المراوغة في فكر النخب المصرية السائدة (1)
هناك نخب مصرية سائدة في الساحة السياسية والدينية والإعلامية، نرى مقالاتهم اليومية أو الأسبوعية في أكبر صحف الحكومة والمعارضة على حد سواء، ونرى وجوههم على الشاشات المصرية والعربية بشكل مستمر، وهي نخبة متناقضة متخبطة، تاريخها القديم والجديد يكشف ترابط مصالحها السياسية والدينية مع السلطة والمال.
بسبب هذه النخب يتخبط الرأي العام المصري، ولا يعرف الحقيقة أبدا في ظل هذا التخبط الفكري والسياسي والديني السائد، تجسده أحيانا رسوم الكاريكاتير، والنكات المضحكة، ومنها كاريكاتير يصور رجلا يقرأ مانشيتا صحفيا كبيرا يؤكد أن: الدم ملوث بسبب أكياس الشركة إياها، ورجلا آخر أمامه مانشيت يقول: الدم آمن وشركات الدماء الأجنبية تهاجم الشركة إياها لأنها شركة وطنية رفعت رأس الصناعة المصرية الشريفة! تتخبط النخب السياسية والفكرية، بسبب المصالح المشتركة، (أو عدم الوعي؟)، ويتخبط الرأي العام المصري بسبب تخبط النخب وتناقضها، وقوتها البلاغية في الدفاع عن الفاسدين من أصحاب السيادة في البرلمان أو الحكومة أو الأحزاب أو القوى الدينية السائدة أو الشركات الرأسمالية المصرية أو الأجنبية.
أخطر شيء هو استخدام شعار حماية الصناعة الوطنية لتمرير فساد شركة تجارية أو صناعية مصرية، يشبه شعار حماية النساء بالحجاب والختان لتمرير الفساد الأخلاقي لعدد من الرجال، وشعار حماية الشعب المصري، لتمرير الاستبداد السياسي أو الثقافي أو الديني، ومصادرة الكتب والروايات، وكلها شعارات منقولة عن الاستعمار البريطاني القديم، الذي احتل مصر تحت إسم «الحماية»، والاستعمار الأميركى الجديد، الذي يحتل العراق تحت إسم الحرية والديموقراطية وتحرير النساء.
أما عن الشعار الذي ترفعه بعض النخب المصرية المتخبطة والذي يقول: أن الاستقرار والسلام الاجتماعي في مصر يأتي من خلال الدفاع عن حق التيار الإخواني في التعبير عن نفسه بحرية، باعتبار أن إطلاق الحريات العامة في مصر هو جوهر الديموقراطية، ولأن هذا التيار الإخواني موجود على خريطة الواقع. فلا أحد يسأل: كيف أصبح تيار إسلامي واحد هو المسيطر على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في مصر؟ هل بسبب قدرته على التخويف من العقاب في الدنيا والآخرة؟ أم لأن الحكومات المصرية المتتالية قمعت كل التيارات السياسية والثقافية الأخرى، خوفا من تغيير القيم الرأسمالية الأبوية التي يحميها التيار الإخواني مع النظام داخليا ودوليا؟
ألم تضرب هذه الحكومات جميع التيارات الاشتراكية والنسائية والشبابية في مصر، تمهيدا للغزو الأميركي الإسرائيلي للاقتصاد المصري منذ بداية السبعينات؟ ألم يسمح أنور السادات إلا بأحزاب المعارضة الشرعية الخاضعة للنظام ومنظمات المجتمع المدني الاكثر خضوعا؟
ألا يسأل أحد لماذا أصبح الحكم في بلادنا اليوم لرجال الأعمال وأصحاب الشركات الرأسمالية التابعة للشركات الدولية واقتصاد السوق والعولمة؟ هذه العولمة التي لا تعرف إلا الربح والقوة العسكرية لضمان المزيد من الأرباح، هذه العولمة التي حولت أغلب سكان العالم (وليس الشعب المصري فقط) إلى فقراء مطحونين في العمل بأجور قليلة، أو إلى عاطلين بلا عمل على الإطلاق، أو إلى مهاجرين يموتون في البحر قبل الوصول، أو يموتون بعد الوصول تحت وطأة قوانين أكثر تعسفا.
تحاول بعض النخب المصرية، التي تسود الصحافة والإعلام، والتي تغازل التيارات الإسلامية وجماعة الإخوان، تحت إسم إطلاق الحريات واحترام الشرعية والإقرار بالواقع، وكلها شعارات حق يراد بها باطل، تحاول إيقاف مسيرة التقدم الفكري والسياسي في بلادنا، وإبقاف الحركة الأخيرة التي طالبت بتعديل الدستور المصري ليكون أكثر عدلا في التعامل مع المواطنين بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة أو غيرها، هؤلاء الذين طالبوا «بالمواطنة» الكاملة المتساوية لجميع فئات الشعب المصري نساء ورجالا وأقباطا ومــسلمين، وفقراء وأغنياء.
حاولت بعض النخب السائدة إعلاميا ضرب هذه الحركة الصحية الجديدة بالمراوغة الفكرية، واللعب على العقول بذكاء وحرفية، والوقوف ضد أي تغيير في الدستور يؤدي إلى المواطنة أو المساواة بين جميع أفراد وفئات الشعب المصري. قرأنا مقالات مراوغة تدافع عن الدستور الحالي، وعدم حذف المادة رقم 2 التي تفرق بين المواطنين على أساس الدين، أو تعديلها، وعدم حذف عبارة «في اطار الشريعة الاسلامية» في المادة التي تنص على المساواة بين الرجال والنساء.
وهم متمرسون في الالاعيب القانونية والدستورية، قادرون دائما على قلب الحقيقة وتشريع التفرقة بين المسلمين والأقباط، أو بين النساء والرجال، في ظل القانون، ولا يمكن أحداً أن يناقشهم!
يقولون مثلا: ان الباب الأول من الدستور يشمل مجموعة من المواد التقريرية والتوجيهية مثل النص على أن الإسلام دين الدولة، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية تمثل المصدر الرئيسي للتشريع، وأن هذه الأحكام التقريرية والتوجيهية للدستور (حسب قواعد الفقه القانوني) ليس هدفها تثبيت مبادئ الحاضر فحسب، ولكنها أيضا ترسم مبادئ المستقبل ونشاط المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في المجتمع كله، كما أنها تجدد المقاصد العامة للأصول الشرعية التي تقوم عليها الدولة والمجتمع والعائلة (حيث أن العائلة هي النواة التي يقوم عليها المجتمع والدولة).
ثم يقولون: ان الدستور ينص في صلب أحكامه التوجيهية على أن الإسلام دين الدولة، بمثل ما ينص على حماية الوحدة الوطنية، وحيث أن المشرع منزه عن التناقض في صياغته لمواد الدستور، لذلك فإنه لا تعارض على الإطلاق بين هذا النص وبين الوحدة الوطنية أو «حق المواطنة».
يمر هذا الكلام المتناقض دون مناقشة، لأنه يصدر عن سلطة إعلامية كبيرة، وهي سلطة النخبة التي ترتدي قبعة المعارضة أحيانا، وقبعة النظام الحاكم أحيانا أخرى، تغازل التيارات الإسلامية بمثل ما تغازل الأقباط والنساء والداعين الى تعديل الدستور.
هدفهم الرئيسي تثبيت الوضع الحالي الذي يفرق بين المواطنين على أساس الدين والجنس والطبقة وغيرها، تحت إسم الدفاع القانوني والفقهي والشرعي عن مواد الدستور الحالي.
يؤدي هذه التناقض الفكري والسياسي إلى تخبط الكثيرين والكثيرات من المثقفين والمثقفات ولا أقول المواطن العادي، الذي لم يدرس الفقه القانوني ولا ما يسمونه الأصول المرجعية للدولة والمجتمع.
والسؤال الوارد: ما هي الأصول المرجعية للدولة والمجتمع في مصر؟ فالتاريخ يقول إن مصر تعرضت لكثير من الغزوات، وقد فتحها اليونان والرومان والعثمانيون والبريطانيون، وأغلب ابناء الشعب المصري كانوا من الأقباط، ثم أصبح أغلبه (بعد الفتح العربي) من المسلمين، وهناك قطاعات من الشعب المصري تؤمن بأديان وعقائد أخرى غير الإسلام، كما أن أغلب النساء في مصر يناضلن منذ زمن طويل ضد تعدد الزوجات وضد الحق المطلق للرجل في الطلاق، وفي اقامة علاقات جنسية خارج الزواج. هناك دول إسلامية منعت تعدد الزوجات، كما أن أحكام الشريعة الإسلامية في مصر تختلف عنها في دول عربية واسلامية اخرى. والسؤال: لماذا تدافع هذه النخب المسيطرة إعلاميا عن الوضع القائم؟ لماذا تقف في وجه الحركة الجديدة التي تطالب بالمساواة الكاملة بين أفراد الشعب المصري؟
لكن التاريخ الإنساني يسير إلى الأمام وليس الى الخلف. فالعدالة والحرية والحب والسلام تنتصر، عاجلا أو آجلا، على الظلم والتفرقة بين الناس، والاستبداد والقتل والكراهية والظلم والفتن الطائفية.
ان التعامل مع هذه الافكار المراوغة لا يكون الا بالأفكار الصريحة الواضحة، أي بالجدل العلمي والنقاش الحر (غير المهدد بالتكفير أو انكار المعلوم من الدين أو الثوابت المقدسة). التعامل مع هذه الافكار لا يكون بالمثول أمام النيابة أو المحاكمة المغلقة ثم الاعتذار وكفى المؤمنين شر القتال، بل العلاج هو المحاكمات العلنية المفتوحة على كل الاتجاهات وكل فئات الشعب نساء ورجالا وأطفالا من كل الاديان والعقائد، وقد أمر الله بحرية العقيدة، (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ومنذ قرن مضى نشر في مصر كتاب عنوانه: لماذا أنا ملحد؟ لا يعني الايمان بالدين الذي ورثناه عن الأب أننا أفضل الناس خلقا، وأغلبية سكان الأرض لهم عقائد مختلفة عنا، ومنهم كثيرون وكثيرات أكثر التزاما منا بالعدالة وعدم التفرقة بين البشر على أساس الدين أو الجنس أو الطبقة أو غيرها، وهم يتظاهرون ويناضلون أكثر منا ضد الحرب في العراق أو فلسطين أو لبنان أو الصومال أو أفغانستان أو غيرها، بل أكثر منا دفاعا عن قضايانا العربية، وضد النهب الاستعماري لمواردنا وانتاجنا الوطني، والرجل منهم أكثر احتراما للمرأة منا، وأكثر حرصا على حقوق الاطفال، فلا يعاقب الطفل البرىء كما يحدث عندنا، ويطلق سراح الرجل الجاني.
انها شعوب تراقب حكـــوماتها وتشارك في صنع الأحداث، وليسوا مثلنا لا نشارك في شيء الا الــــشكوى والبكاء والتوسل لأصـــحاب السلــــطة كي يمــنحوننا الحرية والديموقراطية والاصلاحات الدستورية والاقتصادية.
النخب السائدة في مصر تقلب الحقائق رأسا على عقب، تحت اسم حماية الشعب القاصر لأنهم في نظر أنفسهم قادة الفكر والمفكرون، يغازلون رئيس الدولة ببعض المقالات الناقدة له، فيسعى اليهم يسترضيهم، ويرتفع ثمنهم في نظره، أكثر من الآخرين المطيعين الخاضعين.
انها لعبة النخبة المعارضة في مصر، تدربوا عليها في كافة العهود، عيونهم شاخصة دائما نحو الرئيس، وظهورهم نحو الشعب، تماما مثل الأمومة المقدسة التي يتغنون بها في أعياد الأم الفارغة من أبسط الحقوق الانسانية، وأولها غياب شرف الأم. ويكفي لأي طفل أن يحمل اسم أمه حتى يصبح ابن الزنا ويلحقه العار طول العمر.
لدينا أنواع أخرى من النخب الاعلامية السائدة، التي أصبحت تهاجم التيارات الدينية تأييدا للحكومة في صراعها ضد الاخوان، وهم يغضون الطرف عن فساد الشركات التابعة للعولمة، والسعي الدؤوب لرجال الأعمال في مصر للاستيلاء على الحكم بدلا من العناصر المسيطرة حاليا.
مع تزايد المراوغة والخداع الفكري تزايد التدين السطحي الذي يركز على مظهر الأخلاق (الملابس والحجاب) وليس جوهر الأخلاق (السلوك اليومي والمسؤولية الفردية والجماعية والعمل المنتج المبدع) واحترام الآراء الأخرى والعقائد الأخرى.
نوال السعداوي
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد