صور من الخطاب الديني في مصر
كثير من الخطابات تم اختصارها وتنحيتها لحساب الخطاب الدينى، المصريون اصبحوا يطلبون الفتوى فى السياسة، والاقتصاد، والطب، إلخ، والخلاصة أن الخطاب الدينى أصبح يحتل مساحات كبيرة فى حياة المصريين، هذا التمدد فى مساحات الخطاب الدينى بأشكاله المتعددة هو الذى دفع عالم الاجتماع المعروف د.أحمد زايد لمحاولة تحليل الخطاب الدينى فى مصر فى دراسته (صور من الخطاب الدينى فى مصر) والتى صدرت مؤخرا عن دار نشر العين.
الكل اذا كان الحديث عن الخطاب الدينى فأى خطاب دينى نقصد؟ هل هو الخطاب الدينى الإسلامى أم المسيحى؟ وإذا كان الحديث عن الخطاب الدينى الإسلامى فهل هو خطاب الأزهر؟ أم خطاب الدعاة الجدد؟ هل هو خطاب كاتب مثل فهمى هويدى أم خطاب عالم وسياسى مثل يوسف القرضاوى؟ وإذا كان الحديث عن الخطاب الدينى المسيحى فهل هو خطاب الكنيسة أم خطاب أقباط المهجر أم خطاب جريدة وطنى؟ الحقيقة التى تطرحها الدراسة هى أنه لايوجد خطاب دينى واحد ولكن خطابات متعددة تتعرض لموضوعات مختلفة. لذلك أخذت الدراسة على عاتقها تحليل ودراسة عينات مختلفة من هذه الخطابات التى تم تعريفها بأنها (مجموعة النصوص المكتوبة والمسموعة التى تصدر عن مؤسسات دينية أو عن أفراد يمثلون هذه المؤسسات أو يتخذون موقفا ذا صبغة دينية، وتظهر هذه النصوص فى شكل كتب أو خطب أو مقالات صحفية أو نشرات)، وهكذا نجد أن الدراسة التى حملت اسم صور من الخطاب الدينى فى مصر قد تعرضت بالتحليل لكل من خطاب الأزهر، وخطب عمرو خالد، ومقالات فهمى هويدى، وبرامج يوسف القرضاوى على مستوى الخطاب الإسلامى، أما على مستوى الخطاب الدينى المسيحى فقد تعرضت الدراسة بالتحليل لمجموعة من عظات البابا شنودة، ومؤلفات الأنبا موسى أسقف الشباب، كما تعرضت كذلك لمجموعة من مقالات يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطنى كمضارع لمقالات الأستاذ فهمى هويدى على الجانب الإسلامى.
- اعتمدت الدراسة على تحليل افتتاحيات مجلة الأزهر الناطقة بلسان الأزهر الشريف على مدى ثلاثين عددا مختلفا، لكى تصل لملامح واضحة للخطاب الأزهرى الذى وصفته بأنه يركز فى معظمه على الوعظ والإرشاد، وتوضيح صحيح الدين، فى مقابل الأفكار التى يعتبرها مغلوطة أو مستوردة، ويكشف عن الأسس التى يجب أن تقوم عليها الدعوة الصحيحة، ويؤكد فى كل الأحوال على رسالة الأزهر ورساله مجلة الأزهر، حيث تظهر هذه الخصائص فى الموضوعات ذات الطبيعة الدينية الخالصة، أما عندما ينتقل الأزهر لمعالجة الموضوعات ذات الطبيعة الثقافية أو الاجتماعية فإن خطاب الأزهر يصبح أكثر حدة ويتخلى عن النصح والإرشاد والوعظ ليدخل فى النقد اللاذع، بل وتوجيه الاتهامات أحيانا، وعلى سبيل المثال ترصد الدراسة عددا من المقالات الناقدة لتأثر المسلمين بالغرب، حيث يتم انتقاد الدراسات الإنسانية والاجتماعية، ويتهم كاتب المقال القائمين عليها بقصور معلوماتهم الإسلامية، كما يتهمهم بالتأثر بآراء علماء الغرب، ويرى الكاتب أن النص الذى تولى تحليله يضع على عاتقه توسيع حدة الشقاق بين العلوم الدنيوية وبين الدين ذاته، وأنه بذلك يغلق أفق الحوار ويؤسس لخطاب آخر ازدهر لفترة تحت مسمى (أسلمة العلوم) وهو خطاب شاع فى الربع الأخير من القرن العشرين بتأثير عوامل سياسية اقتصادية تتصل بالتحولات الإقليمية والجيوبوليتيكية (يقصد النفطية) فى المنطقة العربية. وفى مقال آخر ترصد الدراسة هجوم كاتب افتتاحية الأزهر على المثقفين الذين لاعمل لهم فى الحياة غير الإشادة بالإلحاد الدينى! والدفاع عن السقوط الخلقى وصياغة الانحدار الأخلاقى والكفر الصريح بدعوى حرية الفكر! ويلاحظ الكاتب من تحليله للمقال أن كاتب النص لايعرف ماذا تعنى الثقافة الحقيقية ولكنه يشير بشكل ضمنى إلى أنها الثقافة الأقرب إلى الثقافة الإسلامية، وبالإضافة إلى الهجوم على المثقفين تشغل مقالات أخرى نفسها بالهجوم على الغرب ذى الحضارة العنيفة والوحشية منذ عصر الإغريق وحتى الآن!
وترصد الدراسة نقد الخطاب الأزهرى لعدد من الموضوعات الاجتماعية مثل نظم التعليم، وإهدار الوقت والثرثرة بين الناس، والنفاق والعادات الاجتماعية السيئة، حيث يتخذ هذا الخطاب من الأساس الدينى والأخلاقى معيارا لقياس الأشياء والحكم عليها، ففشل نظام التعليم ناتج عن عدم التزامه بالأسس الإسلامية! وميل بعض الشباب للانحراف سببه ابتعادهم عن القيم الدينية.
وترصد الدراسة أيضا أن الخطاب الدينى الصادر عن مجلة الأزهر يتخذ اتجاها محافظا فهو لايقدم تنازلات ولا يحاول أن يتقبل أمورا أصبحت راسخة فى المجتمع كعمل المرأة حيث يرى أن للمرأة وظائف اجتماعية خاصة كالطب والتربية والتعليم والحضانة. وبشكل عام يرى المؤلف أن الخطاب الصادر عن الأزهر يقسم البشر إلى صنفين عقلاء وجهلاء ورجال ونساء وغرب وشرق مع احتمال وجود ربط بين العقل والرجل والعالم الإسلامى (فى مقابل الغرب) وبين الجهل والمرأة والعالم الغربى! وإذا كان الخطاب الأزهرى يتسم بصبغة محلية رغم الطبيعة العالمية المفترضه للأزهر فإن هناك نوعا آخر من الخطاب وصفته الدراسة بأنه الخطاب الإسلامى المعولم أو العابر لأقطار العالم الإسلامى عبر الفضائيات أو عبر الكتب وقد اعتبرت الدراسة أن الشيخ يوسف القرضاوى يعبر عن هذا الخطاب حيث يظهر على شاشة قناة الجزيرة بشكل أسبوعى منذ ثمانى سنوات، بالإضافة لانتشار كتاباته وعلاقاته على امتداد العالم الإسلامى كله، هذا الخطاب وصفته الدراسة بأنه يتفاعل تفاعلا كبيرا مع قضايا الساعة الساخنة، كما أنه لايكتفى بالنظر فى أمور الدين، ولكنه يوجه معظم اهتمامه لشئون الدنيا وهو يشغل نفسه بثلاثة محاور رئيسية أولها هو الإجابة عن سؤال: لماذا تأخر المسلمون؟ وثانيها هو العلاقة بالغرب حيث يرى أن العلاقة بالغرب شكلت أحد أسباب تأخر المسلمين، وأن ثقافة الغرب وحضارته تختلف عن ثقافة وحضارة المسلمين، كما يلفت النظر وجود اختلاف فى خطاب الشيخ تجاه الغرب بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث زادت دعوته للتسامح تجاه الغرب وأصحاب الديانات الأخرى كما زاد انتقاده للدعاة والخطباء الذين يدعون على اليهود والنصارى وأصحاب الديانات الأخرى، وتلاحظ الدراسة أن القرضاوى حاول أن يقدم خطابا عصريا مجاريا لتطورات السياسة العالمية حيث استخدم مصطلحات مثل الخطاب الإسلامى رغم أن المصطلح غربى النشأة ودعا لإصلاح الخطاب الإسلامى فى عصر العولمة، وتلاحظ الدراسة أن القرضاوى يطرح قضايا يزداد ترديدها يوما بعد يوم مثل قضايا المرأة وقضايا البيئة وقضية المواطنة!
وتنتقل الدراسة لتحليل خطاب الكاتب فهمى هويدى كنموذج لما أطلق عليه الخطاب الإسلامى ذو الطابع الثقافى الفكرى حيث إن صاحبه ليس رجل دين وإنما كاتب يتخذ من الإسلام قاعدة للانطلاق الفكرى، ومن خلال تحليل 51 مقالا نشرت لفهمى هويدى فى جريدة الأهرام خلال الفترة من 2000 وحتى 2003 خلصت الدراسة إلى أن خطاب فهمى هويدى يتجه وجهة نقدية اجتماعية خالصة حيث لايؤسس خطاب فهمى هويدى لمشروع كما هو الحال فى خطاب الشيخ القرضاوى، ولكنه خطاب ممتعض، قانط يتلبس برؤية نقدية وهو يوجه سهام النقد اللاذع ويستشهد بالأدلة والبراهين التى تؤيد وجهة نظره ليدلل للقارئ فى النهاية على أن هناك شيئا خطأ يجب التنبيه إليه، ولافتا النظر فى بعض الأحيان إلى ما يجب أن تكون عليه الأمور، هكذا يخرج هذا الخطاب عن الذات المثقفة التى تفترض فى نفسها إنصافا واستقلالا، ولذلك فإننا نرى ذات الكاتب حاضرة دائما فى هذا الخطاب فهى ذات أمينة ناصحة لها تجارب وخبرات وأفكار يفترض أنها تصب فى النهاية فى هذا النقد الذى يخرج ممزوجا بالرؤية الذاتية، وترى الدراسة أن الخطاب الذى يقدمه فهمى هويدى مسكون بثلاثة هواجس هى هاجس الاستقلال الثقافى وهاجس الذاتية حيث يختلط خطاب الكاتب بذاته الممتعضة، وهاجس العقيدة على اعتبار أن الكاتب يتخذ من الإسلام قاعدة للانطلاق. وكما ترصد الدراسة فإن النقد الذى يقدمه فهمى هويدى ليس له موطن ولكنه يسرى على الأمة الإسلامية فى عمومها رغم أن لمصر نصيبا كبيرا منه، أما من حيث الموضوعات الأهم التى تشغل خطاب فهمى هويدى فهى ثلاثة موضوعات أولها هو القضية الفلسطينية التى يعتبرها الكاتب قضية أولى، رغم أنه قد يتطرق لقضايا أخرى مثل العراق، وأفغانستان، إلا أنه دائم العزف على وتر القضية الفلسطينية حيث يربط دائما بينها وبين مشاكل المسلمين وما أصابهم من تدهور وإخفاق، ولعل تدهور المسلمين هو الهاجس الثانى الذى يسيطر على خطاب هويدى، فى حين يأتى الحديث عن الأحوال العربية والمصرية فى المرتبة الثالثة من مراتب الأهمية، ويرى د.أحمد زايد أن فهمى هويدى خلال معالجته لهذه القضايا يقف موقف الذات المثقفة التى ترغب فى الكشف عن خبرتها وعن قدرتها على تقديم النصح والمشورة وهو ما يعنى من وجهة نظر المؤلف أن هذا الخطاب يصدر من ذات قلقة أو ينقل ذاتا ممتعضة تحيل الأخطاء إلى غيرها، وتفترض آخر هو الذى يتحمل هذه الأخطاء، والآخر هنا ليس هو الغرب فقط ولكن العرب والمسلمون الذين تأثروا بهذا الغرب وتماهوا معه. وبحسب ملاحظة المؤلف فإن ذات هويدى الناقدة هنا تبدو ذاتا متعالية على الجميع، فهى ليست ناقدة للآخر الغربى فقط، ولكنها ناقدة للآخر الداخلى بنفس الدرجة بل إن الذات هنا تضع سدا منيعا بينها وبين بنى جلدتها لكى تصبح ذاتا مستقلة، متميزة، لايلوثها ما يلوث الآخرين الذين تمتد إليهم سهام النقد.
- كان من حسنات الدراسة العلمية أنها حاولت متابعة آخر المستجدات على ساحة الخطاب الدينى متمثلة فى خطاب الدعاة الجدد من خلال تحليل مضمون بعض حلقات برامج الداعية عمرو خالد الموجودة على شبكة الإنترنت، وإن كانت الملاحظة أن تحليلا مماثلا لم يحدث على الجانب القبطى رغم وجود عدد من الوعاظ الأقباط من خارج المؤسسة الدينية القبطية والذين يتشابهون فى بعض النواحى مع الدعاة الجدد، أما على المستوى الإسلامى فترصد الدراسة حالة الاندماج التى تمت بين الخطاب الإسلامى وبين منظومة الاتصال الجماهيرى، والاستهلاك الجماهيرى، حيث أصبحت عملية إنتاجه ترتبط ارتباطا شديدا بعملية الإنتاج الاقتصادى للمصنفات الإعلامية. وترى الدراسة أن خطاب داعية مثل عمرو خالد يمتزج امتزاجا كبيرا بثقافة الاستهلاك بما تفرضه من ترويج للصور والرموز، بما تؤطر له من نماذج البطولة والمثل العليا حيث يتحول الداعية إلى نجم إعلامى تتوازى طلته مع طلة النجوم الآخرين القادمين من عوالم أخرى غير العالم الدينى حيث تتداخل الحقول وتنصهر الأدوار ويصبح كل شىء قابلا للتحول إلى كل شئ، ويرتبط هذا بشدة بالثقافة الاستهلاكية القادرة على تحويل كل شىء، حيث تسربت أدوات الثقافة السياسية إلى كل حقول الحياة، وأذابت الفوارق بينها وجعلتها تتداخل على نحو يجعلنا نرى رجل السياسة وكأنه داعية دينى ونرى الداعية الدينى وكأنه رجل سياسة! وفى الحالتين تستخدم أدوات العرض والمؤثرات الصوتية، والأضواء، بحيث يطل علينا العالم على نحو مختلف عن عالمنا المعاش، حيث يطل علينا هذا العالم ممسرحا، يحمل إشارات ودلالات تتفاعل مع العالم المعاش وتوجهه.
وبسبب ارتباط خطاب عمرو خالد بالثقافة الاستهلاكية فإنه يكيف نفسه مع كل مستجد ومستحدث ويقدم نفسه بشكل متغير وجديد،كما يتحدث بشكل عملى وبرجماتى، وهنا نجد أن هذا الخطاب لا ينطلق من رؤية عامة أو من استراتيجية عامة بقدر ما يتناول موضوعات تحاول إقناع المستمعين أنه لا تعارض بتاتا بين الدين والحياة المعاصرة، وأننا نستطيع أن نلبس الحياة المعاصرة رداء دينيا خالصا، وترى الدراسة أن الخصيصة الأساسية التى ترتبط بخطاب الدعاة الجدد هى أنه ينتج أساسا من خلال التليفزيون الذى يعتبر وسيلة متوافقة مع طبيعة هذا الخطاب وأهدافه من حيث كونه خطابا سريعا يقدم فى شكل جرعات منتظمة درست بعناية لكى يكون لوقعها على القلوب وقع السحر خاصة أنها تقدم عبر تقنيات الاتصال الحديث التى تحول الواقع إلى صور وخيالات وتضفى عليه ضروبا مختلفة من التجميل والتبهيج. هذه البرامج بمجرد تقديمها يتم تحويلها إلى كتب وعلى شرائط واسطوانات مدمجة وتوضع على شبكة الإنترنت فيتسع جوهرها ويضفى عليه مزيدا من الهيبة والاحترام. أما إذا جئنا لمضمون خطاب عمرو خالد نفسه فسنجد أنه يتخذ طابعا تحفيزيا خالصا، حيث يسخط على الواقع الحاضر سخطا جما، ويلفت النظر إلى عظمة الماضى وذلك من أجل تأكيد أن النهضة ممكنة فى المستقبل ولكن هذه النهضة لن تتحقق إلا إذا غرسنا فى أنفسنا منظومة من القيم، فى حين يسيطر الغرب على هذا الخطاب تماما، إما من خلال عقد المقارنات بين أحوالنا وأحوال الغرب أو من أجل طرح فكرة الاستقلال عنه، وبشكل عام فإن الخطاب الذى يقدمه عمرو خالد يرتكز على ثلاثة أزمنة أولها هو الحاضر الذى يشن عليه عمرو خالد حربا شعواء، وغالبا ما يقترن نقد الواقع بالمقارنة بالغرب الذى يتعامل معه عمرو خالد بانبهار شديد حيث إن الغرب فى خطابه ليس مصدرا للشر ولا للسيطرة، ولا للهيمنة ولكنه نموذج لكل شىء جميل!
وبالإضافة للواقع المتردى مقارنة بالغرب يقارن عمرو خالد بين هذا الواقع السيىء وبين الماضى المزدهر، حيث إن الحديث عن الواقع المتردى فقط يمكن أن يقود لليأس والقنوط لذلك يستدرك عمرو خالد بالحديث عن عظمة الماضى وامكانية العمل فى المستقبل ليبعث الأمل مرة أخرى فى نفوس مستمعيه. أما الحديث عن المستقبل فهو أكثر الأجزاء فنية حيث يستخدم فيه الداعية قدرته على (المسرحة) حيث يدفع مستمعيه إلى الحلم بمستقبل زاهر ويصور لهم أحلاما فعلية تبدو على أنها واقع يمكن تحقيقه فى حين أنها ليست كذلك، أحلام عمرو خالد تبدو أيضا وكأنها أحلام قريبة المنال يمكن تحقيقها بسهولة، وهو ما يفسر الانجذاب الكبير للاستماع له، حيث يبين للشباب أحلاما جاهزة تضاف إلى أحلامهم أو تلغيها فتتحقق السعادة المرجوة وتبدو الآمال وكأنها قريبة وهكذا فإنه بعد عرض الواقع المزرى الذى يعيشه المسلمون يتم طرح مجموعة من الأحلام تعيد الأمل والفرحة إلى النفوس فتختتم المسرحية ويخرج الجمهور بعدها مستريحا! وهكذا ورغم الاختلافات البينية بين أنواع الخطاب الإسلامى المختلفة التى استعرضتها الدراسة سنجد أن ثمة مشتركات بينها يعرضها المؤلف تحت عنوان «آليات الخطاب الإسلامى» أو الطريقة التى يؤدى بها هذا الخطاب عمله، ولعل أولى هذه الآليات هى المقارنة الدائمة بين الواقع والمثال مع حضور واضح للغرب، إما كسبب فى تخلف المسلمين وأزمتهم كما فى خطاب الأزهر وفهمى هويدى والقرضاوى أحيانا أو كنموذج يصل الإعجاب به إلى حد الافتتان كما فى نموذج عمرو خالد، وبالإضافة إلى هذا سنجد أن هناك نوعا من الركون للنصوص المقدسة مثل الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، ويزيد هذا فى خطاب الأزهر والشيخ القرضاوى باعتباره ابنا للمؤسسة الأزهرية، ويقل فى خطاب فهمى هويدى باعتباره خطابا ثقافيا، وكذلك فى خطاب الدعاة الجدد، أما النقد فهو صفة تظهر أكثر فى خطاب فهمى هويدى والدعاة الجدد، أما التمسرح أو الاستعانة بآليات فن المسرح فهى صفة تغلب على خطاب عمرو خالد كنتيجة للتداخل بين خطابه وبين ثقافة الاستهلاك الجماهيرى، حيث يستخدم آليات خطاب مختلفة مباشرة وهو غير مباشرة، ناصحة أحيانا ومحذرة فى أحيان أخرى، وهو فى كل الأحوال ينقل المستمع من النقيض للنقيض، وكأنه عمل درامى يلعب بمشاعر المتلقى ويدفعه لقناعات معينة. وإذا كان هذا باختصار لايغنى عن قراءة الكتاب هو حال الخطاب الدينى الإسلامى فإن الخطاب القبطى المعاصر فى مصر لايختلف تشويقا وإثارة مع ملاحظة أن الدراسة اكتفت بدراسة الخطاب الصادر عن الكنيسة الأرثوذكسية الأم دون التعرض لخطابات الكنائس الأقل عددا، حيث قام المؤلف بتحليل المقالات الافتتاحية التى يكتبها البابا شنودة لمجلة الكرازة المرقسية خلال الفترة من 2000 إلى 2004، بالإضافة لمجموعة من مؤلفات الأنبا موسى أسقف الشباب فى موضوعات اجتماعية، أما بالنسبة للخطاب الثقافى القبطى فقد قام بتحليل مجموعة من مقالات الكاتب يوسف سيدهم رئيس تحرير جريدة وطنى وثيقة الصلة بالكنيسة، وترى الدراسة أن خطاب البابا شنودة يعكس نوعا من الميل نحو الروحانية والمثالية، أو يهرب من الواقع إلى عالم المثل، كما أنه يميل إلى عدم التركيز على السلبيات ولايميل إلى نقد الذات أو نقد الآخر، وفى مقابل ذلك يميل إلى أن يصبح أقرب لعظات تتناثر من عالم فوقى. ومن الناحية الإحصائية فقد جاءت قضايا العقيدة فى المرتبة الأولى حيث احتلت 35% من الموضوعات تقريبا، بينما احتل الحديث عن القيم الأخلاقية المرتبة الثانية بنسبة 32%، وجاءت طقوس العبادة فى المرتبة الثالثة بنسبة 17% تقريبا، واحتلت الموضوعات الاجتماعية المرتبة الأخيرة فى قائمة اهتمامات البابا بنسبة 14%، وهو ترتيب يتسق من وجهة نظر الدراسة مع سعى البابا نحو عالم المثل، لكن هذا ليس كل شىء، فهناك نخبوية واضحة فى خطاب البابا الذى يرى أن الكون يتدرج على نحو دقيق ويقف على قمه التدرج أولئك البشر الذين يملكون أعلى درجة من الروحانية أو رجال الكنيسة الذين يعتبرهم البابا الصفوة المنتقاة، وبعد سياحة واسعة فى عظات البابا تحدد الدراسة مجموعة من الصفات تكشف كلها عن سيطرة النزعة المحافظة على خطاب البابا الذى يتسم أيضا بالابتعاد كلية عن مناقشة الأمور الاقتصادية والسياسية، فضلا عن رد كل المشكلات إلى نفوس الأفراد الذين إذا صلحوا صلح الدين، مع ميل إلى ربط الحاضر بالماضى عن طريق تقديم نماذج من حياة الأنبياء والقديسين، وتتساءل الدراسة عن هدف البابا من الابتعاد عن قضايا السياسة والاقتصاد فى عظاته؟ وهل الهدف من هذا هو الالتزام بالفضيلة المسيحية التى تفضل ترك السياسة لصانعيها أم أن الهدف هو الابتعاد عن عالم السياسة ومشكلاتها وتفترض أن الابتعاد عن السياسة له أهداف سياسية فى المقام الأول بمعنى أن ابتعاد البابا عن السياسة هو فى حد ذاته فعل سياسى! لكن ابتعاد البابا فى عظاته عن السياسة لايعنى خلو الخطاب الدينى القبطى منها، وهو ما يكشف عنه تحليل مقالات رئيس تحرير صحيفة وطنى، حيث تعبر هذه المقالات عن الخطاب الثقافى القبطى الذى يطرح المشكلات السياسيه بعيدا وقريبا أيضا من الكنيسة، ومن بين 52 مقالا تم تحليلها ترصد الدراسة أن 52% من المقالات طرحت مشكلات قبطية صريحة مثل بناء الكنائس والمقابر والتحيز ضد الأقباط وعدم العدالة فى الفرص الإعلامية، فى حين أن 34% من المقالات عالجت مشكلات محلية خاصة بالمجتمع المصرى عموما، فى حين تحدثت 13% من المقالات. وبشكل عام تحتل قضايا وهموم الأقباط المرتبة الأولى فى خطاب يوسف سيدهم الذى عادة ما يمزج بين آراء المواطنين المتضررين الذين يعبر عنهم وبين رأيه الخاص، بحيث يحول الآراء التى يبرزها النص إلى آراء عامة وليست آراء خاصة، وهو ما يخلق حاله من التوحد بين ذات الكاتب أو الذات المثقفة وبين أبناء نفس الدين،
ترصد الدراسة أيضا أن كتابات يوسف سيدهم تدور فى دائرتين أولاهما هى دائرة الوطن وثانيتهما هى دائرة الغرب أو العالم الخارجى، وبالنسبة لدائرة الوطن تسيطر على الكتابات موجة النقد والاستنكار، أما بالنسبة للغرب فيبدو فى كتابات سيدهم وكأنه الملاذ، حيث تكشف الكتابات عن إعجاب مفرط بالغرب كديمقراطية، وعادات، وأسلوب حياة. أما إذا جئنا للخطاب القبطى بشكل عام وللآليات التى تحكمه فسنجد أنها تتراوح بين التفاؤل والامتعاض، أما التفاؤل فهو بالطبع فى خطاب البابا الذى يعتبره قرينا للإيمان، أما الامتعاض فيشيع فى خطاب يوسف سيدهم، وتربط الدراسة بذكاء بين امتعاض فهمى هويدى وامتعاض يوسف سيدهم وترى الامتعاض هنا مرتبطا بانتماء الكاتبين للطبقة الوسطى بصرف النظر عن الانتماء الدينى.. هذه الطبقة التى فقدت دورها أو فقدت الرابط بينها وبين الدولة الوطنية التى انشأتها فانصرفت إلى شئونها الخاصة وطورت هذا النمط من الثقافة الممتعضة التى تنقد كل شئ، ولاتفتأ تقارن بين نماذج وخبرات بروح بطولية ونخبوية.
الدراسة التى تحمل اسم «صور من الخطاب الدينى فى مصر» لايمكن تلخيصها وتكتسب أهميتها من أنها تدرس الخطاب الدينى بنظرة اجتماعية حيث تحول الدين إلى أحد مكونات الحياة اليومية فى مصر وفى العالم أيضا، وربما تكمن أهميتها فى أنها تفتح الباب لدراسات أخرى عن تطوير الخطاب الدينى أو تخليصه من عيوبه.
وائل لطفي
المصدر: روز اليوسف
إضافة تعليق جديد