سورية: حرب الناتو "الإنسانية" التالية (7)
الجمل - باتريك هينينغسن- ترجمة: د. مالك سلمان:
مع انطلاق الحملات الدعائية لإسقاط سورية, يمكننا أن نلحظ تشابهاً دقيقاً مع العملية التي أسقطت ليبيا. فمن خلال قصة نُشرت اليوم, يبدو أن إحدى الصحف الرسمية الحائزة على جوائز قد ضُبطت متلبسة في تلفيق أخبار حول سورية, ومن المثير للدهشة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها استغلال هذه القصة.
هذا الصباح قدم آلستر بيتش, مراسل "الإندبندنت" اللندنية, "دليلاً" في مقالته المعنونة "الأسد يقتل الأبرياء", حيث زعم أن قوات الأمن التابعة للرئيس السوري بشار الأسد قد قتلت العشرات من الأطفال الخدج في حمص هذا الأسبوع, إذ زعم في مقالته:
"اشتدَ حصار بشار الأسد الدموي لحمص البارحة بعدما ظهر دليل يشير إلى أن القصف العشوائي للمدينة المنتفضة قد بدأ بقتل الضحايا الأبرياء, بما في ذلك 18 من الأطفال الخدج على الأقل وثلاث عائلات بأكملها. وقد أتى الدليل مع تعرُض المدنيين في المدينة المحاصرة ليوم خامس من القصف المتواصل, وهو الأسوأ حتى الآن تبعاً لشهود عيان, بالإضافة إلى مقتل العديد من الأشخاص الآخرين مع تواصل الهجوم الوحشي."
يبدو أن مصدر مزاعم الصحفي بيتش هو منظمة واحدة, ليس في سورية, بل في لندن. ومن المدهش أن المصدر الرئيسي ﻠ "الإندبندنت" حول الفظائع المزعومة المذكورة هو عبارة عن منظمة تكاد لا تكون مرئية معروفة باسم "المرصد السوري لحقوق الإنسان" (ولكي تصبح الأمور أسوأ, هناك منظمتان متنافستان في لندن تحملان اسم "المرصد السوري لحقوق الإنسان", مع أن اﻠ "الإندبندنت" لا تقدم رابطاً يقود إلى أي منهما), الذي يزعم أن له مكتباً في لندن, ولكن يبدو أن ليس له عنوان أو رقم هاتف – هناك عنوان بريد إلكتروني فقط. والأسوأ من هذا كله أيضاً هو حقيقة غياب أي اسم مرتبط ﺑ "المرصد" على الموقع الإلكتروني, كما أن العديد من مقالاته موقعة باسم وهمي هو "رامي عبد الرحمن".
من المرجح أن "رامي عبد الرحمن" هو في الحقيقة شخص يدعى "رامي عبد الرحمن" يتم تقديمه في تغطيات صحفية إلكترونية أخرى بصفته رئيسَ "المرصد السوري لحقوق الإنسان" ويُقال إنه التقى بوزير الخارجية البريطانية وليم هيغ في "مكتب الخارجية والكومنولث" في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2011.
ليس بمقدور المرء إلا أن يستنتج, مع غياب الأسماء ومعلومات التواصل, أن هذا "المرصد" – بالتعريف – ليس سوى منظمة ضغط سرية مخفية جيداً, وفي هذه الحالة, يبدو أنها تضغط من أجل تغيير النظام في سورية من داخل وزارة الخارجية البريطانية.
قبل تغيير النظام في طرابلس, اعتمدت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على أشخاص مثل سليمان بوشويقر, الرئيس السابق ﻠ "الجامعة الليبية لحقوق الإنسان" المرتبطة ﺑ "المجلس الانتقالي الوطني" التابع للناتو, لفبركة الأكاذيب التي يحتاجها الغرب لتبرير حملة الناتو المشهورة الآن باسم "التدخل الإنساني" – تحت مزاعم حماية الليبيين. إن دجال حقوق الإنسان هذا – مثل زميله السوري اليوم رامي عبد الرحمن الذي يمكن أن يكون مرتبطاً بالإتلاف المتمرد الذي يتخذ من باريس مركزاً له والمعروف باسم "المجلس الوطني السوري" – ساعدَ على استهداف القذافي من خلال نشر أكاذيب حول الجرائم المزعومة للحكومة الليبية, ودون أي دليل, كما هو موضح في وثائق نشرت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي من قبل منشور "ڤولتير". ويتعرض الرئيس السوري بشار الأسد اليوم لنفس المعاملة, وبالطريقة نفسها تماماً.
أطفال خُدَج في الحاضنات: خدعة إعلامية مُدَوَرَة
مما يبعث على الدهشة أن هذه القصة نفسها كانت قيدَ التداول مؤخراً في آب/أغسطس 2011, عندما قام طرف ما, على الإنترنت عبر شبكات اجتماعية مختلفة من بينها "تويتر" بالعربية, بنشر وتعميم القصة نفسها حول الأطفال الخدج الذين قضوا في الحاضنات عندما قطعت القوات السورية الكهرباء عن المشافي أثناء هجومها, ليس على حمص, بل على مدينة حماة.
على الرغم من أن "سي إن إن" اعترفت بعدم قدرتها عن التأكد من القصة بشكل مستقل, إلا أنها نقلت الإشاعة التي نشرها "المرصد" في آب/أغسطس, حيث بثت الخبر التالي: "مجموعات حقوق الإنسان: 8 أطفال يموتون نتيجة قطع الكهرباء عن مشفى سوري".
علقت "الانتفاضة" الإلكترونية حول خديعة الأطفال في آب/أغسطس 2011 , قائلة آنذاك: "تشير الدلائل إلى أنها مجرد خدعة لئيمة, وصور ‘الأطفال الموتى’ المنشورة يشكل كثيف على الإنترنت هي صور مزيفة." ثم تابعوا ليوضحوا أوجه التشابه بين قصة آب/أغسطس المزيفة وبعض الحملات الدعائية السابقة الهادفة إلى تغيير النظام:
" عاجل – سورية/تم قطع الكهرباء اليوم عن مدينة حماة بما في ذلك المشافي. وبعد ذلك قام الشبيحة بتدمير مولدات الكهرباء في المشافي مما أدى إلى موت كافة الأطفال الخدج (أكثر من 40 طفلاً في مشفى واحد)."
بالنسبة إلي, رأيت على الفور أن هذه القصة مثيرة للشبهات. أولاً, كانت تشبه كثيراً القصصَ المزيفة عن القوات العراقية الغازية وهي ترمي الأطفال الخدج من الحاضنات في الكويت في آب/أغسطس 1990, وهي تقارير تم استخدامها في تأليب الرأي العام وخلق مناخ من الضرورة القصوى لحرب الخليج في 1991. كانت هذه المزاعم جزأً من جهد دعائي ضخم من قبل شركة العلاقات العامة "هيل آند نولتون" في واشنطن والتي استأجرتها الحكومة الكويتية.
إن حقيقة استخدام صحيفة حائزة على الجوائز مثل "الإندبندنت" البريطانية لمثل هذه المصادر الغامضة لتدعيم إحدى قصصها الرئيسية الصادمة حول الأزمة في سورية, شيء يبعث على الدهشة بحد ذاته. المشكلة الأكبر في هاتين القصتين المزيفتين حول أطفال خدج يموتون في الحاضنات اللتين قدمهما "المرصد", واللتين قامت وسائل الإعلام الرسمية – من أمثال "الإندبندنت" و "سي إن إن" – بنشرهما, تتجسد في عدم محاسبة "المرصد" على أي من المزاعم الكاذبة التي قام بتلفيقها.
إن مجموعات الضغط وحكوماتها في المنفى هي, في العادة, مصدر التقارير المعادية للنظام, هذه التقارير التي كان يتم تمريرها في الماضي لوسائل الإعلام الرئيسية التي تقوم بنشرها, ومن ثم تليها ضربات عسكرية استباقية, أو "تدخل إنساني", كما رأينا مؤخراً في ليبيا.
يمكننا أن نرى كيف تقوم وسائل الإعلام الرسمية, عن معرفة, بنشر قصص مثيرة – دون أي تدقيق – حول أحداث تتعلق بحقوق الإنسان في بلدان مثل ليبيا وسورية, ولكن ماذا عن قادتنا المنتخبين؟ هل سيقومون هم أيضاً بالترويج لهذه المزاعم لدعم مشاريعهم الحربية؟
بلا شك. فقد تم تكليف أعضاء حكومات الناتو بأدوار خاصة بهم بهدف التمهيد للتدخل. إذ يبدو وليم هيغ, وزير الخارجية البريطانية, في رأس القائمة التي تروج لتغيير النظام في سورية. فبعد الڤيتو الروسي-الصيني ضد محاولة مجلس الأمن لتمرير قرار للتدخل في سورية, قام هيغ بإدانة القرار واستخدم إحصائيات جامحة غير مؤكدة من المرجح أنه أخذها من صديقه في "المرصد", كما نقلت "الغارديان":
"قُتلَ أكثر من 2,000 شخص منذ قامت روسيا والصين باستخدام الڤيتو ضد مسودة القرار في تشرين الأول/أكتوبر 2011," كما قال بعد التصويت. "كم شخص آخر يجب أن يموت قبل أن تسمح روسيا والصين لمجلس الأمن في الأمم المتحدة بأن يتصرف؟"
كتب الصحفي طوني كارتالوتشي في كانون الأول/ديسمبر حول النشاطات السرية ﻠ "المرصد", مضيفاً:
من الواضح أن ‘المرصد السوري لحقوق الإنسان’, المتمركز في لندن والذي يتلقى كل أخباره عبر الهاتف وأشرطة الفيديو المحملة على ‘يوتيوب’ في سورية, يعمل بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية الممولة من قبل الولايات المتحدة ووزير الخارجية البريطانية. وإذا تذكرنا أن هيغ قد احتضن قادة المعارضة الليبيين في لندن بينما كان يلعب دوراً مفتاحياً في الترويج لهجوم الناتو على ليبيا ومن ثم تنصيب مسؤول في ‘شركة النفط البريطانية’ رئيساً للوزراء, نجد أن علاقته بعبد الرحمن تدل على تكرار شفهي لحملة الناتو المشبوهة والمدمرة على ليبيا.
وكما حدث في ليبيا, حيث اعترف ‘نشطاء حقوق الإنسان’ الآن بفبركة الأدلة التي اعتمدت عليها ‘محكمة الجنايات الدولية’ و ‘الأمم المتحدة’ في دعم مخططات ‘وول ستريت’ ولندن لتغيير النظام, فقد تبين أن ‘الأدلة’ القادمة من سورية مزيفة تماماً, حيث قدمها ‘شهود عيان’ المعارضة وقام مدير أحد المراكز البحثية الرسمية في واشنطن العاصمة بإدراجها في ‘تقرير حقوق الإنسان’ الصادر عن الأمم المتحدة.
إن ‘المرصد السوري لحقوق الإنسان’ يشكل المصدر الوحيد ﻠ ‘التقارير’ القادمة من سورية على الرغم من حقيقة أنه موجود بشكل كلي في لندن. وبينما من المؤكد أن المنظمات غير الحكومية التي يعمل معها ممولة من قبل الولايات المتحدة, لا يكشف ‘المرصد’ نفسُه عن مصادر تمويله أو عن خلفيات أعضائه. إذاً, من المفروض أن نصدق, بكل بساطة, منظمة غامضة يلتقي رئيسُها بالحكومة البريطانية, وأن نصدق ‘قصص شهود العيان’ غير المؤكدة التي تقدمها لنا بمثابة أدلة للشروع في تدخل عسكري يمكن أن يودي بحياة الملايين.
قامت الأمم المتحدة ببناء قرار مجلس الأمن رقم 1973 حول ليبيا بشكل كلي على تقاريرَ صادرة عن قادة المعارضة المتمردين المدعومين من الغرب و "المجلس الانتقالي الوطني". وقد تضمنت مزاعمهم الجامحة – والتي نقلتها وسائل الإعلام الغربية بشكل يثير الاستغراب والدهشة – أن القذافي قاد بنفسه الهجمات الجوية على شعبه, وقتل أكثر من 6,000 متظاهر مدني سلمي قبل تدخل قوات الناتو. وقد كان هذا الزعم ضرورياً بصفته مكوناً رئيسياً لتشكيل "منطقة حظر جوي" شملها القرار رقم 1973.
قبيل التصويت على القرار حول ليبيا, لم تبذل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أي جهد للتمحيص في هذه المزاعم أو في تفاصيل القرار, وهذا يتماشى مع المنطق الذي يدل على أن القضية الليبية كلها في الأمم المتحدة, من البداية وحتى النهاية, قد تم التخطيط لها وتنفيذها بصفتها عملية سياسية, عملية لا علاقة لها بالقضايا الإنسانية.
ها نحن مرة أخرى على مفترق طرق, وبسرعة كبيرة بعد المفترق السابق. وبدقة متناهية تظهر النماذج نفسها لتعبئة الرأي العام الغربي, هذه المرة ضد الرئيس الأسد والحكومة السورية. يبدو أن مستهلكي الصحافة في الغرب يتلقون بالقوة وجبة أخرى من المزاعم الكاذبة الهادفة إلى كسب الرأي العام الغربي للقيام بعمل عسكري من قبل الناتو, أو من قبل حلفاء الناتو في سورية, ومن ثم في إيران.
(ملاحظة: حاولنا الاتصال ﺑ "المرصد السوري لحقوق الإنسان" عبر بريدهم الإلكتروني للحصول على توضيحات بشأن مصدرهم حول المزاعم الأخيرة بخصوص مسؤولية الأمن السوري عن وفاة 18 من الأطفال الخدج, لكننا لم نتلق أي رد من المنظمة الموجودة في لندن.)
تُرجم عن : "غلوبل ريسيرتش", 9 شباط/فبراير 2012
الجمل- قسم الترجمة
إضافة تعليق جديد