06-02-2018
من المطبعة والصنبور إلى القهوة والصحافة... فتاوى لا تصدّق حرّمت كل جديد
تأخرت المطبعة زهاء قرنين ونصف القرن عن دخول العالم الإسلامي بسبب فتوى حرّمتها وحرمت معها العرب والمسلمين من اللحاق بركب الحضارة والتقدم. واستمر الجدل الفقهي حول شرب القهوة قرابة قرنين تخللتهما أحداث شغب ومطاردات وحوادث قتل وإغلاق للمقاهي وإحراقها والتشهير بمرتاديها. بينما اعتبرت مياه الصنبور بدايةً بدعة وضلالة ولا تصلح للوضوء.
وإذا كانت الدراجة الهوائية البسيطة عدّها البعض حصان إبليس، فإن الطماطم عدّها بعض آخر مؤخرته. وفيما كانت جميع التقنيات الإلكترونية والأجهزة الكهربائية وسائل شيطانية يديرها الجان والأبالسة وتستهدف غزو عقول المسلمين وإفسادها ونشر الرذيلة والمنكرات، فإن حملات تطعيم شلل الأطفال رأى البعض أنها تستهدف فحولة رجال المسلمين وخصوبة نسائهم.
تلك نماذج من قائمة تطول تكاد تشمل كافة منجزات الحياة العصرية ومخترعاتها، وقف بعض فقهاء الدين ضدها، شاهرين سيف العداء والتحريم على كل جديد.
لكن شوق المجتمعات للحاق بركب الحضارة والتطور كان أقوى من تلك الفتاوي التي تجاوزها الزمن وبين خطأ استدلالات محرّميها، فانتشرت تلك المنجزات متحدية فتاوي التحريم التي سرعان ما تراجعت وتراجع معها بعض أصحابها.
تحريم الطباعة
ظهرت ألة الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر في ألمانيا، وسرعان ما انتشرت في العواصم الأوروبية خلال سنوات قليلة، إلا أن الأمر اختلف في الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على معظم بلاد المسلمين والعرب، فقاوم فقهاء آل عثمان الاختراع الجديد بكل قوة وأصدروا الفتاوي بتحريم الطباعة بل وتكفير من يستخدمها وإعدامه.
صدر فرمان من السلطان بايزيد الثاني بتحريم استخدام هذا المخترع بين رعايا الدولة العثمانية بدعوى الخوف من تحريف القرآن الكريم والكتب الشرعية، إضافة إلى التخوف على آلاف العاملين في نسخ الكتب، ولم يستثن الفرمان من ذلك سوى رعايا الدولة العثمانية من اليهود الذين أدخلوا الطباعة في بداية القرن السادس عشر لطبع كتبهم الدينية، وحرم على المسلمين هذا الاختراع الذي كان من أهم أسباب النهضة والتقدم في أوروبا قرابة القرنين والنصف القرن.
واستمر ذلك إلى أن دخلت الطباعة رسمياً في الدولة العثمانية في عهد السلطان أحمد الثالث عام 1727، وكانت في البداية تقتصر على الكتب العلمية والأدبية دون الكتب الشرعية التي سمح بطباعتها لاحقاً.
القهوة مفسدة للعقل والبدن
منذ ظهور القهوة في العالم الإسلامي في بداية القرن السادس عشر وانتقالها من اليمن إلى مصر والحجاز دارت معركة فقهية حامية الوطيس تخللها أحداث شغب عارمة. واستمر تحريم القهوة زهاء قرنين شهدا جدلاً صاخباً حول تحريم القهوة، بدعوى أنها مسكرة ومفسدة للعقل والبدن وخطرها أشد من الخمر.
وتوضح العديد من المصادر المتواترة أن الصخب حول القهوة بدأ عندما وجد حاكم مكة في نهاية العهد المملوكي، جمعاً من الناس يشربون كؤوس القهوة بجانب المسجد الحرام، فاستصدر فتوى لتحريمها وأمر بمعاقبة شاربيها وحرق مخازن البن وإغلاق المقاهي في المدينة المنورة.
وانتقلت معركة القهوة الفقهية إلى القاهرة ومنها إلى عاصمة الدولة العثمانية، فصدرت الفتاوي والأوامر السلطانية بتحريم ومنع شرب القهوة وطارد رجال الأمن شاربيها، ولم يهدأ هذا الجدل إلا عندما جاء مفتي جديد لإسطنبول في عهد السلطان مراد الثالث فأعلن أن شرب القهوة غير محرم شرعاً.
الصّنبور بدعة وضلالة
وراء تسمية صنبور المياه بـ"الحنفية" في مصر قصة طريفة. فقد دار جدل فقهي في أروقة الأزهر نهاية القرن التاسع عشر، عندما تم مد مواسير المياه وتركيب الصنابير في منازل القاهرة ما أدى إلى استغناء كثير من المصريين عن السقايين الذين كانوا يجلبون المياه إلى البيوت مقابل أجر.
ما كان من السقايين إلا التوجّه إلى أئمة المذاهب السنية الأربعة لاستصدار فتوى بأن مياه الصنابير لا تصلح للوضوء والطهارة، فاستجاب لهم أئمة الحنابلة وأفتوا بأن مياه الصنابير بدعة صريحة ولا تصلح للوضوء أو الطهارة، بينما أكد أئمة الشافعية أن الأمر بحاجة إلى بحث طويل، وفي المقابل أفتى أئمة الحنفية بإباحة مياه الصنبور وجواز الوضوء منها، ومن هنا جاءت تسمية المصريين للصنبور بالحنفية.
الطماطم مؤخرة الشيطان
في نهاية القرن التاسع عشر، وفدت الطماطم إلى حلب، فاستهجنها أهالي المدينة، ونفروا من استهلاكها وزراعتها بسبب لونها الأحمر المخالف لكونها من الخضروات، فأطلقوا عليها لقب "مؤخرة الشيطان" وأصدر مفتي حلب فتوى بتحريم أكلها، غير أن الطماطم خلال سنوات قليلة انتشرت زراعتها في الشام وسميت بالبندورة، بل وتأصلت هناك حتى سميت الأصناف الجيدة منها بـ"البلدية".
المدارس باب الفساد والانحراف
في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" يروي أستاذ علم الاجتماع علي الوردي أن الشعب العراقي كان ينظر في مطلع القرن العشرين للمدارس الحديثة نظرة ريبة واتهام، وكان بعضهم يعتبرها باباً للفساد الأخلاقي والانحراف الجنسي.
وعندما بدأت الحكومة العراقية افتتاح المدارس، أعلن بعض رجال الدين تحريم الدخول فيها، فلقي هذا التحريم هوى في قلوب العامة، كانت نتيجته ضعف الإقبال عليها، غير أن الموقف الشعبي انقلب تماماً مع تزايد الرغبة في الوظيفة الحكومية التي لم ينلها سوى خريجي المدارس.
ولكن الموقف من مدارس البنات كان أكثر تشدداً، فالناس كانت تعتقد أن تعليم المرأة الكتابة والقراءة سيكون وسيلة لإغوائها وفسادها، وسيجلب عليهم العار، وفي هذا الإطار وضع الفقيه العراقي نعمان الألوسي نهاية القرن التاسع عشر كتاباً عنوانه "الإصابة في منع النساء من الكتابة" جاء فيه أن تعليم النساء القراءة والكتابة، يلحق بهن الضرر، وسيكون وسيلة لمعرفتهن بوسائل الغدر والخيانة وكتابة الرسائل إلى العشاق وقال: "اللبيب من الرجال هو من ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى، فهو أصلح لهن وأنفع".
تكفير قراء الصحف والمجلات
كان لبعض الفقهاء في الكويت والعراق والإحساء موقف متشدد في مطلع القرن العشرين من قراءة الصحف والمجلات. لم يحرموها فحسب، بل كفّروا من يقرأها بدعوى احتوائها على "حقائق علمية غريبة من قبيل كروية الأرض والتطعيم ضد الأمراض".
وكان على رأس هؤلاء الشيخ عبد العزيز العلجي (1868-1942) الذي كان يفد إلى الكويت من الإحساء، وكان له أنصار فيها، وحدث أن زار صاحب مجلة المنار الشيخ رشيد رضا الكويت عام 1912، فكمن له أنصار الشيخ العلجي يريدون قتله، غير أن مصادفة تغيير طريقه المعتاد أنجته من محاولة الاغتيال.
وفي العراق عندما وصلت مجلة المقتطف المصرية إلى بغداد عام 1876 أجمع الزعماء الدينيون من مختلف المذاهب السنية والشيعية والمسيحية واليهودية على رفض قراءة الصحف لأنها كانت في نظرهم تحتوي على عقائد جديدة وخطرة.
الدراجة الهوائية حصان إبليس
لتحريم الدراجة الهوائية في السعودية قبل 75 عاماً وقائع وروايات طريفة، فكان أهالي ومشايخ مدن نجد يطلقون على الدراجة لقب "حصان إبليس"، وكانوا يعتقدون أنها تسير بواسطة الجن ويعتبرونها رجساً، ويتعوذون بالله منها سبع مرات، ويأمرون نساءهم بتغطية وجوههن عنها، وإذا لامست أجسادهم أعادوا الوضوء، ولا يقبلون بشهادة سائقها.
وكان اقتناء الدراجة الهوائية قرينة الفساد والفسوق باعتباره من الملاهي التي تنشر الرذيلة وتشغل الناس عن العبادة، ويروى أن أحدهم طالب بخلع ابنته من زوجها بحجة أنه رجل مارق يركب "حمار الكفار" في إشارة إلى الدراجة.
ثم تقبل المجتمع في نجد استعمال الدراجة على مضض، وقصروا استعمالها على البالغين بشروط صارمة وتراخيص رسمية تصدرها هيئة الأمر بالمعروف في بعض المدن في سبعينيات القرن الهجري الماضي، فلا تعطى الا بشهادة تزكية واستقامة من إمام المسجد، على ان تستخدم في ساعات النهار.
الراديو، التليفزيون، الدش... وسائل شيطانية
منذ عشرينيات القرن الماضي وقف علماء الدين في نجد والحجاز ضد استخدام الاتصالات اللاسلكية لإرسال البرقيات واعتبروها وسائل شيطانية، ورأوا في الأربعينيات أن الراديو عبارة عن حديدة تتكلم بما يضاهي قدرة الله في إنطاق خلقه.
في الستينيات طالت فتاوي التحريم التلفزيون لنفس الأسباب تقريباً، وتوسعت لتشمل أجهزة الفيديو والكاسيت، والتصوير الفوتوغرافي وصولاً إلى فتوى تحريم الدش الشهيرة التي أطلقها مفتي السعودية الراحل ابن باز في التسعينيات، لتنتقل في مطلع الألفية الثالثة مع فتاوي تحريم الإنترنت وإصدار مفتي السعودية الحالي فتوى بتحريم الهاتف الخلوي المزوّد بكاميرا، ليمنع دخوله إلى الأراضي بضع سنوات.
تطعيم شلل الأطفال: يقطع نسل المسلمين
قبل سنوات قليلة صدرت فتاوي في باكستان وأفغانستان ونيجيريا بتحريم التطعيم ضد شلل الأطفال بدعوى أنه لقاح أمريكي يستهدف تعقيم الأطفال جنسياً وقطع نسل المسلمين.
وانطلقت ميكروفونات الجوامع الباكستانية تحذر من اللقاح القاتل الذي يفقد الرجال قدراتهم الجنسية ويحرم النساء من الأمومة، ودفعت الفتوى آباء 160 ألف طفل باكستاني إلى رفض التطعيم مما أدى إلى تزايد حالات شلل الأطفال وخاصة في شمال غرب باكستان.
أما في نيجيريا التي استوطن فيها شلل الأطفال، فقد أجبرت تلك الفتوى ولاية كانو ذات الأغلبية المسلمة إلى حظر تطعيم شلل الأطفال لمدة 11 شهراً.
ودفع انتشار تلك الفتوى إلى لقاء مدير منظمة الصحة العالمية بالشرق الأوسط بشيخ الأزهر أحمد الطيب الذي أكد بدوره عام 2014، أن هذه الفتاوي لا أصل لها على الإطلاق، وأن إعطاء لقاح شلل الأطفال سينقذ أطفال الأمة الإسلامية من مصير مؤلم.
وبينما طالب الأزهر بالتصدي لفتاوي تحريم التطعيم ضد شلل الأطفال، كشف أمين منظمة التعاون الإسلامي السابق إياد مدني أن 95% من حالات شلل الأطفال في 2013، سجلت في دول إسلامية، فيما كانت باكستان ونيجيريا وأفغانستان الدول الثلاث التي بدأ المرض ينتشر فيها مرة أخرى.
ظاهرة وافدة
يؤكد طارق أبو هشيمة رئيس وحدة الدراسات الإستراتيجية بمرصد دار الإفتاء للفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة، لرصيف22، أن الإسلام يؤمن بالتطور والتجدد لأن مدار الشريعة مصلحة العباد، وقال: "إذا وجدت فتوى تحرم أمراً نافعاً للأمة فاعرف أن قائلها لديه خلل في منهجه، وبحاجة إلى مراجعة".
وأشار أبو هشيمة إلى أن العهود الأولى للإسلام شهدت خوفاً من الفتوى من باب الورع والخوف من الوقوع في محرم، لكن هذا فهم في العصور المتأخرة على أنه خوف من التصدي للفتوى، فترجم في صورة رفض لكل ما هو جديد، إلى الدرجة التي تجد فيها من يحرم القول بكروية الأرض، أو يحرّم بعض الأكلات.
ولفت إلى أنه "مع التطور وتعقد المسائل، وعدم استطاعة المتصدر للفتوى أن يكيف المسائل الفقهية المعقدة داخل رأسه دون الرجوع إلى أهل التخصص في كل فن، فقد آثر السلامة وأصدر فتاويه بالتحريم".
وشدد أبو هشيمة على ضرورة وجود المجامع الفقهية المتخصصة في الفتوى التي تجمع بداخلها مجموعة كبيرة من العلماء المتخصصين في كافة المجالات بجانب علماء الشرع، بحيث لو عرض عليهم بحث الرأي الشرعي في أمر مستحدث لتوصلوا إلى الفتوى الصحيحة التي تستند إلى آراء المتخصصين.
المصدر: رصيف 22
إضافة تعليق جديد