التحوّلات الثّورية في الفكر الديني الإسلامي

10-06-2008

التحوّلات الثّورية في الفكر الديني الإسلامي

عاد الأمين العام المساعد لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم لتكرار ما قاله النائب محمد رعد في الدوحة، من أن «عملية بيروت كانت موضعية ونظيفة»! وبذلك يعتبر «حزب الله» الدخول المسلح الى بيروت، والذي قام به مع حلفائه، عملية عسكرية عادية أجريت بحسب «قواعد الاشتباك» التي اعتادوا عليها خلال المواجهات مع إسرائيل. والموضعية والنظافة بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 كانت تتمثل في الإغارة على مزارع شبعا (أضافوا إليها أخيراً: تلال كفرشوبا)، وليس خارجها. ونحن نعرف أن السيد حسن نصرالله علّل إرادة الإقدام على دخول بيروت بالسلاح، بالقرارين اللذين اتخذتهما الحكومة. لكن بعد مؤتمر الدوحة ما عاد هناك حديث عن القرارين علةً لذلك، بل طال الحديث ويطول عن المؤامرة التي كانت تُعدُّ، وعن مئات المسلحين الغرباء الذين أتوا، وعن محاولات تغيير وجه بيروت وهويتها... الخ. والنقاش هنا لفهم ما جرى أو محاولة ذلك، لا يقتصر على تبيان خطل الأسباب الموجبة التي يتحدثون عنها، ولا عمّن أعطاهم «الشرعية» والتفويض للدخول المسلّح الى المدينة، وهم لا يستطيعون أن يكونوا خارج الجنوب (بحسب منطقهم) إلا باعتبارهم تنظيماً مسلّحاً يخوض نزاعاً داخلياً لا أكثر! النقاش هنا في الفكر الديني الثوري الذي تحمله «حركات المقاومة» التي ذكرها السيد نصرالله في خطابه الانتصاري بعد واقعة بيروت، وهي حصراً: «حزب الله»، و «حماس»، وجيش المهدي في العراق. وحركات المقاومة الثلاث هذه، وهي الموجودة بعسكرها وجمهورها، في بيروت وغزة والبصرة وبغداد، وجدت من الضروري أن تدخل الى تلك المُدن مُجتاحة وغازية. وإذا كان الاحتلال الأميركي للعراق، يجعل الأمور مختلطة بعض الشيء في حالة مقتدى الصدر وجيشه، فإنه لا احتلال في غزة وبيروت، يبرر القيام بتلك العمليات الجراحية «النظيفة»، التي لا تقتل ولا تضطهد غير الغرباء والعملاء، الذين كانوا يريدون الانقضاض على «المقاومة»، ولا تزال هي حتى الآن على سلاحها منشغلة بالدفاع عن نفسها ضد «عملاء الداخل» وليس ضد إسرائيل!

كنت أرى أن الحركات الراديكالية في الإسلام السياسي السُنّي تطورت مع عقيدة «الحاكمية» وعقيدة «الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة» الى حركات انشقاقية داخل الإسلام نفسه. وعلّة ذلك أن الإسلام التقليدي كانت الشريعة فيه أمراً اعتقادياً وتعبدياً واجتماعياً، في حين ظلت إدارة الشأن العام في يد «الجماعة» والإجماع. ومن هنا جاءت مقولة الماوردي (450 هـ) أن الإمامة (السلطة السياسية) «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا». فالسلطة السياسية لا تملك إزاء الدين غير واجب حراسته «في أعرافه المستقرة»، بينما هي تسوسُ الدنيا وتُديرها. ومن دون تطويل، جاء المودودي، وجاء سيد قطب فغيَّرا في المفاهيم وليس في المسالك والتصرفات وحسب، حين قالا بمرجعية «الشريعة» المعصومة في الدنيا، وليس في الدين فقط. وبذلك ما عادت أمور الشأن العام تُدار بالسياسة والمصلحة، بل بتطبيق الشريعة، التي صارت الشرعية كلها منوطة بها. ولا يفيد كثيراً استمرار القول إن القائم على تطبيق الشريعة في دولة الإسلاميين الموعودة ليس معصوماً، إذ يكتسبُ نوعاً من العصمة نتيجة قيامه على إنفاذ الشريعة المعصومة. ومن هنا، فإن «الحماسيين» في غزة أو أشباههم في بغداد والموصل وباكستان، وإن كانت غالبية الناس معهم، وكانوا مشاركين في إدارة الشأن العام، لا يعتبرون ذلك كافياً في أداء «التكليف»، لأن «دين الله» لا يقوم تطبيقه على رضا الناس واختيارهم. وهكذا فقد اجتمع لديهم أمران: الأمر الذي يفهمه - وقد يسلّم به كثيرٌ من النُخَب في مجتمعاتنا! - والقائل إن الموجودين في السلطة أو في جوارها إنما هم عملاء الأجنبي والفاسدون، وفي الحد الأدنى المتخاذلون والاستسلاميون، والأمر الآخر الذي ينفرد به الإسلاميون الجدد، والقائم على التكليف بفرض الشريعة بحسب فهمهم ورؤيتهم لها. ولذلك فهم مدعوّون - وقبل التحرير أو في موازاته - الى الاستيلاء على المجتمع فضلاً عن السلطة، من أجل التحرير (من الأجنبي ومن قوانين الطاغوت، ومن العملاء) ونشر الشرعية (حكم الله في الأرض). وهذا وعي انشقاقي، ليس تجاه الأنظمة والحكّام وحسب، بل وتجاه الإسلام التقليدي، والمجتمع الغافل أو اللاهي.

والذي أراهُ الآن، وبعد الدخول العسكري لـ «حزب الله» وحلفائه الى بيروت، أنّ «ولاية الفقيه» هي انشقاق داخل التشيُّع الإمامي، يشبه انشقاق الإحيائيين الراديكاليين داخل الإسلام السُنّي. وما برز هذا الانشقاق بالوضوح نفسه في الإسلام الشيعي، لأن «ولاية الفقيه» سادت في الدولة الوطنية الإيرانية، واستطاعت - بسبب الزخم الثوري الهائل في البدايات، وحرب النظام العراقي آنذاك على إيران - القضاء على كل ظواهر التمرد الفقهي والسياسي. ومن اللافت أن ليس هناك اليوم في إيران فقيه مرجعي كبير مع «ولاية الفقيه» التي ينفرد بسلطاتها المرشد الأعلى للثورة والدولة، وإن يكن هناك فقهاء كثيرون لا يزالون مع الجمهورية الإسلامية في وجه خصومها الخارجين على الأقل.

ولكي يكون واضحاً ما أقصده من انشقاقية التيار القائل بـ «ولاية الفقيه»، يكون علينا أن نتأمل المشهد لدى الجمهور الشيعي خارج جمهورية إيران الإسلامية. فالتوتر والانقسام داخل شيعة العراق، لا يُعلَّل بتدخل الدولة الإيرانية في الشأن الشيعي الداخلي وحسب، بل لأن «ولاية الفقيه» الشاملة لا تسمح بالتعدد في المرجعية الدينية، ولا في المرجعية السياسية. فالأمر بين قُم والنجف اليوم ليس تنافساً بسيطاً على النفوذ داخل الجمهور، كما كان يحدث بين الفقهاء المراجع، بل هو صراع من جانب الولي المرشد على الأوحدية داخل العالم الشيعي في الدين والدنيا. ويظهر ذلك أكثر في المجتمعات التي يشكل الشيعة أقليات فيها. إذ انفصل جمهور «ولاية الفقيه»، و «أمة حزب الله» عن الفئات الشيعية التقليدية الأخرى والحديثة. وطبيعي أن ينفصل ذاك الجمهور - بهذا الولاء - عن الفئات والشرائح الاجتماعية والسياسية غير الشيعية.

واستناداً الى ذلك كلِّه لا يكون غريباً ولا كبيراً على «حماس» وعندها الاستيلاء بالانفراد على غزة، وعسف «حزب الله» في بيروت. فالرؤيتان اللتان تحملهما هاتان الحركتان، هما رؤيتان انشقاقيتان داخليتان ضمن الإسلام السنّي وضمن الإسلام الشيعي. وأياً تكن نجاحاتهما ضد العدو الخارجي، فإن الطبيعة الانشقاقية المستترة والظاهرة، ستظل تدفعهما باتجاه الداخل، لأنه هو الأصل الذي يُراد تطبيق «حكم الله» عليه وفيه!

إن ما قامت به «حماس» في غزة والضفة، وما قامت به «طالبان» في أفغانستان، وما قام به «حزب الله» في بيروت ولبنان، كل ذلك يتطلب جرأة لا تكفي فيها القوة العسكرية. فالذي يريد السيطرة وحسب مثل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمّر القذافي، يمكنه الوصول الى ذلك بالانقلاب، وبالأجهزة الأمنية. وتأتي بعد ذلك «الشرعنة» بالأهداف القومية والوطنية التي يريد تحقيقها. أما الذي يريد تغيير المجتمع وأعرافه وتقاليده، وبتكليف ثوري إلهي أو غير إلهي - مثلما فعل أو حاول ماو تسي تونغ في الثورة الثقافية -، فإنه يحتاج الى ما هو أكثر من القوة العسكرية والأجهزة، يحتاج الى «الفتية الذين آمنوا بربهم» (على طريقة سيد قطب)، والى السيطرة المطلقة على الأرواح والعقول قبل الأجساد. وهذا الأمر يحتاج الى أكثر من غزوة، وأكثر من اجتياح.

في مطلع السبعينات، عام 1971 أو 1972، أجريتُ مقابلة لمجلة «الفكر الإسلامي» التي كانت تُصدرها دار الفتوى في لبنان، مع المفكر الجزائري المعروف مالك بن بني. وقد أصرّ الرجل على الحديث عن ثوران بروتستانتي في الإسلام السنّي، وكانت عنده شواهد كثيرة على ذلك، بينما لم يجد شاهداً على البروتستانتية الجديدة في الإسلام الشيعي غير «فدائيان إسلام» بزعامة نواب صفوي، في الماضي القريب، وحزب «الدعوة» في الحاضر آنذاك. وعندما قلت له إن استخدام السلاح في الداخل ليس دليلاً، فلماذا لا يكون هؤلاء الأفراد مثل بادر - ماينهوف أو الجيش الأحمر الياباني مثلاً، أي ظاهرة عابرة وتنقضي؟! أجاب الرجل منزعجاً: بل إن البروتستانتية المسلحة داخل الإسلامَين جديدة تماماً، لأنها تستند الى رؤية مفهومية جديدة، ما عرفها المسلمون من قبل سنَّة وشيعة!

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...