پـيير ديمرون كما عرفتُه

25-11-2008

پـيير ديمرون كما عرفتُه

الجمل- غازي أبو عقل:   ذات يوم من أيام 1968 كنتُ أتصفحُ "المُصوَّر" الأسبوعية القاهرية باحثاً عن صفحة مراسلة المجلة في باريس – السيدة صافيناز كاظم – إن لم تخُنِّي الذاكرة، التي عَوَّدتنا على تتبع أحوال الجو الثقافي والإعلامي في العاصمة الفرنسية. توقفتُ عند نبأ صدور كتاب جديد عنوانه "ضد إسرائيل" مؤلفه صحافي وكاتب ممّن يُسمونهم "الهامشيون" أي الذين لا يحتلون الصفوف الأولى التي تُسلّط عليها أضواء الإعلام.
كنتُ يومئذ مديراً لإدارة التوجيه المعنوي في وزارة الدفاع، أتابع وسائل الإعلام الأجنبية وما يُنشر عن الصراع ضد المشروع الصهيوني. كما كنت أعرف مدى "الهيستيريا" التي اجتاحَتْها بعد هزيمة حزيران 1967، وشماتتها بالعرب لأسباب تاريخية وجغرافية ومادية وروحية، فدُهشتُ فعلاً وتساءلتُ كيف يجرؤ صحافي فرنسي على – ارتكاب – مثل هذا العنوان، في حين يرتفع في كل مكان هتاف Bravo Petit "مرحى أيها الصغير" تحية لإسرائيل الصغير أو داوود الذي هزم الجبار جالوت.
بادرتُ إلى الكتابة للملحق العسكري السوري في باريس طالباً نسخةً من الكتاب، سرعان ما وصلتُ. لم أنم ليلتها حتى قرأتُه (كان في 190 صفحة من القطع الصغير).
كتبتُ فوراً نَصَّين، تضمَّن الأولُ عرضاً سريعاً لهذا الكتاب كي يُنشر في الأسبوعية الصادرة عن الإدارة "جيش الشعب". والثاني مذكّرة إلى السيد الفريق وزير الدفاع – حافظ الأسد – مقترحاً دعوةَ هذا الكاتب إلى زيارة سوريا لنعرِفَه عن قرب ونُعرِّفُه إلى بلادنا.
وافقَ السيد الوزير، فوجَّهنا كتاباً إلى الملحق العسكري بهذا الشأن، الذي أرسل الدعوة إلى السيد ديمرون. مرَّت شهور عدة لم نتلقَ فيها رداً، فعاودنا الإتصال، وأكدّ الملحق العسكري متابعته للأمر لكن السيد ديمرون مازال يفكّر قبل الإجابة.
أستبقُ تتابع الحوادث – كما في بعض الروايات – لأنوّه بأنني سألتُه عندما وصل أخيراً بعد سنة مضت على توجيه الدعوة، لماذا تأخّر في قبولها... قال لي: كتبتُ ضد إسرائيل أولاً للمنافقين من المثقفين والإعلاميين والفرنسيين بعامة، الذين يكرهون اليهود والعرب معاً، لكنهم يلتزمون دائماً جانب الأقوى. لذلك عندما فوجئتُ بدعوتي إلى سوريا خشيتُ من أن يظن أحدٌ أنني مدفوع بمصلحة خاصة. أنا الذي لم أَتَوَخ إلا التعبير عن قناعاتي، لذلك تريثتُ.. المهم في النهاية أنني هنا...
استمرتْ زيارتُه أقل من عشرة أيام، تَعرّف فيها إلى ملامح من سوريا قديمها وحديثها، وكنت ألتقيه لمعرفة انطباعاته الإيجابية والسلبية، فهو لا يجامل في قناعاته، ولم أحاول خداعه من ناحيتي، لذلك نشأتْ بيننا معرفة أولية قائمة على الثقة، ساعدتْ السنوات على تمتينها.
كانت صورة سورية في تلك الأيام – 1969 – غير مريحة في عيون الإعلام الغربي، كما كنا ننظر إليهم بعين الريبة، ولا نُيَسّر أمورَهم عندما يرغبون في زيارة بلادنا. مع ذلك فاجأني ديمرون بعد حين، باتصال يطلب فيه الموافقة على زيارة سوريا مع بعثة إعلامية لحساب وكالة إنتاج أفلام وثائقية لتصوير تحقيق شامل عن سوريا، على نفقة تلك الوكالة. وبعد الحصول على موافقة الجهات المسؤولة تمت تلك الزيارة.
قصة ذلك "التحقيق" المصور لا أهمية لها هنا، مع ذلك أود رواية جانب منها، معتذراً عن التطويل الذي يؤذي البلاغة.
أخبرني ديمرون ونحن نضع تفاصيل برنامج عمل مجموعته الصغيرة، أن مدير الوكالة التي أوفدَتْه من مؤيدي الجنرال دوغول لكنه يهودي، يحب الإطلاع على أوضاع السوريين اليهود، وطلب منه تغطية هذا الجانب لعرضه في فرانسا وفي غيرها. حصلتُ على الموافقات اللازمة، وترددتْ المجموعة مرات على الحي اليهودي، وصَوَّرت طقوسَ الحياة اليومية من مآدب وزواج وختان وصلوات في الكنيس الكبير... كانت هذه الزيارات مفيدة لي أكثر من ديمرون ربما... بعد واحدة ن زياراته التقى مجموعة من الشابات والشبان اليهود من طلاب جامعة دمشق، وقال لي أنه ضرب لهم موعداً في نادي الجامعة يوم غد، وأنه يريد لقاءهم على انفراد وإلا لن يلتقيهم. قلت له لك ما أردت.
ذات يوم كنا نستيعد بعض طرائف زيارته تلك، فأعرب لي عن امتنانه لثقتي به وقال لي: سألتُهم في نهاية اللقاء ما الذي تشكون منه بصراحة؟ خاطبني واحد من الشباب قائلاً: تَصوَّر، لقد وضعوا في بيوت أفراد الطائفة الذين غادروا سوريا بعد 1948 عائلات فلسطينية. قلت لهم: ألا تعتقدون أن الفلسطنيين يفضلون حتماً أن يعودوا إلى بيوتهم في فلسطين؟ فوجئوا بالرد ولكنهم أدركوا على ما أظن جانباً مهماً من جوانب هذه المأساة.
الطريف في الموضوع أن مدير الوكالة المنتجة أدهشه ما رأى في الفيلم، وأبدى إعجابه به، واعترف أمام ديمرون: "هل تصدق، أنها المرة الأولى التي أرى فيها كنيساً من الداخل وأعرف كيف يُصلون فيه".
أصبح ديمرون بعد هذا التحقيق المصوَّر والمقالات التي نشرها عن بلادنا "مرجعاً" معروفاً بأنه مُرَحَّب به في سوريا، التي اشتُهرت طوال سنوات بأنها لا تُرحّب كثيراً بالإعلاميين الغربيين.
كان ديمرون منذ زيارته الأولى إلى بلادنا قد قابل السيد الفريق وزير الدفاع، لكي يشكره على دعوته ويأخذ من حديثاً صحافياً، وأظن أن انطباع السيد الوزير عنه كان إيجابياً، وكذلك الأمر عند الضيف. فلما قامت الحركة التصحيحية جاء ديمرون إلى دمشق طالباً لقاء قائدها الذي وافق على استقباله. أراد ديمرون أن يكون الإعلامي الغربي الأول الذي يلتقيه. لذلك طلبتُ من ديمرون إعداد أسئلته مكتوبة لعرضها كما تقضي الأعراف. كتب أسئلته ولما أعطانيها همسَ في أذني: قل للسيد الرئيس، هنالك قاعدة يتعلمها الصحافي مفادها، لا يوجد سؤال مُحرِج، لكن يوجد مسؤول "ينحرج". بذلك يتعلم الصحافي الجرأة الضرورية لمهنته.
نشرَ ديمرون أكثر من تحقيق عن سوريا التاريخية في مجلات متخصصة، بالإضافة إلى المقالات السياسية ذات الصلة بقضية فلسطين بخاصة. غير أن "ضَربته" الإعلامية الكبرى كانت إبّان حرب تشرين 1973، عندما كان أول المراسلين الغربيين الواصلين مصحوباً بمصوّر ومهندس صوت للتغطية المتلفزة. كنتُ يومئذ قد نُقلتُ من إدارة التوجيه المعنوي المسؤولة عن الإعلام العسكري إلى مؤسسة معامل الدفاع البعيدة عن هذا المجال. إلا أن ديمرون لجأ إليّ (بحكم العادة)، وكان متلهفاً لتغطية إنجازات مقاتلي الدفاع الجوي في بداية الحرب، الذين أسقطت صواريخهم طائرات الإسرائيليين وأوقعت طياريها أسرى. اتصلتُ بالجهات المسؤولة وتم ترتيب أمر التغطية الإعلامية، وهكذا وجدَتْ بعثةُ ديمرون نفسَها، وأنا معها، في واحدة من قواعد الصواريخ المضادة للطائرات التي كانت على أهبة الاستعداد للاشتباك بالأهداف المعادية، بينما كانت الكاميرا تُصَوّر وديمرون مبتهج كأنه تلقّى هديةً غير منتظرة. ولما ألحَّ قائدُ القاعدة علينا بضرورة المغادرة، راح ديمرون يرجوه البقاء دقائق إضافية، عندئذ طلب مني قائد القاعدة أن أترجم له حرفياً كيف يشتبك الصاروخ بهدفه وماذا يمكن أن يحدث للموجودين في العراء بقربه عندما ينطلق فور التقاطه الهدف. لولا ذلك لما غادر ديمرون القاعدة على مضض.
كانت له سابقة في هذا المجال، عادت إلى ذاكرتي عندئذ، يوم أَسقطَ الطيار بسام حمشو مقاتلة إسرائيلية من طراز فانتوم أثناء حرب الاستنزاف التي سبقت حرب تشرين، يومها اصطحبتُ ديمرون الذي كان في دمشق لتغطية الموضوع، ولما وصلنا إلى مكان حطام الطائرة المعادية، كان الليل قد أرخى سدوله، وعاد التوتر إلى القطاع، وبدأنا نسمع أصداء طلقات المدفعية، وبدا وجودنا غير مفيد للمقاتلين القريبين. سألتُ ديمرون ما إذا كان اكتفى بما صَوَّر ورأى، هزّ رأسه بالنفي، وبعد برهة ازداد توتر الموقف. ومعه "توَتُّرنا" الداخلي ربما، إلا أنه لم يبال بل راح يجوس في المكان باحثاً عن قطعة صغيرة من حطام الطائرة يأخذها "تذكاراً" لتلك الزيارة.
وجد ديمرون تعويضاً عن مغادرة قاعدة الصواريخ المضادة للطائرات حين اصطحبته لمقابلة الطيارين الإسرائيليين الأسرى.
كان ديمرون عندئذ يكتب في الأسبوعية الفرنسية الشهيرة باري ماتش، الصهيونية الأهواء كغيرها من الأسبوعيات الكبرى الفرنسية. وكانت مقالاته تستدعي احتجاجات كثيرة ممّن لا تعجبهم آراؤه. غير أن كَيْل هؤلاء طفح لما ظهرت باري ماتش وعلى غلافها صورة كبيرة بالألوان لصاروخ سوري مضاد للطائرات على أهبة الانطلاق، وفي داخل العدد صفحات عن دمشق في الحرب تزينها صورُ الطيارين الإسرائيليين الأسرى. كانت بعض وسائل الإعلام الفرنسية المتصهينة قد سخرت من "الإدّعاءات بأسر طيارين إسرائيليين"، ورَوَّج بعضها أنهم "ذُبحوا فور وقوعهم في الأسر" أو أنهم سُلموا إلى الاتحاد السوفييتي. ولما نشرت باري ماتش ما بعثَ به ديمرون – وكان سبقاً صحافياً فعلياً، متضمناً صور الطيارين الأسرى وأسماءهم ورسائلهم المقتضبة معها، أُسقطَ في يد الجميع كما يقال.
حدثَ في زيارة ديمرون المفيدة إلى الطيارين الأسرى أن قَدَّم إليه واحدٌ منهم ورقةً رسمَ عليها بالقلم الرصاص وجهَ فتاة شعرها الطويل مرسل على كتفيها، كان الشاب رساماً موهوباً على ما بدا من دقة (لوحته). استغرب ديمرون الأمر فشرح له الطيار الأسير بالإنكليزية – وكان ديمرون لا يتقنها – أنها صورة جانبية لوجه خطيبته، وسأله عمّا إذا كان يستطيع إرسالها بمساعدته. أدّى ديمرون الأمانة، ونشر "لوحة" الرسام الموهوب على صفحات التحقيق نفسه في الأسبوعية الفرنسية. علمنا بعدئذ أن ثمن النسخة الواحدة من باري ماتش قد وصل إلى مئة دولار.
دَفَع ديمرون ثمن "عواطفه العربية" حين وّجَّه عددُ من المعلنين – وأغلبهم من اليهود – تهديداً إلى المجلة بقطع إعلاناتهم فيها إذا استمرت بنشر مقالاته. وخضعت المجلة للضغوط المادية وأنهت التعامل معه، وأصبح مُقاطعاً عملياً من أكثرية وسائل الإعلام.
كان قد قال لي ذات يوم ونحن نتحدث عن التعامل مع وسائل الإعلام والرأي العام الغربي: (أريدك أن تعرف أن الرجل الغربي يضع حافظة نقوده في جيب سترته الداخلي الأيسر فوق قلبه تماماً فإذا أردتَ إقناعه بقضية ما عليك الانتباه إلى هذه الناحية)... قد يكون هذا الرأي متطرفاً ولكن عندما وصل الأمر إلى تهديد "محفظة نقود المجلة" ضَحَّت بالصحافي غير المُدجَّن. قد يتساءل بعضنا ألا توجد في باريس سفارات عربية ومكتب إعلامٍ للجامعة العربية... فلماذا لم تكلفه إحداها بمهمة مستشار إعلامي، وهو أهلٌ لذاك، كما تفعل ببعض عارضات الأزياء؟ أغلب الظن أن ديمرون ما كان ليقبل مثل هذه الوظيفة، فهو ليس عارضة أزياء سياسية أو فكرية، قطعاً... وتواضعه يجعله ينفر من التباهي ليهتم بإرضاء ضميره أولاً. أدّى ديمرون خدمةً مهمة لقضية الفلسطينيين بطريقة غير مباشرة، لما أقنع جان جنيه – وهو مَن هَو مكانة بين أدباء القرن العشرين – بأن يُطّلَ على قضيتهم.
اشتُهرَ جنيه بدفاعه عن قضايا الشعب الأسود في الولايات المتحدة، وعن العمال العرب المهاجرين إلى فرانسا من دول أفريقيا الشمالية. وكان جنيه قد دخل إلى الولايات المتحدة متسللاً من كندا في 1970 بعد أن رفضت سفارة الولايات المتحدة في باريس منحه سمةَ دخول. شارك هناك في مؤتمر الحزب الديمقراطي وألقى محاضرات ضد الحرب في فييتنام ودفاعاً عن قادة الشعب الأسود المعتقلين في السجون الأمريكية. وبعد عودته من هناك طلبتْ المجلةُ الشهرية Lui (هو) من ديمرون إقناع جنيه بإعطائه مقابلة يتحدث فيها على هواه لتنشرها تلك المجلة المعتبرة من مجلات الموجة الجديدة على الطريقة الأمريكية التي تمزج المواضيع الجادة واللقاءات بكبار المثقفين وتنشرها جنباً إلى جنب مع المواضيع والصور المثيرة.
وافق جُنيه وتحدثَ إلى ديمرون مطولاً، ونشرتْ (هو) الحديث في عددها الصادر في كانون الأول 1970 [توجد ترجمة كاملة إلى العربية لهذه المقابلة في كتاب "جان جنيه – شعرية التمرد" إعداد وتقديم الدكتور مالك سلمان الأستاذ في كلية الآداب في جامعة تشرين – الناشر دار كنعان 1998].
جاء جان جنيه إلى سوريا في نهاية صيف العام 1970 للقاء الفلسطينيين فيها وفي الأردن، وكان ينوي قضاء أسبوع أو اثنين، فامتدت إقامته شهوراً وعاد أكثر من مرة، وكان أول أوروبي يدخل إلى صبرا وشاتيلا بعيد المجزرة المعروفة، واستغرق إنجاز كتابه أسير عاشق أكثر من عشر سنوات ونُشر في 1986 مع وفاته. هذا الكتاب المدهش والممتع والنزيه.
كان جنيه "مِثلياً" جنسياً، كذلك كان ديمرون. وكثيراً ما عَيَّرَهما بعضُ الكَتَبة العرب بذلك، متناسين أسماء مبدعين كُثُر في التاريخ ممن هم كذلك... فإذا قلتَ لكَتَبتنا كونوا مثليين واكتبوا مثلهم، حردوا.
في مطلع العام 1972 كنت في المغرب لسبب ما، والتقيتُ في الرباط ببعض المعارف الذين دعوني إلى زيارة مكتب منظمة تحرير فلسطين هناك. أثناء الزيارة تناول الحديثُ شؤون الإعلام في الغرب والقضية الفلسطينية، فإذا بواحد من المسؤولين في المكتب يأتي على ذكر ديمرون ويقول إنه عميل للمخابرات السورية و "شاذ جنسياً".. صفتان لا تؤهلانه، من وجهة نظر المتحدث، للاقتراب من القضية المقدسة. صَدمني هذا الكلام، فاستأذنت الحاضرين أولاً لدحض موضوع "عمالة ديمرون للمخابرات السورية" لأنني أعرف بواطن الأمر تماماً واكتفيتُ برواية بعض تفاصيل الوقائع المؤكدة التي جعلت المتَّهِم لا يحير جواباً.
انتقلتُ إلى المسألة الثانية "المثلية الجنسية" ورويت لهم هذه الحكاية: سألت ديمرون مرةً بعد أن قَدَّم لي نسخةً من كتابه المدهش "رسالة مفتوحة إلى الغَيْريين جنسياً" – أو إلى غير المثليين – سألتُه عن "مثليته" – بالمناسبة كانت له صديقات جميلات وجذابات – قال لي ساخراً: كثيرون،  طبيعيون جنسياً، يناضلون من أجل حرياتهم، حرية الإنتماء إلى أحزاب، حرية العمل النقابي، حرية التعبير، إلى آخر ما هنالك من حريات... هذا حق طبيعي لا جدل فيه. غير أن الإنسان (موجود) قبل أي شيء، في جسده وحده، جسده هو ملكيته الخاصة. أنا أرى أن أول الحريات هي حرية استعمال جسدي كما أشاء، قبل غيرها من حرياتي... لن أقاوم رغبتي في الاستفزاز، على طريقة ديمرون، لأنقل هذه السطور من كتابه الممتع فعلاً، "رسالة مفتوحة"، من أجل تحريض هواة الفلسفة ومحترفيها، كتب ديمرون:
[تُرى، هل التقَيْتُ بعضَ أولئك الفتيان الذين تهتمون جداً بحمايتهم وقد تُركوا ليتَدبَّروا شؤونهم بأنفسهم! إنهم أيتام لهم آباء وأمهات. تَصَوَّروا، أنهم ربما وجدوا في الشارع الحنانَ والفهمَ أو الدفءَ الذي يفتقدونه في بيوتهم... ليس هناك أسوأ من بعض اللقاءات التي تحدث لنا أحياناً في عائلاتنا، والتي يستحيل الإفلات منه!.
حَدَّثوني مرةً عن أمٍّ علمَتْ أن ابنَها، الشاب الجميل جداً الذي طَلَّقَ بسرعة تَتَعدَّى تلك التي تزَوَّج بها فتاةً من الطبقة الراقية، قد ارتبط بكاتبٍ لا يفوق دَمامَتَهُ إلا ذكاؤه، معروف بأنه "مِثليٌ ممارسٌ" فما كان منها إلا أن أطلقتْ هذه الكلمة: "أعرف الآن أنه في يدٍ أمينة على الأقل. سوف يجني من هذه الصداقة نفعاً أكثر بكثير من علاقته بفتاة حمقاء تنتمي إلى الطبقة الراقية أو الطبقة الرديئة"... مقابل أُمٍ واحدةٍ ذكية، كم يوجد من الأمهات والآباء الأغبياء الذين يتألمون مادياً ومعنوياً أو يصنعون من الأمر مأساةً، إن قادَ الحظُ أبناءَهم إلى لقاء.. سقراط]. انتهى نص ديمرون. كان سقراط، على ما يبدو "شاذ جنسياً". هذه إضافة غير ضرورية كتبتُها لمن لا يهتمون بتاريخ الفلاسفة.
لا أتوقع أن تُقْدِم وزارة الثقافة أو دار نشر أخرى، على ترجمة ذلك الكتاب الفريد في أسلوبه وسويته الفكرية وسخريته، أعني الرسالة المفتوحة إلى الغَيْريين جنسياً، مع أننا في عام دمشق عاصمة "الثقافة العربية"، وذلك لعدة أسباب، منها أن ترجمة مثل ذلك النص بحاجة إلى حسيب كيالي معاصر، لا أَظنُّه موجوداً، ومنها تفضيل "الثقافة العربية" النفاقَ على المصارحة، هذا الداء الذي لن يتمكن العِلمُ من العثور على مَصْلٍ من هذه النقيصة واقي...
بعد أول زيارة قام بها ديمرون لسوريا، حَدَّثني عن إعجابه، أثناء عبوره أرياف البلاد، بمشهد التلميذات والتلاميذ وهم يسيرون على الدروب وفي أيديهم كتبهم المدرسية يطالعونها. عاد في زيارة ثانية ليقول لي: خابَ طني لما تحدثتُ إلى عدد منهم واكتشفتُ أنهم "يبصمون غيباً"، هذا مؤسف ولا يساعد على تنمية شخصياتهم. وسألني: عندما أبديتُ إعجابي بهم أول مرة ألم تكن تعرف أنهم (يبصمون). فلماذا لم تلفت نظري؟... أجبتُه: كنتُ أبصم مثلهم، قبلهم بربع قرن.
قال لي في زيارته الأولى أو الثانية: ما معنى "موكابارات" – كما لفظها – قلتُ له لماذا تسأل، أجابني: إنها أكثر كلمة سمعتُها تتردد على ألسنة الناس هنا...
وقفَ ديمرون دائماً مع ضميره، وانتقدَ مراراً بلاده فرانسا حكومة وإعلاماً، على سياسات كان يراها ظالمة. نعرف كلُّنا الشَّرخَ الذي أحدثَتْه القضيةُ الجزائرية في فرانسا وكيف انقسمَ الرأي العام بشأنها، حتى بعد استقلال الجزائر... ومع أنني استرسلتُ، أريد روايةَ هذه الحكاية:
كان الجنرال ماسُّو Jacques MASSU يقود فرقةَ المظليين العاشرة التي تولَّتْ (تهدئة) مدينة الجزائر العاصمة أثناء الثورة. ظهرتْ كتبٌ وصُنِعتْ أفلام عن أحداث تلك المرحلة الرهيبة، إلى أن عزم الجنرال ماسُّو على الإدلاء بدلوه، ليبريء نفسَه من الفَظاعات التي ارتُكبتْ أثناء (التهدئة)، فوضع كتاباً عنوانه "معركة مدينة الجزائر". أثار الكتاب جدلاً عنيفاً في فرانسا وفي الجزائر، هنا قرَّر ديمرون زَجَّ قلمه الساخر فكتبَ مقالةً هازئة بالكتاب وبمؤلفه، وجدتْ إحدى دورُ النشر أنها تستحق إصداراً خاصاً في "كَرَّاس" رغم ضآلة عدد صفحاتها، بسبب أسلوبها الفريد وسخريتها المريرة.
يطيحُ ديمرون أسطورةَ الجنرال منذ العنوان الذي ينبغي التوقف عنده. اختار ديمرون لمقالته هذا العنوان LES 400 COUPS de MASSU ومعناه الحرفي: ضربات ماسُّو الأربعمئة. كلمة ماسُّو بصيغة المذكّر تعني كنية الجنرال (قا. فر. 10. مظ) باللغة العسكرية المختصرة. غير أنها في اللفظ واحدة في صيغة المذكّر والمؤنث، فيتغير معناها عندئذ وتصبح، في هذه الجملة، ذات معان منها النّبوت أو الهراوة، وكانت سلاحاً حربياً قديما، أو البلطة. أما المعنى المجازي فهو المصيبة. وهكذا يغدو العنوان في القراءة: ضربات النبوت الأربعمئة، أو مصيبة ماسُّو. أما المعنى الفعلي فلا هذا ولا ذاك، لأن صيغة "الأربعمئة ضربة" ذات دلالة مجازية مختلفة ينبغي شرحها، ذلك أن ديمرون لجأ إلى هذه الصيغة وإلى التورية ليجعل عنوان مقالته "ماسو الفَلْتان". عندما نقول بالفرنسية فلان يضرب مئة ضربة أو أربعمئة، فالمقصود أنه يمارس حياةً فوضوية أو سلوكاً "فلتاناً". هكذا تمكّن ديمرون بهذا العنوان البارع من وضْع ذلك الجنرال المرعب موضعاً للهزء والسخرية. فالمشهور عن الجنرال ماسو أنه كان (قليل الانضباط) حتى مع الجنرال دوغول. وفي هذه الطُرفة التي تُروى عنه الدليل. ففي إحدى المناسبات كان الجنرال دوغول في زيارة إلى إحدى المناطق العسكرية، فاصطف "الضباط الأمراء" لاستقباله وبينهم الجنرال ماسُّو. فلما صافحه دوغول قال له: إيه يا ماسو، أما زلتَ "معتوهاً"؟. فرَدَّ ماسُّو فوراً: نعم سيدي الجنرال، ما زلتُ دوغولياً... [التحق ماسُّو بقائد فرانسا الحرة منذ 1940].
تلقّى ديمرون بعد صدور مقالته عن كتاب ماسُّو تهديدات بالقتل من قُدامى (فر 10. مظ) وكميات من الشتائم والإهانات، لكنه كان قد قال كلمته، وهذا هو المهم، وأفهم الجنرال النبُّوت أنه مصيبة مثل كتابه، فهو أمسك به متلبساً بسوء معاملة اللغة الفرنسية، كما كان يسيء معاملة الجزائريين الذين يعتقلهم مظليوه ويعذبوهم بالمولّد الكهربائي، ووضعه وجهاً لوجه أمام سلوكه "الفلتان" حتى في الكتابة.
مرت الأيام، ولم يعد ديمرون إلى سورية إلا مَرَّتين، الثانية في صيف 1993 أثناء اشتراكه في رحلة سياحية بحرية برية تطوف بعض موانيء المتوسط ثم تعبر قناة السويس إلى البحر الأحمر واليمن. أخبرني بموعد رسو السفينة في طرطوس، وببعض مواعيد الرحلة إلى موقعين أثريين في سوريا (قلعة الحصن وتدمر على ما أظن). ولما وصل في الموعد بصحبة صديق قديم، قال لي إنه لن يشارك الآخرين زياراتهم المُبَرمَجة، لأنه يعرف سوريا جيداً، ولديه أفضلياته، ويظننني أعرفها. وهكذا توجهنا إلى حماة مروراً بأفاميا. كان يكرر على مسمعي دائماً: حماة، المدينة الوحيدة في سوريا ذات الطابع المعماري الخاص جداً بين مدن سوريا كلها.
أما زيارته الأولى قبل هذه، فكانت في ربيع 1987، حيث مكث أكثر من أسبوع طفنا فيه أهم المناطق الأثرية (واحتفلنا متأخرين أياماً بعيد ميلاده على ما أذكر، فهو من مواليد الثالث عشر من آذار 1932). لن أنس هذه الحكاية من زيارته هذه... وصلنا حماة، وتوقفنا في ساحة العاصي، نتأمل النهر والنواعير، ونلتقط الصور حين قال زميله إنه سيشتري فيلماً لأن الذي يصور عليه انتهى. عبَرَ الشارع ودخل مخزناً تحت عمارة حديثة مرتفعة، وتبعناه بيير وأنا. خطا بيير أول خطوة داخل المخزن، عندما هتف الشخص الذي كان يعرض أنواع الأفلام على زميله، بأعلى صوته: مسيو ديمرون أهلين وسهلين... فوجيء بيير، فالتفتُ إليه قائلاً: أنت تتأكد الآن من شعبيتك هنا. أما صاحب المخزن الذي أسرع إلى احتضان بيير فقد كان هيثم العظم مدير قسم الوثائق في إدارة التوجيه المعنوي سابقاً، وفيها عرف مسيو ديمرون، الذي كاد الدمع يطفر من عينيه، فما كان ليخطر بباله مثل هذه التحية القلبية وهو في حماة بعد انقضاء سنوات وسنوات على زيارته لها. صعدنا إلى أعلى المبنى لإلقاء نظرة على المدينة قبل الانتقال إلى المتحف والأماكن الأخرى. وقفنا برهة على سطح العمارة، وراح بيير يحاول استعادة ما بقي في ذاكرته من زياراته إلى حماة، قبل أن يلتفت إلي سائلاً: هل وصلتْ "علمانيتُكم" إلى خِتان المآذن؟.. وانفجرنا ضاحكين.
أنا لم أتحدث عن "ضد إسرائيل" إلى الآن، فالكتاب أفضل من يتحدث بنفسه إلى قارئه. مع ذلك أود لفت الانتباه إلى نقطة لن تظهر من قراءة العنوان بالعربية، تتصل بكيفية إخراج غلاف الطبعة الفرنسية الأصلية. فالناشر الفرنسي جان جاك بوفير PAUVERT معروف بنزعته التقدمية ومع ذلك ارتعد خوفاً أمام تيار تأييد إسرائيل الكاسح غداة هزيمة العرب في حزيران 1967. فلم يكتف "بلفت النظر" الذي دَوَّنه دون وجه حق في أول الكتاب معلناً رفضه لمنطق ديمرون الموضوعي، بل أجاز تصميماً غير مألوف للغلاف فيه إهانة واضحة للمؤلف. (لهذا السبب، وضعت هنا صورة ذلك الغلاف بالفرنسية) لأن من يقرأها يفهم فوراً أين يقع الخطأ المتعمد.
عرَّضّ مصممُ الغلاف بالكاتب أولاً وبجرأته على الوقوف "ضد إسرائيل" فدَوَّن اسمَه بأحرف كبيرة مماثلة لحجم أحرف عنوان الكتاب، مما شكَّل للناظر جملةً واحدة جرى تقطيعها بلؤم فأصبحت تُقرأ: ديم رون كون تر إس رائيل – إن كلمة "كون" بالفرنسية العامية بذيئة ولها أكثر من معنى، أكثرها أدباً "غبي أحمق". وهكذا تبرأ الناشر التقدمي من المؤلف ومن الكتاب، ومع ذلك ينبغي شكره لأنه نشره رغم كل شيء.
سخر ديمرون أولاً من المثقفين والإعلاميين الفرنسيين الذين كرهوا اليهود باستمرار، فانقلبوا دون خجل إلى العواء مع الذئاب، متناسين أنهم كانوا ضد اليهود "المظلومين" فانقلبوا إلى حلفاء اليهود الظالمين، أي انحطاط هذا...
يَنُوسُ قاريء "ضد إسرائيل" بين اكتشاف خواطر تعبر النصَّ كالشهب التي تخترق جوّ الأرض، وبين الاستمتاع بأسلوب رشيق ساخر. فكيف يمكن نسيان مثل هذه السطور المُقتبسة من الكتاب:
[في الواقع اللاسامية لازمة للصهيونية، لزوم الشرطي واللص لبعضهما... ولما كان العرب هم أيضاً لاساميون، يُستحسَن أن ننتبه إلى أن العنصرية المناهضة للعرب هي شكل من أشكال اللاسامية... وبعد تحقير اليهود زمناً طويلاً جعلوهم مثاليين وأسبغوا الكمال عليهم، دون أن يُدركوا أنهم بذلك يستمرون في اعتبارهم "جماعة بشرية على حدة" ويمارسون اللاسامية تجاههم دون أن يعرفوا]. كما كنت أود الإشارة إلى ما كتبه ديمرون بحقّ جان بول سارتر على سبيل المثال، سارتر حبيب الملايين من مُثقفّي العروبة التقدمية وأصحاب دور النشر الناطقة بالفُصحى أو بما هو دونها. إلا أنني سأتوقف عند محطة يتوقف عندها اليوم كثيرون من الكتّاب الذين يفكرون في حاضر إسرائيل ومستقبلها بمناسبة انقضاء ستة عقود من السنين على زرعها في قلب المنطقة العربية، حيث يتساءلون عن كيفية تحول "ملاذ اليهود الآمن" إسرائيل إلى أكثر الأماكن خطراً على وجودهم. جاءت هذه الفكرة على قلم ديمرون في "ضد إسرائيل" وفي مقالات كتبها عن القضية الفلسطينية، حين انتبه إلى أن أوضاع اليهود قد تغيّرت في بلدان الدنيا كلها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث لم يعودوا موضع تمييز أو أشخاصاً ينبغي التخلص منهم لأنهم "يهود"، وأن المكان الوحيد في عالم اليوم الذي يُقتل فيه اليهودي لأنه كذلك هو في... إسرائيل! التي أقيمت لتكون ملاذاً آمناً ليهود الأرض... أية مفارقة مؤسسية. لقد استعار كثيرون هذه الخاطرة "الديمرونية" دون أن ينتبهوا إلى مصدرها أو يُنّوّهوا به. ولو أردت الاسترسال لاحتجتُ إلى صفحات... فهل نستغرب بعد هذا أن يُفْقِد "ضد إسرائيل" صوابَ كثيرين من الإعلاميين والمثقفين الفرنسيين المتصهينين، هذا الكاتب الذي: "يطعنُ الطّعنة العفيفة لا تُدمي ولكنَّه أبادَ وأردى" كما قال شاعرنا بدوي الجبل، في سياق آخر طبعاً.
يوم اتصلتُ به لأنقلَ إليه نبأ مبادرة وزارة الثقافة إلى إعادة نشر "ضد إسرائيل" (الذي ترجمه الأستاذ حسيب كيالي يومئذ بتكليف من إدارة التوجيه المعنوي) تأثر كثيراً وعبَّر عن امتنانه. سألتُه: وحقوق المؤلف؟ فجاءني صوته هادئاً: هل تظن أنني أود الحصول على أي شيء لقاء إعادة نشره؟ حسبي أنهم أعادوا اكتشافه، لأنه ما زال راهناً...
مع ذلك لا بد من شكر وزارة الثقافة على مبادرتها، لعل قراء الكتاب يكتشفون فيه جذوةَ إيمان بقضية عصفت بها رياح الزمن، وكاد أصحابُها يقتلونها لفرط حبهم لها...
"مسيو ديمرون" هل تذكر ما كنتَ تقول لي حين يحتدم الجدل بيننا؟ "كلما وقعتْ إسرائيل في أزمة إعتمدْ على العرب لإنقاذها منها".
مازلتُ أحتفظ بالنسخة الفرنسية من "ضد إسرائيل" لأورِّثها، ومازلت أقرأ إهداءه الذي دَوَّنه عليها يوم قَدَّمها إلي.... "هذا الإسهام المتواضع في معركة مشتركة". مُوقّعاً تحت الإهداء اسمه بأحرف عربية كان قد بدأ يتعلمها.

* * * * *

- مقدمة كتاب (ضد إسرائيل) الصادر في دمشق بالتعاون بين الهيئة العامة للكتاب ودار البعث

الجمل

التعليقات

أود أن أشكر أولا الأستاذ نبيل (هو بيعرف أديش أنا بحبو) لأنني رغم أني أعتبر نفسي قارئة رواية (و ليس سيلسة) الا أنه بنشر هذه المقدمة لهذا الكتاب عرفني بوجوده و حرضني على اقتنائه. أما بالنسبة للأستاذ غازي فأود شكره كونه قدم لنا معلومات مهمة جدابأسلوب روائي لطيف. ليته يحرض أشخاصا آخرين من بلدنا الحبيب لديهم المعلومات و الأسلوب و لكن ينقصهم التمويل و الجرأة. شكرا جزيلا للأستاذين الكبيرين.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...