سورية: حرب الناتو "الإنسانية" التالية (11)
الجمل - جيمز كوربيت - ترجمة: مالك سلمان:
بينما تقوم الحكومتان الأمريكية والإيرانية بالتصعيد في مضيق هرمز المتوتر سلفاً, وبينما توجه الصين وروسيا انتقادات علنية لواشنطن لتدخلها في سياساتهما الداخلية, يقف العالم على حد سكين من التوتر العسكري. وقد لعب الإعلام, الذي لم يكن مراقباً حيادياً لهذه التطورات, دوراً مركزياً في زيادة هذه التوترات وتحضير الجمهور لتوقع مواجهة عسكرية. ولكن مع ظهور الإعلام الإلكتروني لاستبدال الأشكال التقليدية التي يشكل الجمهورُ من خلالها فهمَه للعالم, بدأ العديد الآن ينتبهون إلى الطريقة التي يكذب فيها الإعلام على الناس لتحضيرهم للحرب.
هناك تاريخ يمتد على مدى قرن يبين استغلالَ الإعلام في تحضير الأمة للحرب, وشيطنة الأعداء المفترضين, وحتى استغلال الجمهور لتصديق مسببات حروب تم الاعتراف, بعد عقود, بأنها كانت خيالية تماماً.
وبينما تبدأ طبول الحرب مرة أخرى ضد إيران وسوريا وبحر جنوب الصين ومناطق ساخنة أخرى حول العالم, يتساءل بعض الناس المهتمين كيف يمكن لعالم قرفَ من سفك الدماء وشعب تعب من النزاعات أن يُقادَ إلى هذه النقطة مرة أخرى.
لكي نفهمَ هذا التناقض الواضح, علينا أولاً أن نفهمَ التاريخ الممتد على مدى قرن والذي يبين كيفية استخدام الإعلام في تحضير الأمة لحالة هستيرية من الاستعداد للحرب, وشيطنة الأعداء المفترضين, وحتى استغلال الجمهور لتصديق مسببات حروب تم الاعتراف, بعد عقود, بأنها كانت خيالية تماماً.
تم إدخال مصطلح "الصحافة الصفراء" لتوصيف ذلك النوع من الصحافة الإخبارية المثير للعواطف والمهتم بالفضائح والخاطئ في معظم الأحيان الذي عممته صحف مثل "نيويورك جيرنال" لصاحبها وليم راندولف هيرست. وفي واحد من أهم الأمثلة الفاضحة على هذه الظاهرة, روجت صحف هيرست على نطاق واسع أن الإسبان مسؤولون عن غرق سفينة "مين". وبعد أن دخل الناس في هستيريا معادية للإسبان, من خلال فيض يومي من القصص التي زعمت أن القوات الإسبانية قد عذبت واغتصبت الكوبيين, وبعد أن تم إخراج الناس عن طورهم نتيجة حادثة "مين", تقبَلوا فكرة بداية حرب أمريكية-إسبانية. على الرغم من أن هناك اعتقاداً واسعاً اليوم أن الانفجار على السفينة وقع نتيجة حريق نشب في أحد مراجل الفحم, إلا أن التقارير الأولية المثيرة حول التورط الإسباني بقيت في ذاكرة الناس وتم دفع الأمة إلى الحرب.
وبطرق عديدة, فإن العبارة التي تم إسنادها إلى هيرست رداً على مصوره "أنت تقدم الصور وأنا أقدم الحرب", بغض النظر عن صحتها, تُشفِر بشكل مثالي الطريقة التي يتم فيها دفع الناس إلى قبول فكرة الحرب مرة بعد أخرى عبر العقود.
دخلت الولايات المتحدة الحربَ العالمية الأولى بسبب إغراق سفينة "لوسيتانيا", وهي سفينة ركاب كانت تحمل مسافرين أمريكيين تم إغراقها من قبل الزوارق الألمانية بالقرب من الشاطىء الإيرلندي, مما أدى إلى مقتل أكثر من 1,000 مسافراً. ما لم يعرفه الناس في ذلك الوقت, بالطبع, هو أنه قبل أسبوع من الحادثة كتب الأدميرال الأول, في حينها, ونستون تشرشل إلى رئيس "مجلس التجارة" أنه "من الأهمية بمكان جذب السفن المحايدة إلى شواطئنا أملاً في توريط الولايات المتحدة مع ألمانيا." كما لم تعلن التقارير حول الهجوم أن السفينة كانت تنقل ذخائر البنادق ومؤناً عسكرية أخرى. فعوضاً عن ذلك, أكدت التقارير أن الهجوم جاء كضربة مفاجئة غير مبررة قام بها عدو مهووس, مما دفع الناس إلى الحرب.
كذلك جاء تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية نتيجة تضليل إعلامي متعمد. فعلى الرغم من أن "هونولولو آدڤرتايزر" كانت قد تنبأت بالهجوم على "بيرل هاربر" قبل أيام من حدوثه, كانت شيفرات البحرية اليابانية قد فُككت في ذلك الوقت, وعلى الرغم من أن هنري ستيمسون, وزير الحرب الأمريكي, كان قد دوَنَ في مذكراته في الأسبوع السابق أنه ناقش في اجتماع مع روزفلت "كيف يجب أن نستجرهم [اليابانيين] إلى موقع يطلقون فيه الطلقة الأولى دون السماح بتعريض أنفسنا لخطر كبير", إلا أنهم جعلوا الناسَ يعتقدون أن الهجومَ على "بيرل هاربر" لم يكن متوقعاً على الإطلاق. وقد ظهرت مذكرة سرية الشهر الماضي تنص على تحذير من هجوم ياباني على هاواي قبل أيام من أحداث "بيرل هاربر", ومع ذلك لا تزال كتب التاريخ تصور "بيرل هاربر" كمثال على الهجوم المفاجىء.
في آب/أغسطس 1964, قيلَ للشعب الأمريكي إن الفيتناميين الشماليين قد هاجموا مدمرة أمريكية في "خليج تونكين" في مناسبتين منفصلتين. وقد تم تصوير الهجومين كمثال جَلي على "العدوان الشيوعي", وسرعان ما تمت الموافقة على قرار في"الكونغرس" بتفويض الرئيس جونسون بالبدء بنشر القوات الأمريكية في فيتنام. وفي سنة 2005, تم نشر دراسة داخلية صادرة عن "وكالة الأمن القومي" تنص على أن الهجوم الثاني لم يحصل في الحقيقة. ولكن نتيجة ذلك, مات 60,000 جندي أمريكي وحوالي 3 ملايين فيتنامي, بالإضافة إلى ما يقارب 500,000 كمبودي وَلاوي, بسبب حادثة لم تحدث في أي مكان إلا في مخيلة إدارة جونسون وصفحات الإعلام الأمريكي.
في سنة 1991, تم تعريف العالم بالقصة العاطفية لنفيرة, وهي فتاة كويتية شهدت حول الجرائم التي ارتكبتها القوات العراقية في الكويت.
ما لم يعرفه العالم هو أن الحادثة كانت من فعل شركة علاقات عامة, "هيل ونولتاون", وأن الفتاة كانت ابنة السفير الكويتي. ومرة أخرى, تم حقن الناس بنوبة هستيرية من الكراهية لنظام [صدام] حسين, ليس بسبب الجرائم الموثقة التي ارتكبها بحق فئات معينة من شعبه باستخدام أسلحة زودته بها الولايات المتحدة نفسها, بل على أساس قصة خيالية قدمها التلفزيون للشعب الأمريكي وقامت بتلفيقها شركة علاقات عامة.
أثناء التحضيرات لحرب العراق, لعبَ الإعلامُ الأمريكي الدورَ القيادي في تأطير وقولبة النقاش حول أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها الحكومة العراقية, ليس إن كانت موجودة فعلاً أم لا, بل حول أماكن إخفائها وكيفية تفكيكها. وقد قادت "نيويورك تايمز" الحملة بالتقارير الإخبارية التي أعدتها جوديث ميللر حول قصة أسلحة الدمار الشامل العراقية التي يعرف الجميع الآن أنها كانت مبنية على معلومات مزيفة من مصادر غير موثوقة, لكن بقية وسائل الإعلام اتبعت نفس النهج؛ حيث تساءلت "إن بي سي" في "نشرة الأخبار المسائية": "ماهو التهديد الفعلي والدقيق الذي تشكله العراق وأسلحة التدمير الشامل التي تمتلكها على الولايات المتحدة", كما ناقشت "تايم" إن كان حسين "يبذل جهداً مخلصاً لتفكيك أسلحة الدمار الشامل العراقية". كما تم نشر تقارير عن مخزون الأسلحة الكيماوية قبل التأكد من وجودها, على الرغم من أن العناوين الرئيسية أكدت وجودَها كحقيقة لا تقبل النقاش. ونحن نعرف الآن أن هذه الأسلحة لم تكن موجودة أصلاً وأن الإدارة كذبت, بشكل مخطط ومدروس, لتقود الأمة إلى حرب أخرى, لكن أقوى معارضة واجهتها إدارة بوش حول جريمة الحرب الموثقة هذه تمثلت في تصحيح لبِق على برامج الأحد المسائية.
من الملفت للانتباه أن الناس, بشكل عام, لم يتعلموا أي شيء من كل هذه الفبركات التاريخية الموثقة. فالشيء الوحيد الذي حصل هو أن الإعلام أصبح أكثر جرأة ووقاحة في محاولاته للتحكم بفهم الجمهور, ربما نتيجة وجود قلة قليلة من الناس الراغبين في التمحيص في القصص والصور التي تُقَدَم لهم في نشرات الأخبار المسائية.
ولاحقاً في تلك السنة, عرضت "سي إن إن" صوراً تظهر تعرضَ "تسكنفالي" في جنوب أوسيتيا للقصف, مزيفة إياها على أساس أنها صور ﻠ "غوري" التي قالوا إنها تعرضت للهجوم من قبل الروس.
وفي سنة 2009, عرضت "بي بي سي" صورة مقتطعة لمهرجان في إيران ادعت أنه حشد من المحتجين الذين احتشدوا للتعبير عن معارضتهم للحكومة الإيرانية. لكن نسخة كاملة للصورة نفسها عُرِضت على موقع "لوس آنجيليس تايمز" الإلكتروني أظهرت أن الصورة قد جاءت, في الحقيقة, من مسيرة شعبية مؤيدة لأحمدي نجاد.
وفي شهر آب/أغسطس 2011, عرضت "بي بي سي" صوراً لما زعمت أنه احتفال في "الساحة الخضراء" في طرابلس [ليبيا]. وعندما لاحظ بعض المشاهدين المدققين في الصور أن الأعلام الظاهرة في الصور هي أعلام هندية, وجدت "بي بي سي" نفسَها مرغمة على الاعتراف بأنها بثت "عن طريق الخطأ" صوراً من الهند بدل طرابلس.
خلال ذلك الشهر أيضاً, نقلت "سي إن إن" قصة عن "المرصد السوري لحقوق الإنسان" تزعم أن 8 أطفال خدج في الحاضنات قد ماتوا في مشفى في حماة عندما قطعت السلطات السورية الكهرباءَ عن المنطقة. حتى أن بعض المواقع الإخبارية عرضت صوراً للأطفال. ولكن تم الاعتراف لاحقاً أن الصور أخذت في مصر, ولم يظهر أي دليل بعد ذلك لدعم هذه الاتهامات.
على الرغم من فداحة كل هذه الأكاذيب والفبركات وما يدعى ﺑ "الأخطاء", فإنها لا تمثل بحد ذاتها الوظائف الوحيدة التي ينجزها الإعلام في خدمة آلة الحرب. الآن, أصبحت الولايات المتحدة سباقة في هذا المجال من خلال تورطها المتزايد في تشكيل الرسالة الإعلامية حول الدعاية الحربية, كما أن الرأي العام واقع في شراك صورة مزيفة عن العالم يراها عبر عدسات "البنتاغون" نفسه.
في سنة 2005, اعترف "البيت الأبيض" في عهد بوش بإنتاج أشرطة ڤيديو مصممة لتبدو مثل التقارير الإخبارية الصادرة عن صحفيين مستقلين شرعيين, ومن ثم تزويد وسائل الإعلام بهذه التقارير بصفتها موادَ مُعَدَة سلفاً للعرض في نشرات الأخبار المسائية. وعندما قرر "مكتب محاسبة الحكومة" أن التقاريرَ الإخبارية المزيفة هذه تشكل, في الحقيقة, دعاية سرية غير قانونية, قام "البيت الأبيض" ببساطة بإصدار مذكرة تعلن شرعية هذه الممارسة.
في نيسان/أبريل 2008, كشفت "نيويورك تايمز" عن برنامج سري لوزارة الدفاع الأمريكية تم إطلاقه في سنة 2002 يعتمد على استخدام ضباط عسكريين متقاعدين لزرع نقاط متحدثة للبنتاغون في وسائل الإعلام. وقد تم تقديم الضباط بصفتهم "محللين مستقلين" للبرامج الحوارية والإخبارية, على الرغم من أنهم كانوا قد تلقوا المعلومات سابقاً من البنتاغون. وفي كانون الأول/ديسمبر 2011, قام "المفتش العام" لوزارة الدفاع بنشر تقرير ينص على أن البنتاغون ملتزم تماماً بالسياسات والأنظمة الحكومية.
وفي مطلع هذا العام, تم الكشف عن تعاقد الحكومة الأمريكية مع "ه ب غري فيدرال" لتطوير برامج كمبيوترية قادرة على فتح حسابات مزيفة على شبكات التواصل الاجتماعي بهدف توجيه الرأي العام والترويج الدعائي على المواقع الإلكترونية الشعبية. ويعود عقد البرامج الفدرالي إلى "قاعدة مكديل الجوية" في فلوريدا.
وبما أن وسائل الإعلام الجماهيرية تشكل الوسيلة التي يتم من خلالها التقاط وتنسيق وإعداد وبَث المعلومات من العالم الخارجي, تقع على عاتقها المسؤولية الكبيرة في تشكيل وتغذية فَهمنا للأحداث التي لا نستطيع الاطلاع عليها بشكل مباشر. وهذه مسؤولية ضخمة حتى في الظروف المثالية, حيث يهتدي المراسلون اليقظون بالمحررين الثقاة الذين يبذلون ما بوسعهم لنقل أهم الأخبار بالطريقة الأكثر أمانة.
ولكن في حقل الإعلام الفعلي, حيث تمتلك حفنة من الشركات كافة المطبوعات تقريباً والإعلام الإذاعي والتلفزيوني في كل بلد, ليس أمام الجمهور أي خيار سوى الابتعاد عن وسائل الإعلام الرسمية بشكل كامل. وهذا ما يحدث الآن بالضبط.
فكما أظهرت الدراسات والتقارير المتعاقبة, تسارعَ موت الإعلام القديم في السنوات الأخيرة, حيث أخذ الناس بالابتعاد عن الصحف وحتى التلفزيون, في الآونة الأخيرة, كمصادر رئيسية للأخبار. وعوضاً عن ذلك, يتجه الناس بشكل متزايد نحو المصادر الإلكترونية للاطلاع على الأخبار والمعلومات, مما يقلق آلة الحرب نفسها التي تشكل نظاماً لا يمكنه العمل والتأثير إلا في حالة السيطرة الاحتكارية على السلاح الدعائي.
ولكن مع ابتعاد المواطنين عن "نيويورك تايمز" واتجاههم نحو المواقع الإلكترونية المستقلة التي يديرُ العديدَ منها صحفيون مواطنون ومحررون هواة, فإن النظام الذي أحكمَ سيطرته على عقول الناس على مدى أجيال بدأ يُظهر أخيراً علائمَ تدلُ على أنه ليس منيعاً تماماً.
ولا يعني هذا, بأي حال من الأحوال, أن الإعلامَ الإلكتروني منيع على العيوب التي أفقدت الإعلامَ التقليدي مصداقيته. بل على النقيض من ذلك. لكن الفرق يكمن في أنه لا تزال هناك حرية اختيار نسبية في الصحافة الإلكترونية على المستوى الفردي. فمع توفر حرية الإنترنت, ليس على القراء والمشاهدين الأفراد أن يأخذوا بكلام أي موقع إلكتروني أو ناقد أو معلق حول أي موضوع. إذ بمقدورهم الرجوع إلى الوثيقة الأصلية بأنفسهم إلا في حالة – وليس من قبيل المصادفة ربما – المواقع الإلكترونية التابعة للإعلام التقليدي التي لا توفر روابط مصادر المعلومات والوثائق في مقالاتها.
ومن هنا "قرار إس أو بي إي" و "بروتكت أي بي" ومحاولات الحكومة الأمريكية للسيطرة على المواقع الإلكترونية على مستوى اسم الملكية, وكافة أنواع الهجوم الأخرى التي رأيناها على حرية الإنترنت في السنوات الأخيرة.
لأنه من الصعب, في النهاية, توجيه جمهور مطلع ومهتم للقبول بحروب يتم شنها لتحقيق السيطرة والأرباح. ومع اطلاع الجمهور بشكل أفضل على القضايا التي حاول الإعلام تضليلهم بشأنها لمدة طويلة, فقد بدؤوا يدركون أن الردَ على تهويل وسائل الإعلام وتضليلها أسهل بكثير مما كنا نعتقد: فكل ما علينا فعله, ببساطة, هو الابتعاد عنها.
تُرجم عن: غلوبل ريسيرتش", 3 كانون الثاني/يناير 2012
الجمل: قسم الترجمة
إضافة تعليق جديد