زياد الرحباني في قلب دمشق (1) ..
تلك هي العبارة الأنسب لمقاربة عالم زياد الرحباني الوحيد حدَّ الفرادة في الفن العربي المعاصر.
في عالمنا الغارق في الأكذوبة، المليء بالمتملقين الذين يتفننون في وصف ثياب الملك وإطرائها، جاء زياد الرحباني ورأى الحقيقة بعينيه البريئتين فأعلن عري الملك من الثياب ، وعري حاشيته من الصدق، ولم يتوقف عند هذا الحد كما في الحكاية الشهيرة، بل تابع بصدق جارح كشف عريه وعرينا عبر الموسيقا والأغنية والمسرحية والكلمة المجردة.
قبل حوالي سبعة عشر عاماً كتبت عن زياد:
«ليس سهلاً أن يكون المرء ابن فيروز وعاصي الرحباني، وأن يُقَدَّم على إنه الوريث الشرعي للتجربة الأهم والأكثر تقدماً في مجال الأغنية والمسرح الغنائي المشرقي الحديث . ليس سهلاً، لأن من يقف بجوار تجربة كهذه يغامر بأن تدمجه في سياقها وأن تسحب ظلها العالي عليه ، لكن زياد بالرغم من أنه ولد وترعرع في هذه التجربة ، لم يستسلم لإغراءاتها الكثيرة أبداً. لم يكتف بأنه ابن عاصي الرحباني وفيروز- قارورة العطر، فعمل بدأب يستحق الإعجاب، حتى صنع لنفسه اسماً ولوناً. والآن يعرفه الناس في مشارق الوطن العربي ومغاربه كموسيقي مجدد مجتهد، وككاتب مسرحيات ، وأغانٍ وكعازف بيانو وكممثل».
أهم ما في تجربة زياد هو أنه في جل ما يقوم به يجمع بين الموهبة والجرأة والصدق ، لاشك أن ملح الصدق الذي ينثره عبر فنه الراقي، يكوي جراحنا لكنه يعقمها أيضاً.
خلال الأسبوع الماضي دعت أمانة احتفالية دمشق كعاصمة للثقافة العربية الفنان القدير زياد الرحباني ليحيي أربع أماس صرن خمساً في قلعة دمشق، القلعة الملقبة بـ «المنتصرة » لأنه لم يخرج منها جيش في تاريخها وعاد مهزوماً.
أماسي زياد الرحباني في قلب القلعة المنتصرة ، كانت خمس انتصارات له ولفنه بفنه، كما كانت خمس انتصارات للجمهور السوري الذي أفصح على مدى الليالي الخمس عن قصة حب ذات فرادة لفن زياد.
عندما اقترحت علي أمينة الاحتفالية السيدة الدكتورة حنان قصاب حسن أن أجري هذا الحوار مع زياد الرحباني، لم اسمح لنفسي بأن أتردد، رغم أنني لم أحاور أحداً منذ سنوات، والحقيقة أن هذا الحوار وضعني أمام تحد كبير، فزياد الرحباني يتكلم عن نفسه بضمير الجمع حيناً وضمير المخاطب حيناً آخر،وضمير الغائب في كثير من الأحيان، وهو يتكلم باللهجة اللبنانية الدارجة وغالباً ما يترك عبارته غير مكتملة وقابلة لأكثر من تأويل، وبما أن سياسة جريدتنا لا تسمح بنشر الحوارات بالعامية، فقد كان علي أن أترجم هذا الحوار من لغة زياد الى اللغة العربية الفصحى، ومع انني سبق أن ترجمت نصوصاً عويصة من الإنجليزية، إلا أنني أقر بأن ترجمة هذا الحوار كانت الأصعب!
تعلمون أن كل ترجمة هي مشروع خيانة، إلا أنني أتمنى أن يجنبني الجهد الذي بذلته، هذا المنزلق ، لأن خيانة زياد بالنسبة لي أمر لا يغتفر.
-قرابة منتصف ليل الأحد ونحن نخرج من قلعة دمشق بعد أن سهرنا معك، سمعت شاباً يقول لزميله : «يخرب بيته، شاقق الأرض وطالع » ، قلت له ممازحاً لماذا لا تقول : «شاقق السما ونازل، - يضحك زياد- أتابع متسائلاً :
ہ أيهما أقرب الى قرارة نفسك أن يقال عنك «شاقق الأرض وطالع ام شاقق السما ونازل»؟
ہ ہالأرض أضمن ، مجرَّبة.
- ہ ثمة تشابه بينك وبين التطريب من حيث أن كل منكما يشكل بطريقته قاسماً مشتركاً بين الموسيقا الشرقية وموسيقا الجاز؟ ماذا أعطاك الجاز وماذا أعطيته؟
ہ ہ اسمح لي أن أقول لك إننا قد نكون غلطنا؛ عندما قمنا بمحاولاتنا الأولى، في هذا المجال، أواسط الثمانينيات، كنا تحت تأثيرأنواع مختلفة من الموسيقا. وأردنا أن نقدم «كونسير» ـ أي حفل للموسيقا الخالصة ـ ولم يكن هذا النوع من الحفلات يقام كثيراً في لبنان إلا للموسيقا الكلاسيكية . كنا في حينها نجرب على موسيقا أحببنا أن نستنتج ماهي، فحلَّلنا وعَنْوَنَّاها ، وأحسب أننا قد ارتكبنا خطأ اقرب الى الحماقة عندما سمينا تلك الموسيقا بالجاز الشرقي، لأننا اكتشفنا فيما بعد أنه لايوجد جاز شرقي وجاز غربي وجاز أوزبكستاني وجاز أوروبي. الجاز عادة كلمة تشمل كل هذه الألوان ، فالحرية الموجودة في التعاطي مع التقسيم داخل الجاز تعطيك الحرية لأن تذهب حيثما تشاء ، لذا تبين لنا ان تحديدنا ينطوي على غلطة وتناقض. وقد دمغونا بهذه الكلمة ـ الجاز الشرقي ـ - منذ ذلك الوقت ، وهي لاتعدو كونها تأثرا بنوع من الموسيقا سمعناها باعتبار اننا لانعيش بمفردنا. لهذا عندما بدأنا نشتغل لفيروز، بدأ الجميع يقولون ، العارف منهم وغير العارف، إننا نقدم جازاً. ولم يكفوا عن قول هذا حتى عندما أنجزنا لها أغاني تراثية! عندما أنجزنا أغنية «مش فارقة معاي» ، وهي أغنية تخت شرقي اقرب لدور قديم ، قالوا، رغم ذلك، إنها نوع من الجاز!
صحيح أن تأثير الجاز موجود ، لكننا نعمل على الكلاسيك الذي عمل عليه الرحابنة، كما عملوا عليه، فقد اختصروا الأغنية الشرقية المطولة وأنتجوا أغنية قصيرة أقرب الى الأغنية الخفيفة التي كانت منتشرة في العالم خلال الخمسينيات والستينيات. نحن تأثرنا بهذه التجربة مباشرة وحاولنا ان نكمل التجربة مع تأثر أكثر بالموسيقا اللاتينية وموسيقا الجاز، لكن تأثير الجاز لم يكن كبيراً الى هذا الحد، فالتقسيم لم يستخدم كثيراً في الأعمال التي يسمعها الناس لفيروز، باعتبار أن أكثر من عملنا له بهذا الأسلوب هو فيروز .
عملنا بعض التجارب، لكن تلك التجارب غير معروفة ولا موجودة في الأسواق، ونحن لم نصل فيها الى معطيات ثابتة، ليس هناك اسطوانة أستطيع أن أقول: إنها تحوي ماتوصلنا إليه أو ما زلنا نعمل عليه.
ہ قلت سابقاً إنك تقوم بتهريب الموسيقا الآلية الصرفة في السيديات؟
ہ ہ صحيح. إذا راجعت السيديات، ستجد أن المقطوعة الموسيقية الواحدة لاتمر الا على ظهر عدد من الأغاني. وإذا زادت نسبة المقطوعات الموسيقية في الألبوم، يبدأ المنتج بالتساؤل: ألا توجد أغنية أخرى ؟ بمعنى خلصنا من هذه المقطوعات.
ہ هذا يعني أننا لم نصل بعد الى مستوى الموسيقا الخالصة التي هي الأرقى.
ہ ہ نعم . لو سألت أي موسيقي سيفضل الموسيقا على أية كلمة مهما كانت، لأن الكلمة مهما كانت تبقى محددة.
ہ في أحد برامجك الإذاعية القديمة سخرت من الرومانسية المفرطة لعدد من الفنانين اللبنانيين...
ہ ہ موضوع الوطن الحلم تناولناه في عمل كامل هو « شي فاشل »
ہ في أغاني المرحلة الأولى من تجربتك الإبداعية مع فيروز خلقت مزاجاً مضاداً للرومانسية عندما أدخلت أكل الخس والتين في كلمات الأغنية وبدلاً من وضعية الحبيب ذليلاًً ومهجوراً يشحذ الحب جعلت فيروز تخلع ثوب «الغيم والندي» وتهجر النار التي «تغفى بحضن الموقدي» لتقلب الطاولة في وجه الحبيب قائلة له «مش فارقة معاي» !
ہ ہ فيروز كانت متخصصة بالرومانسية فقط. وهي لم تتغير كثيراً إلا أنها بدأت تنوع .
ہ باعتبار أنك طلعت من تحت ظلال الرحابنة ، أحببت أن تختلف عنهم من خلال إنكار الرومانسي الموجود في داخلك. في ضوء ماسبق، يخيل إلي، من خلال متابعتي لتجربتك، أنه يكمن في داخلك رومانسي مقموع، ما رأيك؟
ہ ہ لاشك .لاشك!
ہ هل يعدنا هذا الرومانسي بشيء للمستقبل؟
ہ ہ ربما ، عندما تبدأ علائم الخرف الأولى (يضحك).
ہ عندما جاءت فيروز الى الشام قلت على شاشة التلفزيون السوري : إن زياد الرحباني أنجب فيروز إبداعياً مرة أخرى، بعد أن أنجبته الى هذا العالم...
ہ ہ (مقاطعاً وهو يضحك ) وما أحد قال لك شيء؟
ہ عن جد، أعتقد أن تجربة فيروز مع كلماتك وموسيقاك ونَفَسَك ، كانت بمنزلة ولادة جديدة لها ولفنها ، ماهي المكونات الرحبانية المستمرة في تجربتك وما الذي طورته من تلك المكونات؟
ہ ہ عندي انطباع أن عاصي الرحباني لو استمر لفترة أطول، كان سيصل الى شيء ليس بعيداً عن الشيء الذي أجرب أن أعمله. وهناك إشارات لذلك في أشياء أنتجها الرحابنة منذ زمن. ففي مرحلة البدايات جربوا أكثر مما فعلوا عندما ثبتوا في المرحلة الأخيرة. ولو عدنا الى الأعمال القديمة جداً للرحابنة، ستجد أنهم قد استعملوا الكثير من «القصص » التي قمنا نحن فيما بعد بإعادتها وأكدنا أنها تحمل تلك السمات. خذ مثلاً أغنية «بقطف لك بس » تجد أنها تحتوي كل عناصر الأغنية الحديثة مثل الـ Syncope - السينكوب، و هو طريقة إيقاعية تقوم على تأخير النبر- وغيره من الأمور التي لم تكن موجودة كثيراً في الأغنية العربية... اشتغل الأخوان رحباني على الرومبا والبوليرو أعداداً كبيرة من الأغاني ، لم يصل الكثير منها الى أجيالنا الحديثة، كما قاموا بترجمة أعداد كبيرة من الأغاني العالمية وأخذوا الإيقاعات التي كانت شائعة في وقتهم وبدؤوا يؤلفون اشياء مشابهة لها. ولو بحثنا عن الأعمال الرحبانية الناجحة التي لاتزال تقدم عندنا وتسمع في الغرب بسهولة، سنجد من بينها أغنية «نحن والقمر جيران» وهذه أغنية كلاسيكية لها مكانها في ذاكرة الكثير من العرب، وهي كأغنية يمكنك أن تضع عليها أي كلام غير عربي وتبقى محافظة على مستواها. هذا الأمر تحقق لدى الرحابنة بفضل كمية الترجمات التي أنجزوها ، وبعدها تابعوا على هذا المنوال فجاءت «بقطف لك بس » و «سأل الحلو» و «دق الهوا عالباب ». وهذا يعني أن الرحابنة حققوا الشيء الذي حاولنا نحن أن نعمله. في عام 2005 قدمنا حفلة في أبو ظبي وضعنا فيها أغنية «بقطف لك بس»للأخوين رحباني وغنينا بعدها أغنية جديدة من شريط «أنا مش كافر » عنوانها « شو عدا مابدا » فمر الأمر بشكل عادي وقد أشار مذيع الحفل إلى أنه يوجد فارق زمني بين المقطوعتين مدته نصف قرن. ما أود قوله هو أن ما أقوم به ليس ابتكاراً مختلفاً عما كان من قبل، وليس بدعة كما يقول الناس الذين يزعمون أنني اخذت التراث الى مكان آخر. هذه الأقوال فيها مبالغة. شكل الفرقة الموسيقية قد يغش أحياناً، لكن الجملة الموسيقية التي أقدمها ليست جديدة تماماً عما قدمه الرحابنة من قبل، وهذا هو رأيي التحليلي الدقيق.
ضمن البرنامج الذي قدمناه في قلعة دمشق مرت أغنية اسمها «يا ليلي » مغنى هذه الأغنية صعب جداً، لأنك تستطيع أن تعزفها دون كل هذه الفرقة، تستطيع أن تقدمها على عود فقط ، لكن الخلفية التي معها في التوزيع يمكن أن توحي لك بشيء آخر وتحجب وجهها الشرقي...
ہ تقصد كثرة آلات النفخ النحاسية الغربية في الفرقة؟
ہ ہ بلى ، كثرة تدخل النفخ وكثرة تدخل «السنكوبات» في الجزء الإيقاعي من المقطوعة، وإذا أوقفت هذا كله وقدمت المقطوعة معزوفة على عود يرافقه صوت، عندها تستطيع أن تتأكد من أنها مغنى شرقي بحت، وهذا المغنى لايستطيع أي كان أن يؤديه بسهولة ! الصبايا اللواتي كن معي ممتازات ، لكن يوجد في منتصف المقطوعة موال مغنى تصدت له رشا رزق وأدته بشيء من الصعوبة، لأنه موال مغنى مربوط.
ہ أنت في بعض أعمالك استخدمت الفرقة الشرقية بشكلها التقليدي القديم. كما في «أنا مش كافر» صحيح أنك غالباً ماكنت تقدم تنويعاتك الجديدة المبتكرة ، لكنك في «هدوء نسبي » مثلاً قدمت شيئاً مختلفاً تماماً، قد يبدو الأمر بالنسبة لك متشابها باعتبار أنك في مركز التجربة ... لكنني كمتلق من خارج التجربة، أراه مختلفاً تماماً، أو هذا مايبدو لي على الأقل.
ہ ہ هذا الكلام ينطبق على مقطوعة «هدوء نسبي» وحدها ولا ينسحب على كل مقطوعات الألبوم ، هذه المقطوعة مبنية على إيقاع يدعى «وحدة كبيرة» ويمكنك استبعادها من الألبوم إن شئت. غير أن هذا لاينطبق على الألبوم بمجمله.
ہ قد يكون الأسلوب واحد لكن شكل التعبير يختلف، كما لو أنك شخص واحد يعبر عن أفكاره ذاتها بلغتين مختلفتين.
ہ ہ تشبيه الأوركسترا باللغة أوافق عليه ، لكن الأفكار هي نفسها في الحالتين.
ہ أحد الزملاء الصحفيين نقل عنك قولك «محبة السوريين مرعبة»ووضعه مانشيت في إحدى الصحف؟
ہ ہ (يجيب بمرح وشيء من تهكم ) عممها رشيد! أذكر أنني قلت له: إنني «مرعوب» هنا تتدخل الإعلامية ضحى شمس لتخبرني أنهم قد صححوا العبارة في الإذاعة ، وأن ماقاله زياد هو : «مرعوب، نحاول أن نبقى مصبَّرين كما الصورة الموضوعة في الملصق، كي لايغير الجمهور رأيه، وقصده من الرعب هنا هو أنه مبسوط». يتابع زياد : الرعب هنا من الاهتمام المعمم على الملصقات والشعارات والأعلام...
- ہ في قلعة دمشق رأيت ليلة الأحد شاباً حليق الرأس يثبت العلم الذي عليه صورة زياد بإطار نظارته وقد صورته بالهاتف المحمول لطرافته. (يضحك زياد لمرأى الصورة ) كما رايت عدة بنات وقد صنعن لأنفسهن تيجاناً من الأعلام التي تحمل صورة زياد .
ہ نرجع للموسيقا ، من الواضح أنك لم تعد متحمساً لمفهوم الجاز الشرقي الذي أطلقته أنت.
ہ ہ حينما أقمنا تلك الحفلة في أواسط الثمانينيات.كتبنا على الملصق إنها جاز شرقي وكنا مصرين على أن ذلك الاسم، جاز شرقي، هو بمنزلة اكتشاف! لكن ذلك الاسم في الحقيقة لم نكن نحتاجه .لأننا كنا مثل أي فريق في أي مكان في العالم يجرب أن «يُقَسِّم» على نغمة موجودة، الفرق يتوقف على هوية ذلك الفريق؛ هذا لبناني ، هذا عراقي ، هذا كولومبي، لكن هذا النوع من الموسيقا وهذه الطريقة في التعاطي مع ميلودي معروفة يؤديها كل واحد بأسلوبه، هذا هو الجاز. وطريق الجاز مفتوح على كل الجهات، يستطيع كل واحد من خلاله أن يصنع ما يريد، هناك أنواع من الجاز التجريبي هي مجرد أصوات «حرتقة»، هناك جاز حر . لذا أقول: إن الجاز أوسع من أن تحده في منطقة ما مثل الشرق .
وقتها لم نكن ندرك معنى العبارة، أقمنا مختبراً ووجدنا أن هذا جاز شرقي، لكن هذا التصنيف أصابنا بالعطب لأننا بتنا بحاجة لأن نشرح للناس بأن هذه الأغنية لا علاقة لها بالجاز البتة. كما قلت إن هناك أغاني صنعناها بشكل تقليدي مئة في المئة نفذتها فرقة من أربع أوخمس آلات تقدم مغنى فقط ، حتى هارموني لا يوجد فيها، مثل ألبوم «أنا مش كافر»، لكن الصحافة استمرت في قولها كلما أنتجنا عملاً أننا لا نصنع إلا الجاز!
ہ خلال السنوات الماضية ظهرت ألبومات موسيقية عديدة ضمن هذا الإطار من أشهرها أعمال ربيع أبو خليل و أنور إبراهيم وغيرهما ، ماذا تسمي هذه الأعمال إذا كنت لا تريد أن تسميها بالجاز الشرقي؟
ہ ہ سأقول لك شيئاً قد لا توافقني عليه، هذه هي الموسيقا التي يريد الغرب أن يصنعها بالنيابة عنا ويصدرها للعالم باسمنا. هذه هي الموسيقا التي يصنعها الصهاينة في العالم بدلاً من العرب. اختصار تراثنا بهذه الطريقة وإعادة تصديره لنا! هذا هو الشيء الذي ليس من السهل علينا أن نقوم به مع الشركات العالمية لتقوم بتسويقه. إنهم يفضلون أن نبقى نحن نقوم بموسيقانا بشكل تراثي مئة في المئة، وأن نبقى نعيش التراث، وأن تبقى صورتنا فيها صحراء وخيمة وجمل ، وأن نبقى كذلك، أما الشيء القابل للتطور فيفضلون هم أن يعملوه وأن يسوقوه للعالم كله ولنا من ضمن العالم.
ہ من الواضح أنك تنظر بعدم ارتياح إلى هذه التجارب؟
ہ ہ نعم لأن هناك قلة قليلة من الفنانين الذين استطاعوا خرق هذا الطوق المضروب حولنا في العالم. فإذا ما قدمت موسيقا شرقية جيدة مطورة بالمحلي دون أن تخرج منه، أي لها جذور ، سيقولون لك إنها موسيقا ممتازة لكنهم لن ينتجوها لأسباب غير مفهومة. هناك أشخاص أمضوا عمراً في الخارج أنتجوا بأنفسهم أعمالاً موسيقية لحساب شركات صغيرة لكنهم عجزوا عن الوصول إلى شركات الإنتاج والتوزيع الكبرى... هذه الشركات التي تقوم بتسخيف الموسيقا الشرقية.الموسيقا الشرقية ليست بسيطة، وليست محصورة بالزنة واليونيسون التي يعملها «أنور إبراهيم في مقطوعاته. الآن من الدارج في الإيقاعات الإلكترونية الحديثة «التيكنو» أن تسمع شخصاً يقول شيئاً كأنه بدائي، ربما باكستاني أو أفغاني وهذا الصوت يمثل شعوب العالم الثالث. قبل سنوات كانت هذه الظاهرة تتجلى على شكل آذان يرفع من بعيد أما الآن فقد بدؤوا بفعل هذا الأمر على نطاق أوسع بعد أن احتلوا أفغانستان والعراق.
ہ تجربة ظافر يوسف الذي عزف قبلك ببضعة اسابيع في قلعة دمشق ، من هذا النوع...
ہ ہ هناك كثيرون من هذا النوع، قبل عامين أو ثلاثة جاء الى مهرجان بيت الدين عازف ناي تركي ...محتال دولي .
ہ تقصد أنه يقدم صورة كوزموبوليتانية للشرق بغرض تسويقها في الغرب؟
ہ ہ بالضبط. أنا أسميه فن «التُّرَازمْ» وهذا المصطلح مزيج من كلمة التراث العربية وكلمة Tourisme الفرنسية لأنه يخلط التراث بالسياحة. تدخل إلى فندق فتجد بطاقات سياحية قرب الباب ، وأنا أعتقد أن هذا النوع من الاسطوانات الموسيقية يجب أن يباع عند أبواب الفنادق.
إذا ذهبت إلى أوروبا وبحثت في محلات الموسيقا الكبرى عن أسطوانات فيروز ووديع الصافي ، وكلاهما صاحب اسم كبير في لبنان، فلن تجدهما إلا في قسم الإثنيك ـ موسيقا الشعوب ـ ولن تجد آخر إنتاج لهما أيضاً. وإذا خرجت من باريس فلن تجد أي تسجيل لهما، بالرغم من أن أنهما كلاها يتعاملان مع شركة أوروبية شهيرة . نحن لم نخرج من هذا الإطار بعد ، حتى عندما يتعلق الأمر بأسماء مثل فيروز التي يجب أن تكون قد وصلت للغرب إذا كان أحد منا قد وصل، لن تجد أعمال فيروز، لكنك ستجد أعمال ربيع أبو خليل وأنور إبراهيم بسهولة أكبر ، وبالمصادفة أنور إبراهيم يهودي.
ہ غياب جوزيف صقر كان حاضراً في حفل قلعة دمشق، إلى أين وصل بحثك عن بديل يحاول تعبئة الفراغ الذي خلفه رحيل هذا الفنان القدير؟
ہ ہ أكيد كان غياب جوزيف صقر حاضراً بقوة ، وقد كان من الممكن للفراغ أن يكون أكبر لو لم يقم الناس بخلق هذا الجو . لا، لم تكن هناك طريقة لتعبئة الفراغ. بحثنا عن أحد قادر ، لا على أن يؤدي مثل جوزيف ، لأنه في الحياة لا أحد يشبه الآخر ، بل لأن يخلق جواً معيناً، لكننا لم نجد. وأنا لم أبدأ البحث قبل هذه الرحلة ، بل بدأته عقب وفاة جوزيف مباشرة. وهذه مشكلة لهذا النوع من الغناء، لهذا جربت أن أشارك في الغناء مع آخرين رغم أنني لا أقدر أن أصيب النوتات بسهولة.
ہ الزميل وسيم إبراهيم من الحياة وصف لحظة لقاء الجمهور السوري بك : « صار التصفيق عاصفة، لكن المفاجئ أيضاً ان الصمت المطبق ما لبث ان حل بمجرد صدور أولى نغمات العازفين. الجمهور كان مبتهجاً وملتاعاً، ولكن في الوقت ذاته متشوقاً للسماع». وأنت قلت خلال سهرة يوم الأحد في قلعة دمشق: إن الجمهور حافظ كل شي، وطلبت من الجمهور في حال اجتماعه ان يعلمك أنت والفرقة الموسيقية بذلك وعندها ستدبر لكم الأمانة العامة بطاقات دخول! عقب وصولك قلت إن حب السوريين يخوف ، كيف بدا لك ذلك الحب بعد أن تكرر اللقاء مراراً.
ہ ہ الشيء الذي تأكدت منه هو أن الأمر كان يحتاج لاستعداد أكبر ، لكن هذا الأمر ما كان لنا أن نعرفه دون أن يتم مثل هذا اللقاء مع الجمهور، سألت جماعة الاحتفالية عن الأشياء المناسبة وغير المناسبة، وأطلعتهم على مخاوفي، صحيح أنهم كانوا يطمئنونني طوال الوقت، لكنني رغم ذلك لم أطمئن تماماً وقد سحبت من البرنامج أشياء ندمت لأنني سحبتها عندما رأيت أن هذا الجمهور يعرف الموسيقا إلى هذا الحد. صدقني أن أغنية «صباح ومسا» لا أحد يعرفها من مطلعها ، حتى في لبنان، فهي تبدأ بمقدمة غير قابلة للحفظ ، مقدمة تبوب للازمة ، وحتى اللازمة من غير السهل حفظها ، لكنهم رغم ذلك ، عرفوها من أول موسيقاها.
حسن م يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد