صعود الهوية الدينية لدى الجيل الثاني من المهاجرين (3 -3)
«إن رأيت شيئاً قل شيئاً». عبارة باتت الأشهر في نيويورك. تطالعك في القطارات والباصات وعلى اللوائح الإعلانية الضخمة وأكياس النايلون في محلات بيع التذكارات. تكاد العبارة تحل محل الشعار المعروف عن المدينة «أنا أحب نيويورك»، لدرجة يشعر معها الزائر أنها تختزل مزاج مدينة متوجسة من كل جسم غريب على رغم السنوات الـ7 التي تفصلها عن هجمات 11 أيلول (سبتمبر). في أسفل ذلك التحذير كتب رقم الخط الساخن لجهاز مكافحة الإرهاب بما يسمح لكل شخص أن يتصل بالشرطة ويبلغ عن الجسم المشبوه بشكل مجاني.
عالمان متناقضان تحملهما كل من العبارتين ويفصل بينهما يوم مظلم في تاريخ البلاد. فنيويورك المستقبلة لكل غريب، تلك المدينة الكوزموبوليتية التي يلتقي فيها مختلف أطياف البشر فيخرجون منها وقد أحب كل منهم جانباً ولو ضئيلاً فيها، باتت مكاناً خائفاً مترقباً يحاول تفادي صفعة لا يدري من أين قد تأتي.
والترقب ذاك ما عاد مصدره الخارج فحسب، بل صار مصحوباً بشكوك ومخاوف من تهديد داخلي محتمل. وما عزز تلك المشاعر حوادث في أوروبا نفذها مواطنون مسلمون بـ «وحي» من أساليب «القاعدة» ومن دون تدخل مباشر من قادتها إضافة إلى اكتشاف عدد غير قليل من الخلايا المحلية الناشطة.
وإن بدا أن الفكرة الأولى لهذه الحملة في قطارات نيويورك وشوارعها انطلقت في أواسط 2002، إلا أن معالمها تحددت أكثر وانتشرت شعاراتها وصورها بقوة بعد اعتداءات مدريد في 11 آذار (مارس) 2004 على خلفية تعاون استخباراتي أميركي- اسباني وتبادل خبرات ومعلومات بين محققين من ضفتي الأطلسي. فعلى مدى عامين دأبت الأجهزة الأمنية على مقابلة أشخاص كانوا مسافرين على متن تلك القطارات ونجوا من التفجيرات فاعترفوا انهم رأوا حقيبة من دون صاحب ولم يبلغوا عنها لأنها لم تثر الشبهات، فتبين لاحقاً للمحققين أنها حوت المتفجرات التي أودت بحياة 191 شخصاً.
لكن، وعلى رغم تسجيل شرطة القطارات في ولاية نيويورك 71 بلاغاً في كانون الثاني (يناير) من العام الماضي و104 في آذار و124 في نيسان، إلا أنه لا يبدو على النيويوركيين أن النداء يستوقفهم في شكل استثنائي. بل هم يمرون بمحاذاته ويتقافزون بين مقصورات القطار بسرعة فائقة تمليها عليهم دورة حياتهم تاركين مسألة أمنهم لرجاله.
لا ينكر المسؤولون الأمنيون في المقابل احتمالات ان ترد اتصالات خاطئة وأخرى لا تثبت الشكوك، إلا أنها تبقى برأيهم وسيلة لإشراك المجتمع كله وفي شكل يومي في الحرب على الإرهاب، أضف الى ذلك أن الأجهزة التي كانت اعتمدت مبدأ الحرب الوقائية صارت تفضل ان تخطئ في الظن وتخرق الحريات الفردية على أن تخطئ في التوقيت.
لكن هامش الخطأ المتاح ذاك، سهل اعتقال أشخاص لفترات غير محددة والتحقيق مع آخرين بطريقة اعتباطية ومن دون مذكرات توقيف وأحياناً لأسباب تعلنها السلطات لكنها غير تلك التي تضمرها، كأن يتم توقيف شخص أو ترحيله نهائياً عن البلاد بحجة ظاهرية هي انتهاء تأشيرة الإقامة وسبب فعلي لا يفصح عنه هو شبهة الإرهاب. وهذا ليس بأسلوب جديد استحدثته وزارة الأمن القومي في الإدارة السابقة لمكافحة الإرهاب، وإنما هو طريقة اعتمدتها الشرطة مطلع القرن الفائت في مواجهة اباطرة المافيا الإيطالية الذين لم تتمكن من إثبات تهم جنائية عليهم فكانت توقفهم لجنح صغيرة ثم تصدر بحقهم أحكاماً مشددة. وأول من تكرست بسببه هذه «الحيلة الالتفافية» كان زعيم المافيا الشهير «أل كابوني» الذي فتكت عصاباته بشوارع نيويورك وعاثت فيها قتلاً ودعارة ومخدرات، فيما كان هو وفي كل مرة يقدم للمحكمة حجة غياب مناسبة تبعد عنه قضبان السجن. وعلى رغم الجرائم التي اقترفها وخطط لها، لم تتمكن الشرطة من إلقاء القبض عليه إلا بتهمة حيازة مسدس بلا ترخيص!
وعلى هذا المنوال عوملت الجاليات المسلمة والأحياء التي خرجت منها خلايا إرهابية غداة الهجمات من دون التأكد المسبق من صحة الادعاء أو عدمه.
مقاطعة باساييك في نيوجيرسي، التي تضم 35 ألف مسلم وتعد ثاني أكبر تجمع للمسلمين في أميركا والأول من حيث الكثافة في عدد المسلمين، هي واحدة من المناطق التي وضع سكانها تحت مجهر الأجهزة الأمنية وخضعوا للتقصي الدقيق في سجلاتهم وقواعد بياناتهم. فشهد أبناء تلك المنطقة لما يعرف بـ «المقابلات الطوعية» وهي عبارة عن لقاءات دورية مع الشرطة للإجابة عن أسئلة تتعلق بعمل رب الأسرة وعدد أفرادها، والوضع العائلي والاقتصادي لهم والتحويلات المالية التي تجريها الأسرة لبلدها الأصلي أو تلك التي تتلقاها وعدد الأبناء الذكور وعملهم واهتماماتهم وغيرها من المعطيات التي تهم الأجهزة. لكن المفارقة تكمن في أنه وعلى رغم تسمية تلك المقابلات بـ «الطوعية» إلا أن من لا يشارك فيها كان يواجه بملف قضائي يتعلق إما ببطاقته الإئتمانية أو بأوراق الهجرة أو حتى بمخالفة سير.
محمد القطناني رئيس المركز الإسلامي لمقاطعة باساييك الكائن في مدينة باترسون التي تضم وحدها 8 مساجد و15 ألف مسلم غالبيتهم من الفلسطينيين والأردنيين (البقية من الأتراك والباكستانيين والبنغال) قال في لقاء مع «الحياة»: «البحث لم يكن عن إرهابيين وإنما عن مخالفات هجرة، والخلية التي اتهمت بالإرهاب وسلطت وسائل الإعلام الضوء عليها لم يسكن أفرادها هنا. ربما مروا بهذه المدينة لكنهم لا ينتمون إليها». والواقع أنه بين العامين 2001 و2004 أجريت 20 ألف «مقابلة طوعية» وتم ترحيل 13 ألف مهاجر مسلم «فتملّك الجالية الرعب واتخذت موقع الدفاع» بحسب الشيخ القطناني الذي أضاف: «لكننا في عظات الجمعة شددنا على أنه يجب اعتبار ذلك فرصة تعارف بين الدولة وأبنائها المهاجرين لذا شددنا على أهمية التجاوب مع هذه المقابلات».
وليس الشيخ نفسه بعيداً عن تلك الإجراءات الوقائية. فهو الذي تصفه وسائل الإعلام الأميركية بـ «رجل السلام ومد الجسور» يخوض اليوم معركة بقاء مع السلطات التي اتهمته بداية بأنه «تورط بأعمال إرهابية مع منظمة حماس» مطلع التسعينات، وأنه حوّل الأموال لها ويجب ترحيله وذلك بناء على ادعاء من وزارة الأمن القومي المستحدثة بعد 11 أيلول. والقضية التي رفعتها الحكومة الأميركية في 2006 ضده وضد زوجته و3 من أبنائه (المولودين خارج أميركا) ترتكز على أنه في العام 1999 وخلال تقديم أوراق البطاقة الخضراء أو الجنسية لم يذكر القطناني مسألة اعتقاله 3 أشهر لدى الإسرائيليين في 1993.
لكن الدفاع ارتكز الى أنه لم توجه تهمة للشيخ خلال اعتقاله، وانه لو كان متورطاً بأي عمل مشبوه لما افرج عنه. فردت دعوى الترحيل وصدر الحكم ببقاء الشيخ وعائلته داخل الأراضي الأميركية. لكن الحكومة لم ترض بالحكم واستأنفته مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 ليتجدد النقاش.
وكان القطناني جاء إلى الولايات المتحدة في 1996 بموجب تأشيرة تمنح لرجال الدين الذين تطلبهم جاليتهم ليؤموا الصلاة ويديروا شؤونها الروحية. وتجدد تلك التأشيرات دورياً وتمنح الحق لاحقاً بالحصول على الإقامة ثم الجنسية.
ويقول: «لم أسع شخصياً للهجرة، لكن عندما جئت انخرطت وصرت أشعر أنني جزء من هذا البلد». ويضيف الشيخ الذي جلس في مكتبه يحاول تنظيم ندوة مع الشباب حول الأزمة المالية العالمية والنظام المصرفي الإسلامي: «البعض يصورنا على أننا دخلاء على هذا المجتمع، لكننا معنيون بكل ما يحدث هنا، وهذا البلد هو بلد المهاجرين والزمن زمن هجرة المسلمين». والواقع أن العائلة التي جاءت من الأردن أواسط التسعينات، وكانت مؤلفة من الأب والأم وثلاثة أبناء، كبرت في أميركا حيث ولد 3 أطفال آخرين وباتت جزءاً من نسيج المدينة. فالشيخ وهو اليوم في منتصف الأربعينات يشرف على أكبر مركز إسلامي، ويرعى شؤون الجالية التي لا تقتصر على العرب، حيث يقدم المركز خدمات تتراوح من الشوؤن الدينية إلى الاستشارات العائلية والتحكيم المالي والتأهيل النفسي والخدمات المدنية- الاجتماعية. والمركز الذي كان كنيساً يهودياً يقع على تلة صغيرة خارج صخب المدينة يضم مسجداً يجمع في صلاة الجمعة نحو 1500 شخص ويرتفع هذا العدد إلى 5 آلاف في الأعياد، وقاعات للقراءة وصفوف لتدريس اللغة والقرآن وإجراء الندوات.
والواقع ان تلك المراكز التي ضيقت السلطات الأميركية الخناق عليها وعلى تمويلها في السنوات الماضية خوفاً من أن تتحول نقطة استقطاب وتجنيد، تشكل عملياً جسراً حقيقياً بين الجاليات المسلمة وبقية مكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والدينية. فالنشاط الانتخابي الذي شهدته هذه المقاطعة تحديداً والارتفاع وإن الضئيل في أعداد الناخبين المسلمين في الانتخابات الأخيرة، جاء في شكل كبير نتيجة سعي الأئمة إلى انخراط الشبان في عملية الاقتراع كجزء من الاندماج والمشاركة في القرار من داخل المنظومة الرسمية. وإذ يميل العرب المسيحيون تقليدياً إلى الجمهوريين، بسبب حرصهم على التقاليد الاجتماعية المحافظة من جهة واعتمادهم السياسات الليبيرالية في الاقتصاد من جهة أخرى وهؤلاء أساساً تجار ورجال أعمال، يميل المسلمون في المقابل إلى الديموقراطيين الذين يجدون فيهم ملاذاً آمناً في السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
ومن الفتاوى التي كان للقطناني دور رئيس في صوغها، تلك المتعلقة بوجوب مشاركة المسلم في الانتخابات انطلاقاً من مبدأ أن «المجتمع له حق على المسلم الصالح». ولا يرى القطناني تعارضاً مع مقاطعة هؤلاء المسلمين المتدينين أنفسهم الانتخابات التشريعية في بلدانهم الأصلية بحجة فساد أنظمة الحكم فيها، بل يفسرها في عامل «الثقة بالنظام» الذي يحتسب كل صوت يمكن أن يحدث فرقاً وتغييراً في الإدارة. ولعل الإشكالية التي يواجهها أمثال الشيخ القطناني من المتدينين المعتدلين أنهم باتوا يعاملون كمجموعة دينية واحدة لا تأخذ في الاعتبار الاختلافات بين المجموعات الفرعية داخلها، ما يحمل مخاطر تحويل المعتدلين من الشباب إلى البحث عن بدائل أكثر تطرفاً. وبواقعية حذرة لا ينفي الشيخ احتمالات نشوء حالات تطرف بين الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين إذا لم يعط أصحاب الأصوات المعتدلة دوراً كافياً في المجتمع والعمل السياسي.
وإذا كان من مؤشر على ما مر ويمر به الشيخ القطناني من دعاوى قضائية لترحيله في شكل مفاجئ، بعد قضائه وعائلته أكثر من عشر سنوات داخل الأراضي الأميركية، فهو يؤشر عن قبول متبادل لتلك الدينامية القانونية ولعب اللعبة بشروطها.
بيسان الشيخ
المصدر: الحياة
إقرأ أيضاً:
إضافة تعليق جديد