(أبنوس ) صندوق الحكايا المدهشة
ماإن قررت الكاتبة روزا ياسين حسن ، عبر بطلتها أنجيلا الراوية الأقرب جيلا لها ، أن تفتح الأبواب الموصدة لذاكرتها الجماعية المختبئة في الصندوق الأبنوسي ، حتى انهال عليها سيل من الحب الكامن الممزوج بالدهشة الذي سيغمرها لاحقا بفيض من السرد النابض والذي سيؤرخ لاحقا لسيدات الرواية أو بالأصح سيدات الدهشة السردية لواحدة من أهم وأمتع الروايات السورية والعربية المعاصرة ( أبنوس ) .
الصندوق الخشبي الأبنوسي الفاخر المتوارث بين نساء العائلة يحضر في الرواية بدلالته الجمالية كحافظ مختلف النوعية لذاكرة مختلفة حقا ، إذ عادة مايحفظ المرء عبر التاريخ مايشاء حفظه على ورق أو حجر أو طين أو معدن ، إلا أن الكاتبة التي اكتشفت أن قصص سيدات روايتها بكل هذا الجمال ، قررت أن تكرمهن حبا فاختارت لهن الأثمن والأجمل شكلا ومادة كخشب هو الأحن إلى الإنسان وبمايتناسب مع روعة نساء عابرات فيزيولوجيافي الزمن ، غير عابرات في الحكايا والأثير والصنعة الروائية . الصندوق الذي لايكتفي بدوره الجمالي هنا، بل يتعداه ليركن بكبريائه الأسود جانبا وقريبا – جغرافيا - على طول الرواية كشاهد حميم على قصص حميمة لبطلاته الحميمات ، يحس بنبض آلامهن وأفراحهن ، ويمارس واجبه الذي خلق لأجله وحفظ صدى حكاياهن والإغلاق عليها إلى أن يأتي اليوم الذي سيفتح من جديد بأيد أمينة ليفصح عن فحواه . ولعل الروائية روزا التي قررت عبر بطلتها أنجيلا الحفيدة الوريثة الشرعية للصندوق أن تشاركها متعة وفضول فتحه، لعلهما لم تتوقعا أن صندوقهما فاض بداخله كل هذا الفيض ، وأنهما لم تفتحا صندوق الحكايا المدهش فحسب ، بل فتحتا معه ذاكرة قرن بحاله، هو القرن العشرين ، المتقلب الأهواء ، بين أهوائه ستتناغم الرواية بأهوائها ، وتتوسد زمنه الطويل متكأ لسرد شيق يمتد مائة عام وربما أكثر .
سيدات صندوق الدهشة تفتتح مصائرهن تباعا بالجدة الكبرى التركية نظلي خانم صاحبة الصندوق الأبنوسي ، ذات الشعر الأحمر الناري أحد دلالات سوء الطالع الذي سيتوارث بدوره ( الشعر الأحمر الذي يشي هنا بدلالة لونية قوية وجذابة تحمل سمات النار - التمرد - الفكر اليساري لبعض الحفيدات المصابات به ). نظلي خانم الجدة ابنة العز التي ستهرب من قصر أبيها وتتزوج بمساعد أمين في أحد سرايا والدها ، أولى قصص الحب الرومانسي الذي سيأكله الفقر وينتهي بأميرته المتمردة تحت حوافر الخيل الهائجة ، دون أن تمر حكايتها مرور الكرام ، بل ستؤسس و تحفر عميقا في ذاكرة سلالتها القادمة وستترك لهن الصندوق والكثير من جيناتها وسوء طالعها للبعض منهن وفي مقدمهن الحفيدة أم ريما ثم ابنتها ريما ذات الشعر الأحمر تليها سمية ( أم ابراهيم ) وابنتها مريم انتهاء بأنجيلا ذات الشعر الأحمر بدورها ، والتي ستقرر حفظ هذا الإرث العائلي النسائي الطويل الحافل بالوجع والمعاناة والكفاح ، لكنه أيضا الحافل بالسحر والخيال وقصص العشق والانعتاق والدفء والعطاء . حكايا نسائية منحتها روزا حسن ياسين الكثير من التخييل الذي يتلائم مع قاماتها الروائية ومددتها فوق أوراقها تتأملها بعناية وحرص أنثوي خلاق فزركشت مايلائم أثواب وملامح بعضها ، وطرزت سلوكيات البعض منها حتى غدون جميعا وكأنهن سجادة أو حكاية سجادة كل خيط وكل لون فيها يتواشج مع الآخر ويمنحها في النهاية كل هذه الأبعاد الجمالية الأدبية التخييلية .
سلالة نسائية تناسلت عبر القرن المنصرم الحافل بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصيرية مثل الاحتلال العثماني وسوق الرجال قسرا إلى ماعرف بمرحلة السفر برلك بداية القرن ، الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال في الثلث الأول منه ، تليه نكبة فلسطين ، ثم المرحلة الناصرية و نكسة حزيران نهاية الستينيات، لتلي تاليا مرحلة السبعينيات وبداية الثمانينات مع عصر السادات واتفاقية كامب ديفيد والثورة الايرانية ثم الأحداث الدامية المتبادلة بين تنظيم جماعة الأخوان المسلمين والسلطة ، وملاحقة السلطات الأمنية للتنظيمات اليسارية وزج أفرادها في غياهب السجون ، وصولا إلى التسعينيات حيث قصف بغداد الأول والانتفاضة الفلسطينية المستمرة. أحداث قرن عاصف حظيت كل سيدة من سلالة أبنوس النسائية بنصيب يكفيها ويكفي جيلها منها ، وبدا الحدث السياسي في الرواية كخلفية حتمية تعكس صداها ونتائجها على الشخصيات وتؤثر في مصائرهن بشكل مباشر أحيانا أو غير مباشر في أحيان أخرى ، دون أن تستحضر الرواية الحدث بفجاجة أو إقحام لامبرر له، وانساب بسلاسة في سياق السرد موظفا بكافة أبعاده وانعكاساته النفسية اللاحقة . دون أن يفوت الكاتبة تبدل الزمن على بعض الشخصيات ، فالأكثر معاصرة هن الأكثر انعتاقا فكريا ووعيا سياسيا وصانعات للحدث أو بالأصح مشاركات في صنعه وتحليله ولسن متفرجات ومتأثرات فقط كجداتهن ، مثل أنجيلا وبعض من تاريخ أمها مريم ، إضافة إلى سناء الجارة الشيوعية التي تضمها الروائية إلى تاريخ العائلة بكل حب وامتنان .
بين شخصيات الرواية النسائية الأساسيات ، إذ تحفل الرواية بعدد لابأس به من شخصيات نسائية ثانوية ولطيفة مثل خالدة وجورجيت ، تبرز دون أدنى شك شخصية أم ابراهيم ( سمية علوش ) ، والتي يأتي موقعها بين سلاستها النسائية في المنتصف من حيث الترتيب العددي ، ومن حيث الزمن الذي اختير لها لتولد في مايقارب منتصف القرن ، وبحيث بدا موقعها المنتصف نقطة انطلاق حيوية أو محطة ، منه تنطلق الذاكرة إلى الوراء لتتذكر الأم والجدة وجدة الجدة، ومنه ننطلق الى المستقبل حيث الابنة مريم وحفيدتها أنجيلا مرورا بالجارة سناء التي ستعامل معاملة استثنائية كابنة رقيقة من بنات العائلة . موقع أم ابراهيم المنتصف، والذي يشي بعض الشيء بدلالة الانتصاف أو الاعتدال ، وهو مابدا جليا في شخصية هذه المرأة المعتدلة السلسة يتيمة الأبوين ، ابنة أمها ريما التي لاكت سمعها الألسن وماتت بعد تجربتي عشق مدمرتين ، والتي ستتولى تربيتها الجدة الأرملة أم ريما تربية صالحة تفقد الناس ذاكرتهم عن أمها الحمراء . سمية أم ابراهيم السمراء ذات الأنف الأفطس غير الجميلة مقارنة بنساء العائلة ، التي ستصاب لاحقا بلوثة الحظ الطيب وتتزوج بالشيخ الجليل يوسف أبو ابراهيم سليل مشايخ الدين والمدرس لتعاليمه السرية ، بحيث تتحول الى زوجة تقليدية و خادمة مخلصة له راضية كل الرضا عن دورها الذي رسمه لها القدر ورسمه لها زوجها الشيخ القابع في صومعته ، تاركا لها مهام تسيير شؤون البيت والأولاد .سمية أم ابراهيم التي تتمحور معظم مفاصل الرواية حولها ، وتحوم بدورها حول تصنيع مفاصل الرواية والحدث ، سيدة ريفية ستعشق الحياة المدنية عشقا لامتناهيا وتموت أسيانة بعدا عنه ، محولة بيتها الاسمنتي المديني إلى مختبر عشبي طبي يحفل بروائح التوابل والأعشاب الطبية والمطيبة ، وكأنها شاءت أن تنقل أجمل مافي ضيعتها من رمز بيئي الى داخل بيئتها الجديدة الضيقة ، أو بالأصح شاءت أن تحمل ( خير الطبيعة الفطري ) إلى قلب المدينة الجاف لتزهره وتنعشه ، ومعه تنعش الرواية بتفاصيل فن العطارة التي منحت رواية ( أبنوس ) بعدا حسيا شميا آخاذا في جماليته ، سينعكس لاحقا على روحانية ابنتها مريم وتواشجها مع حازم (المادي القرمطي)، وبالتالي على ذاكرة الحفيدة أنجيلا التي ستبقى قطعة من قلبها و دونما ارادة منها معلقة في تلك الروائح إلى أبد الآبدين .
على عكس كثير من الابداعات النسوية العربية التي تدين الرجل – مفهوم الذكورة كخصم وعدو لدود مطلق . تحفل رواية ( ابنوس ) بعدد كبير من الشخصيات الذكورية المؤثرة ذات الرؤية المنصفة والموضوعية ، أولها الجد الأكبر المتمرد التركي عاشق نظلي خانم ، أبو ريما ، الشيخ يوسف أبو ابراهيم ، الشيخ محمد التاجر ، أخوت علوش ، شاكر ابن الآغا ، الغريب ، أحمد ، أمجد ، حازم القرمطي . شخصيات ذكورية تقصدت الروائية أن تقدمها بإخلاص شديد لطبيعتها، فلا هي غالت في قسوتها ، ولا هي أسهبت في رقتها وحنيتها. إنما الرجل يحضر هنا كإنسان حقيقي يحمل البعدين المطلقين للانسانية بخيرها وشرها، يتأثر بالحدث وإن كان صانعا له في أغلب الأحيان ، ضحية ميراث طويل من العسف السلطوي بكل أشكاله والمترجم لاحقا له في الأنوثة الضحية المتتالية ، دون أن تغفل الكاتبة أن الرجل القمعي والمقموع إنما هو سليل لذاكرة قمعية طويلة حملته وزر هذا الدورالثقيل ، لكنه لايتوانى عن الإفصاح والتعبير عن براءته وطيبته وعفته حين تحضر المعرفة والظروف المؤاتية للتعبير عنها . وأمام شخصية الشيخ أبو ابراهيم الروائية لايمتلك المرء - القارئ إلا إبداء كل الإعجاب والاحترام لشخصه وجلاله رغم كل قسوته الظاهرة التي يغلف بها قلبا أرق من نسمة . يوازيه حبا واحتراما وإعجابا الأنموذج المشتهى للرجل المتمثل بحازم القرمطي المنفلت من عقال الأحزاب والأيدلوجيات ، سيد روحه وفكره المستقل المطلق ، والذي لن يكسره سجن أو تلوي عنقه محاصرة حسية أو معيشية عن التماهي المطلق بالانسان الحر وكرامته الأعلى .
منذ بدء الصفحات الأولى للراوية حيث يحاول الشيخ أبو ابراهيم مع زوجته سمية أم ابراهيم اتخاذ القرار بالعودة أو الأصح اللجوء القسري إلى القرية الأم بعد اقتراب الخطر وتفاقمه في الأحداث الدامية الفوضوية بين جماعة الأخوان المسلمين والسلطة ، وهي الأحداث التي لن توفر الأبرياء وغير الأبرياء من الطائفتين السنية والعلوية . وحتى الصفحات الأخيرة منها حيث أن قرار العودة القسري للقرية قد اتخذ وتم تنفيذه . بين البداية والنهاية وبعد أن انفلشت الأحداث على طول وعرض الرواية ، ولُعب بالشخصيات على هواها ، وأنهيت مصائرها أو ابتدأت كما تشاء . بين هذه العناصر كلها ، لايمكنك أن تسهو عن حضورمدينة اللاذقية الروائي – والوثائقي الآسر . اللاذقية الجميلة سليلة أوغاريت العريقة التي يتجلى وصفها في الأربعينيات وصولا حتى السبعينيات ، إلى أن يطالها التغيير والتشويه العمراني ويبعد رصيف الميناء الحديث البحر عن مقهى العصافيري ، أحد أجمل تجليات جنون البحر القديمة حين يقرر أن يخبط رأسه العنيد في صخور شاطئها الأكثر صلابة .اللاذقية التي بدت في بعض مقاطع الرواية المتأزمة ، سجن ضيق وكبير وخانق معا للشخصيات المأزومة . وبدت خفاقة خلاقة في بعض انفراجات السرد وجمالياته . استطاعت الكاتبة بمهارة لافتة أن تحول حي الشيخ ضاهر – أحد معالم اللاذقية الأبرز - إلى أنموذج سوري مصغر ، حيث اجتمعت في هذا الحي الصغير بحجمه، الشاسع بفضائه إلى مجمع للطوائف السورية المتآلفة والمتراصة في بعض الزمن الماضي القريب ، تجمع الإلفة والتعاضد والمؤازرة بينها حتى في أصعب النكبات الدموية التي لم توفر الشيخ العلوي وجاره السني معا . إلى أن تأتي آلة الهدم المصيرية وتمحو كل تلك الأيام ، وكأن آلة الهدم هذه مصير دائم ومكرر لكل الجماليات التي نقرأ أونسمع عنها في كل كتب التاريخ الماضي .
( أبنوس ) بجدارة ، تستحق كل التقدير والاعجاب ، وتستحق مبدعتها ، روزا ياسين حسن كل الثناء على عمل إبداعي رفد الرواية السورية والعربية بشجاعة واقتدار . وأعتقد أن روزا الشابة في باكورة ابداعاتها الروائية هذه ، مازالت تحمل الكثير لتقدمه لنا مستقبلا ، متمكنة من أدواتها ولغتها القوية والواثقة ، ولم لا وهي الآن تمتلك صندوق ( الأبنوس ) الفاخر وأخمن أنها مازالت تحتفظ بالكثير من الحكايا والدهشة المختبئة فيه ، وفيها ... فلننتظرها .
كوليت بهنا
إضافة تعليق جديد