ثقافات التعصب والخيانة
المخزي والموجع والمفجع أن كل هذا التمزق والتفتت والتشرذم والانشقاق والتناحر والاقتتال والاحتراب الذي يشهده العالمان العربي
والاسلامي وكل هذه العدائية والاستشراس والتكالب التي تظهرها أمريكا والغرب ضد مصالحنا ومجتمعاتنا ومستقبل أجيالنا تجري بقضها وقضيضها جهاراً نهاراً على مرأى ومسمع من خلق الله أجمعين , الصالحين منهم والمارقين .
إن ما يجري قطعاً هو شيء عصي على الفهم , فلا يمكن أن يتبلد إلى هذا الحد أو تنمحق الشهامة وتتبدد الكرامة ويغيب العقل ويختفي المنطق وتنمحي الذاكرة , إذ لابد من وجود آلة جهنمية من جعل العرب والمسلمين يظهرون على هذه الصورة البائسة المخزية , ولابد ان هذه الآلة كانت قادرة على تزوير الواقع وقلب الحقائق والوقائع وخلق مجموعة من الأوهام التي أصبحت بديلاً حقيقياً عن الواقع .
عقدت غالبية المسلمين حلفاً قوياً مع الغرب منذ نشوء الحرب الباردة عام 1945 وجاهرت بعدائها للاتحاد السوفييتي , حيث أقامت دول إسلامية كبيرة مثل العراق وتركيا وإيران وباكستان حلف بغداد عام 1955 لمناهضة ذلك الاتحاد ومجابهته , وقد جرى تبرير ذلك كله عبر إيهام البسطاء من المسلمين أن الغرب يؤمن بالله وأن الغربيين هم أهل كتاب في حين ان الاتحاد السوفييتي هو ملحد ومارق , ولابد من التصدي له وزعزعة كيانه وإسقاطه , ولقد أفاق العرب والمسلمون على هذا التزييف الخطير بعد خراب البصرة , واستيقظ بن لادن وقاعدته على حقيقة أن أمريكا هي العدو الاول للعرب والمسلمين بعد أن ناصرها طويلاً وبعد أن أنهك الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وأسهم في انهياره ودعم تحول أمريكا إلى قطب أوحد .
وبعد أن حاولت كل من سورية ومصر كسر الطوق المفروض على تسلحهما من قبل الغرب باللجوء , في أواسط الخمسينيات , إلى التسلح مع المعسكر الشرقي أقام الأعراب والمتأسلمون من أذناب الغرب الدنيا ولم يقعدوها وجرى اتهام العروبة كلها بأنها ملحدة ومارقة , كما جرى وضع العروبة في مواجهة الإسلام مع تجاهل فظيع وخطير ومفجع للجدلية القائمة بين العروبة والإسلام , وكان ذلك أول إسفين وضعته تلك الآلة الجهنمية في المنطقة برمتها , وأول عدو وهمي اخترعته للتمويه على العدو الحقيقي الذي اسمه إسرائيل , ومنذ ذلك الوقت تعاظمت الاتصالات والمباحثات والمؤامرات بين أولئك الأعراب والمتأسلمين وبين الكيان الصهيوني .
لم تكن مسألة العزة الوطنية والكرامة القومية ومنعة الإسلام واردة عند الأعراب والمتأسلمين , فلقد كان الهدف الرئيسي هو التبعية للغرب والاحتماء به دفاعاً عن استمرار البقاء فوق العروش والكراسي .
وفي حقيقة الامر فإن الحجة التي جرى عبرها اتهام العروبة بالإلحاد ووضعها كعدو للإسلام , وأعني مسألة التسلح من المعسكر الشرقي , كانت أوهى من واهية من الناحية الدينية أو الفقهية إذ يعرف كل من له علاقة بالتاريخ وبالتراث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أخذ مائة رمح ودرع من صفوان بن أمية قبل ان يخوض معركة حنين الفاصلة , وأن صفوان بن أمية الذي أعطاه تلك الأسلحة والذي شارك معه في تلك المعركة كان حينها كافراً , وأن أباه أمية بن خلف الذي قتل في معركة بدر مشركاً كان يعتبر رأس الكفر , وأن الرسول (ص ) رد لصفوان بن أمية الأسلحة و أعطاه مائة ناقة لقاء استخدامها و لقاء مشاركته في تلك المعركة , و أنه أسلم بعد انتهائها .
المؤامرة الخطيرة الثانية التي خلقتها تلك الآلة الجهنمية هي تصوير إيران كعدو للعروبة التي سبق أن اتهمت بالإلحاد.
معروف أن إيران أيام حكم الشاه كانت شرطي أمريكا في المنطقة و أنها كانت تلوح دائماً بالعصا الغليظة و أنها كانت ممعنة بفارسيتها و تمارس الصلف و العجرفة و الغرور وعلى محيطها العربي و المسلم ,و أنها حاولت تمزيق و حذف صفحة الإسلام من تاريخها و حيث تبدى ذلك باحتفالات برسيبيليوس احتفاء بالأكاسرة الفرس , و التي كانت من الأسباب الرئيسية لسقوط نظام الشاه ,و معروف أنها كانت أكبر حليف و ظهير للكيان الصهيوني و الذي كانت سفارته في طهران تتألف من مبنيين شاهقين يضمان 77 غرفة , لكن ما الذي حدث بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية المظفرة ؟
انقلبت الأمور 80ا درجة و تحولت أمريكا من مهيمن وراع و آمر وناه الى عدو حقيقي و شيطان أكبر في نظر الإيرانيين , و انقلب الكيان الصهيوني من حليف استراتيجي الى عدو استراتيجي , حيث تحولت سفارته الى سفارة دولة فلسطين قبل أن تعلن الدولة .
وبدلاً من أن تجري نصرة تلك الثورة الوليدة شن الأعراب و المتأسلمون حرباً ضروساً شاملة ضد تلك الثورة الوليدة و التي أدت بالنتيجة الى جملة من الكوارث طالت المنطقة برمتها و ها هي كونداليزا رايس تعود الى منطقتنا بغرض حشد حلف ضد إيران تمهيداً لنشوب حرب خليجية رابعة .
أكدت في العديد من المقالات أنه لا يجوز إطلاقاً اتهام دين أو مذهب أو طائفة بأي صفة من الصفات , فداخل كل دين أو مذهب أو طائفة هنالك المؤمن و الملحد و العالم و الجاهل و المتعصب و المنفتح و المتشدد و المتسامح والتقي والمتهتك و الحليم و السفيه , و إن المتعصبين و المتزمتين و المتشددين و السفهاء من كافة الأطراف هم المسؤولون عن البلاء الذي أصابنا.
و أؤكد مجدداً أن حصر الإسلام ضمن ثمانية مذاهب فقط كما جرى في المؤتمرين الإسلاميين الآخرين هو نوع من المؤامرة التي تحمل شراً خطيراً و مستطيراً , فليتق المسلمون الله في أنفسهم و لتتوقف غالبية علماء المسلمين عن ممارسة مؤامرات الصمت عما يجري من شحن مذهبي و طائفي فالقادم من الأيام هو أخطر من خطير .
و أحيي في هذه المناسبة البيان الصادر عن رؤساء الوزراء السابقين الخمسة في لبنان , لأنه كسر شيئاً من مؤامرات الصمت و أظهر الوجه الحقيقي لأهل السنة , تجاه عبث صبيان السياسة وغلمانها في لبنان , و سعيهم الواضح لخلق فتنة مذهبية و طائفية .
و يبقى الإهاب التاريخي لسورية الذي لم يتبدل و لم يتحول صابراً محتسباً و قابضاً على الجمر .
برهان بوخاري
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد