النظريات التفسيرية للسياسة التركية الجديدة تجاه سورية والشرق الأوسط
الجمل: تطرقت وجهات نظر العديد من المراقبين وخبراء الشؤون الشرق أوسطية بشيء من الدهشة إزاء مدى مصداقية المواقف وردود الأفعال الرسمية التركية إزاء التطورات السياسية الجارية في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص إزاء سوريا وليبيا: فما هي طبيعة المواقف وردود الأفعال التركية وما هي محفزاتها الدافعة، وهل تعبر هذه المواقف وردود الأفعال عن تحول جديد في إدراك نخبة حزب العدالة والتنمية المسيطرة على أنقرا بما يعزز من احتمالات حدوث انعطافة جديدة في توجهات السياسة الخارجية التركية؟
* تركيا والتطورات الشرق أوسطية الأخيرة: توصيف المعلومات الجارية
سعت أنقرا هذه المرة إلى اتباع أسلوب مختلف عما كان في الماضي إزاء التطورات والأحداث والوقائع التي جرت مؤخراً في المنطقة العربية، وفي هذا الخصوص نشير إلى الآتي:
• عند اندلاع أزمة الاحتجاجات السياسية التونسية برزت تصريحات تركية رسمية تطالب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي بالامتناع عن استخدام العنف ضد المحتجين، وبضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين.
• عند اندلاع أزمة الاحتجاجات السياسية المصرية برزت تصريحات تركية رسمية تطالب الرئيس المصري السابق حسني مبارك بالامتناع عن استخدام العنف ضد المحتجين، وبضرورة الاستجابة لمطالب المتظاهرين.
أما بالنسبة للأحداث ووقائع الاحتجاجات السياسية التي جرت في العراق والسعودية والبحرين وسلطنة عمان والمغرب والجزائر والسودان وإيران، فلم تحرك أنقرا ساكناً، باستثناء القليل من التعليقات المقتضبة إزاء الأزمة اليمنية، ولكن، لاحقاً، وبرغم اختلاف طبيعة ما حدث في سوريا، وما يحدث الآن في ليبيا، فقد ذهبت ردود الأفعال التركية ضمن نسق غير مسبوق، ويمكن الإشارة إلى ذلك على النحو الآتي:
• بالنسبة لليبيا، لم تكتف أنقرا بالتصريحات التي طالبت الزعيم القذافي بعدم استخدام العنف وبالاستجابة لمطالب المحتجين وحسب، وإنما سعت أنقرا إلى التورط ـ بشكل وإن كان متردداً ـ في التحالف الدولي الذي يقوم حالياً باستهداف ليبيا بالوسائل العسكرية والدبلوماسية.
• بالنسبة لسوريا، لم تسع أنقرا إلى التريث ومعرفة حقيقة وطبيعة الحجم الحقيقي للأحداث التي جرت، وإنما بادرت إلى إطلاق التصريحات التي كانت أكثر تطابقاً مع تصريحات قصر الإليزيه الفرنسي والبيت الأبيض الأمريكي.
لم تقتصر ردود الأفعال التركية إزاء أحداث سوريا على مجرد تصريحات أنقرا وحسب، وإنما تضمنت أيضاً عدداً لا بأس به من المقالات والتحليلات ذات التوجهات الافتراضية المفرطة، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بضعف المحتوى بسبب عدم توافر المعلومات والحقائق البسيطة، وما كان لافتاً للنظر هذه المرة تمثل في التطابق المثير للغرابة الذي جمع بين محتوى وجهات نظر حزب العدالة والتنمية "الإسلامي"، والحزب القومي التركي "القومي الاجتماعي"، وحزب الشعب الجمهوري "العلماني" وحزب السلام والديمقراطية "الكردي". وبكلمات أخرى، لم يكن هناك فرقاً كبيراً واضحاً بين ما ظلت تنشره صحف زمان اليوم ـ حريات ـ ميلليت، وغيرها من الوسائط الصحفية التركية التي ظلت خلافاتها أكثر غلبة على توافقاتها.
* محفزات الموقف التركي: الدوافع والأسباب
تعتبر تركيا من أبرز البلدان الشرق أوسطية، التي تتميز توجهاتها بالتداخلات والتقاطعات المتزايدة بين بنود جدول أعمال السياسة الداخلية وبنود جدول أعمال السياسة الخارجية، وفي هذا الخصوص، فإن العديد من توجهات السياسة الداخلية التركية تكمن مسبباته في السياسة الخارجية التركية، ونفس الشيء يمكن ملاحظته في توجهات السياسة الخارجية التركية الناشئة بفعل تأثيرات السياسة الداخلية التركية، وتأسيساً على ذلك، توجد العديد من النظريات التفسيرية لجهة الكشف عن حقيقة وطبيعة التوجهات التركية الشرق أوسطية الأخيرة، وعلى وجه الخصوص إزاء سوريا وليبيا، وفي هذا الخصوص يمكن استعراض ذلك على النحو الآتي:
• مجموعة التفسيرات التي تعزو الأسباب إلى السياسة الداخلية التركية: تشهد التطورات السياسية الداخلية التركية المزيد من عمليات التعبئة الفاعلة بسبب اقتراب موعد الانتخابات العامة التركية، فإن حزب العدالة والتنمية الإسلامي التركي الحاكم يسعى إلى تأمين تفوقه الشعبي الحالي، وفق الخطوط الآتية:
ـ ردع أي احتمالات لانتقال عدوى الاضطرابات إلى مناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، والتي ظلت أكثر ميلاً لدعم حزب العدالة والتنمية في مواجهة خصومه التقليديين: الحزب القومي التركي، وحزب الشعب الجمهوري التركي.
ـ إضعاف الانتقادات الداخلية التي تتهم حكومة حزب العدالة والتنمية بالضعف إزاء القيام بالمهام التي تعزز مكانة ووزن أنقرا الداخلي والخارجي.
ـ استرضاء شرائح الرأي العام الإسلامي التركي، وعلى وجه الخصوص الحركات الإسلامية التركية الأخرى الداعمة لحزب العدالة والتنمية.
ـ عدم إفساح المجال أمام تعرض الحكومة لأي انتقادات داخل البرلمان التركي، وذلك بما يمكن أن يؤدي إلى انقلاب صيغة توازن القوى الحالي، والذي يتمتع ضمنه حزب العدالة والتنمية بقوة تفوق تتميز بالهشاشة النسبية بعد قرار حل وحظر حزب المجتمع الديموقراطي التركي ـ الكردي الحليف لحزب العدالة والتنمية.
هذا، وبرغم تعدد النظريات التفسيرية الداخلية، فإن الأكثر تأثيراً يتمثل في وجهة النظر المتعلقة بمساعي حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم لجهة القيام باسترضاء الإسلاميين الأتراك والذين ينظر القدر الأكبر منهم إلى حركة الاحتجاجات السياسية الشرق أوسطية الأخيرة باعتبارها تمثل أحد المؤشرات الدالة لجهة تزايد احتمالات صعود الصحوة الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط والأدنى.
• مجموعة التفسيرات التي تعزو الأسباب إلى السياسة الخارجية التركية: ترتبط السياسة الخارجية التركية بالعديد من المحاور، ومن أبرزها: محور أنقرا ـ واشنطن ـ تل أبيب، محور أنقرا ـ موسكو، محور أنقرا ـ دمشق، محور أنقرا ـ طهران، محور أنقرا ـ بروكسل (الاتحاد الأوروبي)، وفي هذا الخصوص، تقول المعلومات والتسريبات الآتي:
ـ التباعد السابق بين أنقرا ومحور واشنطن ـ تل أبيب أدى إلى تقارب أنقرا ـ موسكو، ولكن، وعلى خلفية التوقيع على اتفاقية سالت الجديدة فقد حدث تقارب واشنطن ـ موسكو، بما أدى إلى تباعد أنقرا ـ موسكو، وبالتالي كان متوقعاً أن تسعى أنقرا إلى التقارب مع واشنطن.
ـ التباعد الفرنسي ـ الألماني، أدى إلى تباعد أنقرا ـ باريس وتقارب أنقرا ـ برلين، وبالتالي لا بد لسياسة أنقرا الخارجية أن تتبنى توجهاً أكثر انسجاماً مع الموقف السياسي الخارجي الدبلوماسي الأوروبي العام، ولو على مستوى التصريحات التركية.
ـ التقارب الألماني ـ الروسي، والاستفادة من مزايا بناء روابط أنقرا ـ برلين، بما يتيح الضغط على موسكو بحيث تظل أكثر تحفظاً إزاء عدم اعتماد أي توجهات سياسية خارجية لا تأخذ بعين الاعتبار موقف أنقرا المسيطرة على مضيق ممر البسفور الفائق الأهمية بالنسبة للمصالح الحيوية الروسية.
ـ التقارب البريطاني ـ الفرنسي، والاستفادة من مزايا روابط أنقرا ـ لندن التي انتعشت مؤخراً، بما يتيح استغلال لندن كعامل ضغط على باريس لكي تخفف مواقفها المتشددة ضد أنقرا.
ـ التباعد التركي ـ الفرنسي، لجهة الاستفادة من مزايا قيام أنقرا بالتعاون مع التحالف الدولي ضد ليبيا، وإطلاق التصريحات المنسجمة مع التوجهات الدبلوماسية الأمريكية والفرنسية والأوروبية الغربية، بما يدفع باريس أكثر فأكثر إلى تليين مواقفها ضد أنقرا.
هذا، وتشير المعطيات إلى أن المحفزات الداخلية والخارجية التركية، ترتبط بقدر كبير بتأثير المتغيرات الآتية:
• متغير تفعيل مشروع عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وحالياً يوجد إدراك متزايد في أوساط النخب التركية، بأن اقتصاديات الاتحاد الأوروبي التي تعاني حالياً من الضعف والهشاشة بفعل تأثير الأزمة الاقتصادية، هي الآن في أمس الحاجة لمساندة الاقتصاد التركي المنتعش، والذي تجاوز ناتجه الإجمالي نصف التريليون دولار.
• متغير تفعيل العلاقات التركية ـ الأمريكية، وحالياً يوجد إدراك متزايد في أوساط النخب التركية بأن واشنطن أصبحت الآن أكثر قدرة لجهة الضغط على باريس وبرلين من أجل دعم عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وذلك بعد نجاح واشنطن في دفع لندن إلى مساندة عضوية تركيا في هذا الاتحاد.
أما أبرز التفسيرات المتعلقة بحقيقة التحولات الجارية في توجهات السياسة الخارجية التركية، فيتمثل في ما أشار إليه بعض خبراء السياسة الخارجية التركية، بعملية التحول البراغماتي بحيث يصبح "اللاموقف" هو موقف السياسة الخارجية التركية، وذلك على أساس اعتبارات أن على تركيا أن تسعى إلى اعتماد سياسة خارجية تركية "متعددة الوجوه". بما يتيح لأنقرا أن تبدل جلدها، وتغير ملابسها بحسب حالة الطقس. خاصة وأن موقع أنقرا الجيوسياسي يجعلها في مواجهة هبوب مختلف أنواع العواصف السياسية، القادمة من القوقاز، ومن البلقان، ومن إيران، وآسيا الوسطى، وآخرها تمثل في عواصف الشرق الأوسط الحالية، ويستند هذا الرأي على مذهبية وزير الخارجية التركي الحالي أحمد داؤود أوغلو، عراب نظرية السياسة الخارجية التركية الجديدة التي تسعى إلى الجمع بين النقيضين في كل واحد. وإضافة لذلك، توجد وجهة نظر تركية أخرى، تتميز باعتمادها على البعد النفسي ـ الاجتماعي التركي القائم على مفهوم الوجاهة التاريخية، وتقول وجهة النظر هذه، بأن القوى الكبرى التي تتدافع حالياً نحو الشرق الأوسط هي قوى لا يمكن لتركيا أن تقف بمعزل عنها، وبالتالي، فإن تركيا التي وصلت ـ برأيه ـ إلى مصاف القوى الإقليمية الرئيسية. قد أصبحت الآن في بدايات خطوات التحول من قوة إقليمية إلى قوة كبرى. وبالتالي، لا بد أن يكون لتركيا حصة في الشرق الأوسط، مثلها مثل فرنسا وبريطانيا. وحالياً، فإن الوقت أصبح مناسباً لأنقرا لجهة القيام بذلك، لأن واشنطن أكثر اهتماماً بالشراكة مع تركيا بما يفوق اهتمام واشنطن بالشراكة مع باريس وإيطاليا ولندن وروما ومدريد. وذلك لأن النفط الذي يمثل عصب الاقتصاد العالمي والأمريكي، تستطيع واشنطن أن تضع يدها على إمداداته بالتعاون الحصري مع تركيا. إضافة إلى أن خنق شريان الحياة الروسي، يتم عن طريق التعاون مع تركيا لجهة وضع ممر البسفور تحت سيطرة التحالف الأمريكي ـ التركي، ونفس الشيء ممكن بالنسبة لإيران، والتي لا يمكن لواشنطن إكمال تطويقها إلا إذا دخلت أنقرا ضمن حلقات فرض العقوبات الدولية ضد طهران.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
التعليقات
طبيعي
إضافة تعليق جديد