مُنتدى غاز شرق المتوسّط... المرحلة الجديدة في الحرب القديمة
إنه الغاز يا غبي! قيلت في وصف الضغوط التي تعرّضت لها سوريا وآلت إلى الحرب. واليوم لم يأتِ الانسحاب العسكري الأميركي من سوريا، إلا لتليه حملة سياسية اقتصادية ثقافية، أكثر من نشطة توجّت بإعلان منتدى غاز شرق المتوسّط قبل يومين.
في صحيفة "لو فيغارو" كتب جورج مالبرونو: " في سوريا ، حرب الذهب الأسود تشتدّ بين أميركا وروسيا" يركّز الكاتب على الصراع على حقول الطاقة شرق الفرات، كما على سائر حقول البادية السورية وغيرها.
هناك، حيث اخترع داعش ليسرق هذه الثروة ولكي يكون انسحابه، بعد هزيمته، مدخلاً إمّا لسيطرة قوات قسد ومن ورائها أميركا وإمّا لقوات الدولة السورية وحلفائها وعلى رأسهم روسيا.
اصطفاف يُحيلنا إلى كتاب هام جديد لجيل كيبيل يعتبر فيه أن وضع المشرق العربي اليوم أشبه بوضع أوروبا عامي 1918 و 1945.
ما يعني أن ثمة طرفٌ هُزِم وطرف انتصر ولكن ليذهب المعسكران إلى مرحلة جديدة من الحرب بوسائل أخرى.
وكما كان الاقتصاد دائماً في أساس الحروب العسكرية وفي أساس دعائم الهيمنة لطرف أو لآخر، بحيث يؤدّي اهتزاز القوة الاقتصادية إلى انهيار موقع القوّة المعنية، فإن مصادر الطاقة كانت دائماً في أساس الحروب الحديثة في منطقة الشرق الأوسط. وآخرها الحرب السورية والصراع عليها هو ما سيستمر بشراسة أكبر في مرحلة ما بعد الحرب.
في تبرير رفضه للحرب على العراق كتب كولن باول عام 1990 يقول: "لا شك إننا بحاجة لنفط العرب ولموقعهم الاستراتيجي في صراعنا المقبل مع الصين وأوروبا، ولكن يمكننا الحصول على ذلك بوسائل لا تؤجّج الكراهية ضدنا ولا تدعم الأصولية الإسلامية" . موقفه هذا سقط أمام القرار السياسي الذي كان قد "علّق هدفه على مدفعه" كما يقول التعبير العسكري .
لم تكن روسيا في دائرة المنافسة بعد. وتوقّعت كونداليزا رايس أن تحتاج عودتها إلى خمسين عاماً. لكن الأمور سارت أسرع بكثير. ووقف فلاديمير بوتين عام 2007 في ميونيخ يعلن نهاية الأحادية القطبية.
منذها انطلقت مرحلة جديدة من الصراع بين نظام عالمي استقرّ عام 1991 ونظام عالمي جديد يطرح نفسه بديلاً جديداً.
في هذا الصراع شكّل الغاز جوهر الرهان لسببين : الأول دوره الذي تقدّم على النفط في رهانات مصادر الطاقة . والثاني دور خطوطه ، الذي تقدم على دور مصادره، في الهيمنة على عدّة مناطق في مقدّمتها أوروبا .
فطالما أن القارة العجوز تعتمد على الغاز الروسي، فإن نفوذ موسكو فيها سيستمر قائماً . أمّا إذا أمكن فك هذه التبعية فإن موسكو ستفقد نفوذها كلياً في هذا العالم الغربي، كما أن أوروبا ستفقد حلمها بالاستقلالية .
في السبب الأول ، حاول فلاديمير بوتين في بداية القرن الحالي، إقامة منظمة الدول المصدّرة للغاز، وهو يراهن على كون الدول الأساسية المصدّرة للغاز هي كلها دول مُعادية للولايات المتحدة، باستثناء قطر ( روسيا، إيران، فنزويلا، الجزائر) . يومها جال بوتين على جميع الدول المعنية ( ونذكر أنه خرج يومها في حوار طويل على قناة الجزيرة) .
لكن قطر مُستعصية على الاصطفاف حيث لا تريد واشنطن. في الوقت الذي كانت فيه إرهاصات تعديل لائحة المنتجين، لتنضم إليها كل من مصر وسوريا وفلسطين ولبنان وقبرص.
لجأ بوتين إلى تعزيز جبهته، في محيطه الحيوي، باتفاقية الدول المطلّة على بحر البلطيق .. ومن هنا أصبح الرهان الأميركي على قطر رهاناً مفصلياً. يتعدّى إلى البند الثاني : الخطوط .
في الخطوط ، السبب الثاني، رسمت روسيا خرائطها الكثيرة : السيل الشمالي ، السيل الجنوبي الخ ... ولكن الخط الأساس يبقى ( كما عبر التاريخ ) هذا المتوسّط الذي تلتفّ حوله أوروبا والعرب وتركيا وإسرائيل. والذي تصاعدت أهميته بعد الاكتشافات الهائلة على سواحله للدول التي ذكرنا.
معركة السيطرة على المصادر وعلى الخطوط، وعلى أوروبا في الوقت ذاته. في القارة العجوز ، وبعد إسقاط محور بوتين – شرودر – شيراك ، جنّدت واشنطن وإسرائيل كل نفوذهما لإيصال ساركوزي إلى رئاسة فرنسا .
ساركوزي صرّح خلال معركته الانتخابية بأنه مستعد لمبادلة الجزائر، تكنولوجيا نووية مقابل الغاز. وفي السياق أطلق مشروع الاتحاد لأجل المتوسّط. عليه كانت أول زياراته الرئاسية للجزائر، وعندما سأله بوتفليقة: هل إسرائيل في هذا الاتحاد ؟ أجاب: إنها في قلبه. فواجهه الرئيس الجزائري بأن هذا الاتحاد يصبح ممكناً متى حُلّت القضية الفلسطينية .
الموقف نفسه واجهه مع القذافي، فبدأت رحلة الحقد. حاول مع سوريا ولكنها الأكثر مبدئية في هذا الأمر. نفّذ مشروع الاتحاد، ترأسته مصر وبرزت فيه الأردن – غير المتوسّطية – لأنها ببساطة تقبل بإسرائيل .
ظلت عقدة الغاز كامنة. بدا للأميركي وحلفائه أن مد خط أنابيب من قطر إلى المتوسّط عبر سوريا هو الحل الأمثل للالتفاف على الروسي والإيراني معاً.
ودارت المساومة مع الرئيس بشّار الاسد، رفض العروض فاندلعت الحرب، ومن هنا يفهم دور قطر فيها. تصوّر الجميع أن الخطوط ستمر بالقوّة إن لم تمر بالحُسنى.
أدرك الروسي خطورة المخطّط، فتدخل وحقّق الوصول إلى المياه الدافئة. لم يقتصر نجاحه في أنه منع الخط القطري، بل إنه ضمن خطوطه هو، وضمن نفوذه على خطوط الإنتاج الإيرانية والسورية ، وأخيراً ساعده الانقلاب التركي الفاشل على مد خطوطه إلى المتوسّط عبر تركيا أيضا ( تركيش ستريم ).
انتصر الروسي في معركة الطاقة وانتصرت سوريا في معركة البقاء . أما البراغماتية الأميركية فتفرض الإقرار بما وصلت إليه الأمور، ولكن لتذهب إلى ابتداع الخطة (ب). خطة تشبه الوضع بعد عام 1918 أو 1945 كما قال جيل كيبيل.
باختصار، حرب الأفكار والاقتصاد. وهو ما يتجلّى الآن في أشكال عدّة، أهمها إعادة إحياء شكل جديد للاتحاد لأجل المتوسّط، على أساس اقتصادي واضح ( الغاز) تحت مُسمّى منتدى غاز شرق المتوسّط .
يضمّ حول إسرائيل كلاً من مصر، الأردن، فلسطين، إيطاليا، اليونان وقبرص. كجبهة مواجهة استراتيجية ( غازيّة ) في وجه محور روسيا- إيران - سوريا وحلفائها. خاصة وأن ظهور الغاز الإسرائيلي – المصري – الفلسطيني – القبرصي ، قد يشكّل مصدراً بديلاً جديداً ، وطرق إمداد جديدة. إضافة إلى أنه ربما قطع الطريق على الغاز السوري القادم ومن ثم اللبناني، إضافة إلى الروسي والإيراني والكازاخي بل والفنزويليي والجزائري. ما يجعلنا نفهم التركيز الأميركي الحالي على لبنان، وتحديداً على حزب الله. بما سيحدّد اصطفاف بلد الأرز في هذا المحور أو ذاك . وكذلك محاولات تضييق الخناق على إيران. وحتى آخر تهديد لتركيا إذا ما تعرّضت للكرد، أي لمواقع الطاقة.
الميادين -حياة الحويك عطية
إضافة تعليق جديد