صخرة المسيحية هي في الشرق
صاحب القداسة،
إنك تدخل الشرق من البوابة اللبنانية، وهي أفضل بوابة للدخول إليه، للتعرف إليه والاقتراب منه. إنك أولا تجيء على خطى بطرس الذي ذهب من هذا الشرق الى روما. والمسيح طوبه صخرة وهو في الشرق قبل أن يصلب بالمقلوب في روما، وفقا ً لطلبه. ولا يزال الشرق صخرة المسيحية الأولى، تلك التي أقلقك وجودها نتيجة عقود من التعثرات، أبعدت معها العدد الأكبر منهم عن أرضهم، فجئت محاولا طمأنة الباقين منهم.
هل جئت متأخراً؟ ربما. فليست المسؤولية عليك بالدرجة الأولى على كل حال. فهنالك مسؤوليات أخرى كثيرة تسببت بخراب الشرق، وبعدم استقراره منذ أكثر من ستين عاماً، بعد نشوء إسرائيل العام 1948، التي رفض أسلافك تباعا الاعتراف بها، الى أن اعترف بعض العرب بها، ووقعوا معاهدات سلام معها، وإثر اجتماعات أوسلو العام 1993 بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فتم الاعتراف العام 1994.
ولكن الخراب كان قد حصل: انقلابات وديكتاتوريات وصراعات داخل الحدود وخارجها، تقلصت معها مساحات الحرية في دول هذا الشرق الأدنى، وتقلص معها وجود الأحرار وليس فقط وجود المسيحيين. والدليل هنا العدد الهائل من المنفيين من بلادهم التي ضاقت ذرعا بصوتهم المرتفع بالكرامة والحرية وحقوق الإنسان. تلك القيم التي ينادي بها كرسيك الرسولي باستمرار، والتي لم يُعلن عنها في بلدان الشرق العربي إلا مؤخراً، بعد الانتفاضات!
فالشرق يا صاحب القداسة، بالغ التعقيد، ليس فقط بحروبه وانقلاباته وديكتاتورييه وصراعات العالم عليه، بل بتكوينه في الأساس. العام 1941، في عزّ الحرب العالمية الثانية، جاء الجنرال شارل ديغول يزور الشرق، عبر البوابة اللبنانية ذاتها وهو يقول: «صوب هذا الشرق المعقد إني أجيء بأفكار واضحة». كان ذلك قبل أن تنتهي الحرب ويتقسم العالم في مؤتمر يالطا، وتصوت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على تقسيم فلسطين العام 1947، بالقرار الذي أنشأ إسرئيل.
الشرق هذا ازداد تعقيداً، دخلته الثروات الى جانب الثورات. إنه المخزون البترولي الأول في العالم، ومخزون التطرف الديني في آن. صراعات مجتمعاته تتراوح بين الانغلاق الديني والانفتاح المعولم مع آلاف من الطاقات الشابة. فلا يمكن للعالم أن يتحرك ويتقدم من دون الشرق، والشرق العربي تحديدا.
فالاقتراب من مسيحيي الشرق يبدأ بالاقتراب من الشرق نفسه. من الشرق العربي تحديدا. لأن قضاياه ومشاكله لن تهدأ في زمن منظور. وهو لن يهدأ قبل أن تهدأ قضيته الأولى المتمثلة بالقضية الفلسطينية، تلك التي أولاها عنايته سلفك يوحنا بولس الثاني عند استقباله ياسر عرفات.
فلقد أوليت عنايتك حتى الآن لأوروبا، لتراجع الإيمان المسيحي فيها. وكما كان لسلفك خلفية بولونية جعلته مناضلا في سبيل الحرية، فإن خلفيتك أنت هي ألمانيا، أرجعها البعض لدى انتخابك الى زمن الشبيبة النازية. فظلموك، كما ظلمت في معظم سنوات حبريتك حتى الآن، وأنت القادم من عالم الفكر والعقيدة التي ائتمنت عليها طيلة خمسة وعشرين عاما. فدَمغت حبريتك بها، في الحوار مع البروتستانت ومع اليهود، ومع المنشقين من الكنيسة الكاثوليكية. إنك أردت إيصال رسالتك الى العالم عبر أسلوب مختلف عن أسلوب سلفك، فاتهمت ببعض الجمود، وأنت الأكاديمي الكبير، والإنسان المتواضع، الذي واجهته العواصف وظلمه الإعلام، والعصر عصر الإعلام، الذي أربك الحاضرة القادمة من خلف ألفي عام من الرسوخ، وقد واجهت في التاريخ الانشقاقات الكبرى فيها، وأنت أول الخبراء بذلك.
÷ زيارة الى شرق يتغير
وعلى منكبيك اللذين يحملان خمسة وثمانين عاما، تقوم بهذه الزيارة، والشرق العربي يحترق.
لقد شاءت الصدف أن تقوم بهذه الزيارة، في وقت يتغير فيه الشرق العربي، لا بل العالم العربي كله. لأن الانشقاقات التي بدأت بتونس ومرت بليبيا عبر عاصفة كبيرة، تحاشاها البعض بإصلاحات مسبقة، وواجهها البعض الآخر بحروب لم تنته، وتغيرت معها مصر في أجواء لا تزال غير مستقرة بصورة عامة، وغير منضبطة في العلاقات مع الأقباط. ولكنها خرجت بأضرار محصورة، خلافا لما حصل في ليبيا، ولما يحصل اليوم في سوريا.
سوريا يا صاحب القداسة، زارها سلفك العام 2002، ومشى، قدر ما سمحت له قدراته، على خطى المسيحية الأولى في أماكن ومناطق تعتبر مهداً لتلك المسيحية والمختزنة لجزء غير قليل من تراثها الأصلي. قبل تلك الزيارة لم تكن علاقة الكرسي الرسولي مسهلة مع عاصمة الأمويين، بسبب تراكم سوء التفاهم جراء الحروب التي وقعت في لبنان، ومآخذ الفاتيكان على سوريا.
إن سوريا اليوم تحترق، وسط مخاوف الكثيرين من المستقبل وليس فقط مخاوف المسيحيين فيها الذين كان نظام الحكم يحميهم ـ وقد ثبت أن الحماية تلك كانت واهية ـ بل المخاوف على سوريا نفسها، ومستقبل الجميع فيها.
فالوضع هذا يتجاوز قدرات الكرسي الرسولي الذي سبق ودعا الى التجاوب مع التطلعات المشروعة للشعب السوري، وهو موقف لا يمكنه سوى أن يكون ملتقياً مع القيم التي ينادي بها، لجهة الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان. فالوضع السوري، في المأزق الأخلاقي والسياسي الذي وصل إليه، جعل الجميع يبدون عاجزين، من الأمم المتحدة الى واشنطن وموسكو وعواصم أوروبا. ولذا ماذا بإمكان الكرسي الرسولي أن يفعل؟ سياسة الموقف نعم، وهي ليست بالقليل. سلفك الكبير، يوم حرب العراق الأولى، وحين غادر جميع السفراء الغربيين بغداد طلب هو الى سفيره أن يعود من روما الى بغداد، حيث بقي فيها طوال مدة الحرب. وفي ذلك أكثر من مغزى.
فالعالم العربي يتوجه اليوم نحو أنظمة حكم جديدة، لا مكان فيها للديكتاتوريات وظاهرة الحكام الأبديين الذين لا يتركون السلطة إلا لأبنائهم، وسط التشدد والقمع والفساد.
فهل التوجه الأصولي الذي كانت الأنظمة السابقة تحذر منه وتبرر تشددها إزاءه، هو البديل الحتمي للتغيرات؟
ما كتب قد كتب يا صاحب القداسة، ولك من تجربة التغيرات المفصلية في أوروبا ما يكفي لاستطلاع مستقبل هذه المنطقة. الثورات تنطوي على مراحل، لعلنا في أولها. ولكن التغيير لا يمكنه أن يكون سوى للافضل.
أما لبنان الذي يجمع جميع أبنائه على الترحيب بك، في ظاهرة وطنية قلما تحصل هذه الأيام، فهو سيبقى في ضميرك، كما كان في ضمير أسلافك، ذلك البلد الخاص، ذا المنزلة الخاصة، والذي يفترض صون تجربته لا تفجيرها، خدمة لكل ما ينادي به الكرسي الرسولي من قيم وخدمة للآخرين.
ألم تكن تلك هي الإشارة الأساسية لاختياره هو بالذات، لإطلاق الموقف المنتظر عن مسيحيي الشرق. وأي مكان آخر يصلح لذلك؟
فأهلاً بك يا صاحب القداسة، في البلد الرسالة، وسط العواصف الهوجاء التي تحيط به.
داوود الصايغ
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد