخيرة للرياض في المنطقة، قبل أن يرقّيه الملك سلمان بين ليلةٍ وضحاها، مسلّماً إياه وزارة الخارجية، بعد 40 عاماً من تولّي سعود الفيصل السياسة الخارجية للمملكة، ليكون بذلك الجبير ثاني وزير للخارجية من خارج الأسرة الحاكمة، بعد إبراهيم السويل الذي شغل المنصب نفسه بين عامي 1960 و1962.
ويبدو أن تعيين الجبير (53 عاماً) في هذا المنصب يصبّ في مساعي الملك سلمان لإحكام قبضته على مفاصل الحكم كافة، عبر إزالة الأسماء التي يمكن أن تمثل له عثرات على طريق التفرّد، فوقع الاختيار على موظف دبلوماسي يلتزم بالاملاءات الملكية كاملةً، من دون أن يمثل قطباً قائماً مثل خلفه الفيصل. كذلك يأتي تعيين الجبير، الذي أمضى نحو ثلاثين عاماً في الولايات المتحدة، معظمها في كنف بندر بن سلطان، في لحظةٍ مفصلية من تاريخ علاقة الرياض بواشنطن، في ضوء التباين الذي ظهر بوضوح أخيراً بين الحليفين، إزاء ملفات إقليمية كبرى مثل الاتفاق النووي بين أميركا وإيران، وأخيراً الضغوط التي مارستها واشنطن على الرياض، والتي لم تعد سرّاً، لإيقاف العمليات العسكرية الفاشلة ضمن «عاصفة الحزم». هذه المعطيات التي تثير التساؤلات بشأن مستقبل العلاقات بين الحليفين التاريخين، تجعل من تعيين الجبير، رجل السعودية في أميركا الذي بات خبيراً بذهنية الأميركيين، الشخص المناسب في التوقيت المناسب.
خرج اسم الجبير الذي ولد في مدينة المجمعة (شمال الرياض)، للمرة الأولى، إلى دائرة الضوء في حرب الخليج الثانية (1990)، حين ظهر إعلامياً بصفته متحدثاً باسم السفارة السعودية في أميركا، وظلّ يشغل هذا المنصب حتى عام 1994، عندما انضم إلى الوفد الدائم للسعودية في جمعية الأمم المتحدة. قبل ذلك، عيّنه بندر بن سلطان في منصب مساعد لشؤون الكونغرس وفي الشؤون الإعلامية التابعة للسفارة عام 1986، وكان عمره حينها 24 عاماً فقط. ويرجع الفضل الأساسي في تقدمه السريع في السلك الدبلوماسي إلى عمل والده الذي شغل منصب الملحق الثقافي في عدد من السفارات السعودية حول العالم. وتفيد المعلومات بأن الجبير، من خلال وظيفته تلك، كان المسؤول السعودي الأكثر اتصالاً بالاسرائيليين على مدى العقدين الماضيين، كما كان مكلفاً بالعلاقة مع اللوبيات اليهودية في الولايات المتحدة، مهمة جعلته المكلف بتأمين شخصيات يهودية لزيارة الرياض للمشاركة في حوار الحضارات الذي سبق أن أطلقه الملك الراحل عبدالله.
حصل الجبير على درجة البكالوريوس من جامعة شمال تكساس في الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم حاز درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة «جورج تاون» في العلاقات الدولية. وخلافاً للطلاب السعوديين، كان الجبير يجيد الانكليزية بلكنةٍ أميركية، ما سهل دوره كمترجم للملك السعودي الراحل عبدالله الذي قرّبه من الأسرة الحاكمة، بالتزامن مع علاقته الوطيدة بالأمير بندر وبعمله دليلاً لأمراء آل سعود خلال زياراتهم لواشنطن حيث كان يقيم. وعُرف بعلاقاته الاجتماعية بالمسؤولين العرب، من أمثال رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري.
خلال أحداث 11 أيلول 2001، ظهر الجبير بصورةٍ مكثفة في وسائل الإعلام الأميركية ليدافع عن السعودية بعد اتهامها برعاية الإرهاب، في وقتٍ عُرف فيه الرجل بحماسته الشديدة لسياسات بلاده حين كان لا يزال طالباً في «جورج تاون»، حتى إن أحد أساتذته طلب منه ذات مرة أن «يميّز بين الدراسة الأكاديمية والبروباغندا».
التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الجبير خلال العدوان السعودي على اليمن اتسمت بحدّةٍ لافتة وبسقفٍ عالٍ، حتى إنه بدا المتحدث الرسمي باسم الحملة العسكرية، إذ حدّد بنفسه أهداف الحرب، قبل أن يكرر خلال العمليات العسكرية، المتواصلة حتى الساعة، الهجوم على إيران. وفي هذا السياق، قال الجبير قبل أسبوع إنه «لن يكون لها (إيران) دورٌ في مستقبل اليمن». وكانت وثائق قضائية قد ذكرت عام 2011 أن «السلطات الأميركية أحبطت مؤامرة إيرانية لتفجير سفارة السعودية في واشنطن واغتيال السفير السعودي لدى الولايات المتحدة عادل جبير».
يبقى المؤكد أن نظام آل سعود مقبلٌ على تعديلات مهمة في سياسته الخارجية سعياً إلى مواكبة التطورات الدولية والاقليمية، حتى ولو كلّف ذلك الاستعانة بمسؤول من «الرعية»، في محاولةٍ ـ قد تكون الأخيرة ـ للحفاظ على وضعية المملكة في عالمٍ يتغيّر.
(الأخبار)
إضافة تعليق جديد