تقاطع مصالح في الحرب على «جهاديي» سوريا
تضافر دولي ـ إقليمي على مكافحة الإرهاب، سيفاقم من أزمة المعارضة السورية المسلحة، وسيزيد من تراجعها.
التضافر حول محاربة الإرهاب يجمع، للمرة الأولى، موضوعياً، حلفاء النظام السوري وأعداءه على جانبي معادلة صعبة: القضاء على خصم «جهادي»، لكن لأهداف تتباعد من توجيه البنادق ضد «جبهة النصرة» وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) و«أحرار الشام» و«صقورها»، والجماعات «الجهادية» التي تتفيأ ظلال تنظيم «القاعدة» وفروعه الشامية الكثيرة.
فالقضاء على التكفيريين هدف النظام «الطبيعي» وحلفائه، باعتبارهم نواة القوة القتالية للمعارضة، ورأس حربة الحرب الإقليمية التي تشنها السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة على سوريا، وهو هدف بات يتقاطع مع السياسة السعودية والأميركية والتركية، والقطرية بحكم الأمر الواقع، وغلبة الخيار السعودي في الملف السوري: أي إضعافهم في إطار إعادة هيكلة المعارضة المسلحة، سعياً وراء سراب إحياء كتلة مقاتلة معتدلة، وبعث رميم «الجيش الحر العلماني»، الذي سيعمل من أجل كتلة الحرب الإقليمية، على ضرب امتدادات «القاعدة» في سوريا، وإسقاط النظام.
إذ لم تعد الولايات المتحدة ودول أوروبية تقاسم حلفاءها الخليجيين هذا الهدف، بعد ازدهار «الجهاديين» واضمحلال المعارضة «المعتدلة». وكان الأميركيون شديدي الوضوح في التعبير عن أولوياتهم السورية، عندما طلب وزير الخارجية جون كيري من الوفد «الائتلافي» برئاسة احمد الجربا، الذي التقاه في واشنطن أمس الأول، بتعزيز العمل على مكافحة الإرهاب.
ويبدو الاجتماع حول «جهاديي» سوريا في بروكسل معْلماً مهماً في تحول مجرى الحرب السورية نحو مركز انطلاق شراراتها، وتحديد المسؤوليات لاحتواء «الجهاديين». فقد دعيت إليه، في نطاق إعادة الهيكلة، الدول الكبرى «المصدرة» للجهاديين، مثل تونس والمغرب، وغابت السعودية المصدر الأول لـ«الجهاديين». كما جرى استدعاء دول المعبر كالأردن وتركيا. وكان لافتاً غياب لبنان بعد معركة القلمون التي أغلقت فرعاً من معابر «الجهاد» إلى الداخل السوري وأعفت اللبنانيين مؤقتاً من طائلة الجلوس إلى طاولات داخليات الدول الأوروبية والولايات المتحدة، التي تضغط بشكل خاص، على الحليف التركي لتخفيف اندفاعته الانتحارية، في تحويل الشمال السوري إلى بؤرة «جهادية» تهدد أوروبا.
وسبق المؤتمر الأمني في بروكسل رسائل تركية عن انعطافة محتملة، تؤكد التضافر الموضوعي في مواجهة «الجهاديين» في سوريا. فخلال الأيام الأخيرة، نفذت الاستخبارات التركية عمليات اغتيال وخطف «لأمراء الجهاد»، لا سيما في منطقة كسب في ريف اللاذقية.
وذهب الأتراك أبعد من ذلك. فبحسب مصدر سوري معارض بدأت الاستخبارات التركية بتقنين خطوط الإمداد للمعارضة المسلحة في ريف اللاذقية الشمالي، والدفع بالمقاتلين إلى جبهات حلب. ويقول إن الأتراك انشأوا كتيبة متخصصة في ملاحقة بعض القيادات «الجهادية»، وهم يقومون بعمليات قتل واغتيال للائحة من الأسماء التي لا تتمنى الدول الأوروبية أن تراها عائدة إليها على قدميها، عندما ترتد البؤرة السورية «الجهادية» على أصحابها، كما قامت بتصفية مجموعات من «الجهاديين» السعوديين والمغاربة الذين طلبت الاستخبارات السعودية التخلص منهم.
وكان الأتراك سلموا في الأسابيع الماضية قائد «كتيبة ملة إبراهيم» أبو أسامة الغريب إلى الاستخبارات الألمانية، لتجنيده مجموعة كبيرة من «الجهاديين» الألمان، من بينهم مغني «الراب» الألماني أبو طلحة، الذي قتل.
وتستأنف الاستخبارات التركية حرباً انتقائية ضد بعض القيادات «الجهادية»، التي تطاردها الاستخبارات السعودية، وكانت بدأتها العام الماضي عندما اعتقلت «مفتي جيش المهاجرين والأنصار» راكان الرميحي وسلمته إلى الاستخبارات السعودية. كما سلمت الرياض «الأمير الشرعي لجبهة النصرة» أبو منذر الخالدي.
وتتجه الشكوك إلى عمليات الاختراق التي نفذها الأتراك داخل المجموعات «الجهادية»، ومسؤوليتها عن عمليات الاغتيال التي طالت قيادات الصف الأول «القاعدية»، مثل أبي خالد السوري، القائد الفعلي لـ«أحرار الشام»، وأبي عبد العزيز القطري، ثم خليفته أبو مصعب الجعبور، الذي تمت تصفيته قبل عشرة أيام. ولا تزال عملية اغتيال حجي بكير المستشار العسكري الخاص لزعيم «داعش» أبي بكر البغدادي لغزاً يُنسب لعمل استخباري في الشمال السوري. كما اعتقلت، نهاية العام الماضي السعوديين خالد وعمر الحربي، وسلمتهما إلى الأمن السعودي.
وكانت الاستخبارات التركية قد نسقت «معركة الأنفال» التي باشرتها، من كسب، جماعات «شام الإسلام» المغربية، و«أنصار الشام»، و«جبهة النصرة»، و«لواء القادسية». ودخل أكثر من 2500 مقاتل عبر الأراضي التركية، لاختراق منطقة تبعد 63 كيلومتراً، عن مدينة اللاذقية وتهديدها. وتهدف العملية إلى إجبار الجيش السوري، الذي يعاني من نقص في العديد، على نشر المزيد من قواته وتشتيتها، عبر فتح المزيد من جبهات القتال، والاستيلاء على المرتفعات، التي تطل على كامل الريف الشمالي، والمراصد العالية التي تشكل خطوط الدفاع الأولى للجيش السوري، لحماية مدن وبلدات الساحل.
وقدمت المدفعية التركية تغطية واسعة لموجات الهجوم الأولى التي باغتت الوحدات السورية الصغيرة المرابطة على معبر كسب، وفي تلال جبل النسر وتشالما والمرصد 45.
وباغت الأتراك الجماعات «الجهادية» التي زجوا بها في كسب، بحسب مصدر متابع للعمليات، برفضهم في الأيام الماضية طلباً ملحاً من قيادة «الأنفال» لإرسال تعزيزات إليها من جبل التركمان الشمالي، لشن هجوم مضاد نحو قرية السمرة وحول المرصد 45، بعد أن تعثر الهجوم الذي قامت به في الأسابيع الماضية غرفة عملياتها، التي تدار من إنطاكيا، في لواء الاسكندرون السليب.
وبحسب مصادر في المعارضة فقد أصيب مقاتلو «الأنفال»، بخسائر فادحة أدت إلى تراجع زخم الهجوم على منطقة كسب وتلالها. ووثقت المعارضة في المنطقة أسماء 480 قتيلا من الجماعات «الجهادية»، استندت فيه إلى لوائح المستشفيات التركية ونعي الجماعات لخسائرها، من دون أن يكون الإحصاء شاملا. كما نقل الأتراك إلى مستشفياتهم في لواء الاسكندرون ما يقرب من 1500 جريح.
وبدأ السعوديون حجب مساعداتهم عن «أحرار الشام» و«صقور الشام» في الأشهر الأخيرة، في إطار تشجيع الفرز بينهم وبين «المعتدلين».
لكن للسياسة الجديدة حدودها، ورهاناتها الخطرة على الأداء القتالي للمعارضة السورية، إذ ستسهم بإضعاف الجماعات «الجهادية» على المدى القريب، من دون أن تؤدي إلى بلورة قطب معارض مسلح «معتدل»، أو أن يتاح للجماعات التي تعمل السعودية وقطر وتركيا على إنشائها أن تختبر قدرتها على مواجهة الجيش السوري، وإثبات قدرتها على الحلول محل جماعات «الجهاد» المجربة، مثل «النصرة»، وبعض أجنحة «أحرار الشام» و«الجبهة الإسلامية»، و«جيش المهاجرين والأنصار».
ونتيجة لهذه السياسة انحسرت خلال الأسابيع الماضية، قدرة «أحرار الشام»، وهي اكبر جماعات «الجبهة الإسلامية»، على الحشد في جبهات مختلفة، واضطرها تراجع الدعم القطري، وتركها تحت الدعم السعودي المتراجع، إلى سحب كتائب من مقاتليها على جبهات أرياف حماه وحلب. إذ يغلب على «أحرار الشام» و«صقورها» التضخم، من خلال تحالفات متفرعة مع كتائب محلية بايعتها مقابل التمويل، وتوقفت عن ذلك مع شحه، وهو عطب بنيوي في كبرى المجموعات «الجهادية». وتراجع «لواء التوحيد» في حلب إلى لواء رديف، بعد أن كان يقاسم «النصرة» السلطة في حلب الشرقية وأريافها. ويحاول زعيمه السابق عبد العزيز سلامة إنشاء كتيبة في عندان مسقط رأسه، وتمويلها محلياً.
وينصبّ الاهتمام على «فيلق الشام»، الذي تشكل من «لواء داود» السابق، الذي انسحب من «جيش المجاهدين» لتسريع إعادة تشكيله. وقام «جيش المجاهدين»، ومعه «اتحاد أجناد الشام»، بمبايعة «المجلس الإسلامي السوري»، الذي عمل السعوديون على تشكيله في اسطنبول قبل شهر.
ويقول خبير دولي، عائد من المنطقة، إن مد السعودية سياسة إضعاف «الجهاديين» إلى سوريا، ومماشاة القطريين لهم، ستؤدي في النهاية إلى إضعاف كل الجماعات التي تعتمد على التمويل الخارجي، لا سيما «أحرار الشام»، و«صقور الشام»، و«جيش الإسلام»، و«لواء التوحيد»، وهي اكبر جماعات المعارضة المسلحة، من دون أن تنشأ بالضرورة المعارضة «المعتدلة» المنشودة. ولن يكون المحور «المعتدل» في نهاية العملية سوى أمراء الحرب، وهو المحور الذي يمكن الركون إليه وتسليحه نوعياً، في مرحلة لاحقة. وستطفو على السطح الجماعات التي يقودها أمراء الحرب لأنه لا يمكن السيطرة عليهم كلياً، لاعتمادهم على تمويل حربهم من غنائم الحرب الداخلية، وعلى جزء يسير من التمويل الخارجي، والإمدادات التي تعبر من تركيا.
وخلال الأسابيع الماضية، جرى الترويج لجمال معروف لقيادة محور معتدل. ومعروف قائد «جبهة ثوار سوريا»، هو مقاول من جبل الزاوية، يمثل شريحة من أمراء الحرب، الذين نجحوا نسبياً، بتمويل كتائبهم من غنائم الحرب. وأصبحت الجبهات الأكثر اشتعالا في سوريا، تلك التي توفر لأمراء الحرب غنائم سريعة ومباشرة لدفع رواتب المقاتلين، وتجنيد جماعات جديدة. وباتت عمليات كثيرة تسقط من حسابات بعض الكتائب لقلة عوائدها المباشرة، خصوصاً في الأرياف. كما نجح قائد «كتائب نور الدين الزنكي» توفيق شهاب الدين في تكوين إمارة حربية شبه مستقلة عن التمويل الخارجي، إذ يشرف على 33 كتيبة مقاتلة في الاتارب وريف حلب. وتبلورت سلطته كأمير حرب من خلال السيطرة أيضاً على شبكة واسعة من 40 مدرسة، تستقبل 40 ألف تلميذ في المناطق التي يسيطر عليها. ويعتمد شهاب الدين على غنائم الحرب، وميليشيات محلية مترابطة، وصلت في استقلالها إلى درجة الخروج مؤخراً من «صقور الشام».
وتظهر «جبهة النصرة»، من جهة ثانية، فئة ناجية من تجفيف منابع التمويل الخارجي. لكن اصطدامها بإعادة الهيكلة، التي تنحو إلى صناعة محور «معتدل»، عجل في خروجها في درعا، واعتقالها رئيس «المجلس العسكري» في المنطقة العقيد احمد فهد النعمة، يظهر أيضاً حدود البحث عن «معتدلين» في المعارضة المسلحة. إذ تسيطر النصرة على 60 في المئة من جبهات القتال مع الجيش السوري، بحسب تقديرات خبير في النزاع.
ونجحت «النصرة» في قيادة غرف عمليات الحرب على الجيش السوري، من خلال تركيب تحالفات متقاطعة، لا تقدم فيها أكثر من ثلث الجهد القتالي، لكنه جهد يكفي لوضعها في مقدمة القوى التي تقاتل على كل الجبهات، ويبرهن أن «الاعتدال» السوري المقاتل، لن يرى النور قريباً.
محمد بلوط
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد