المدينة الحلم.. الترامواي الذكرى.. النهر الأسطورة!
في الجزء الثاني من (دمشق في ذاكرة اللجوء الفلسطيني) نتابع شهادات كتاب ومثقفين فلسطينيين، يرسمون من خلال سيرهم ورؤاهم الذاتية، صورة موازية للمدينة الأقدم في التاريخ، ولكل ما فيها من ألق وألفة ودهشة وحب وغموض وزمن مضى تبدل وتبدلت قيمه ومعالمه... إنها شهادات على قدر كبير من الطرافة والحميمية، لأنها تعيد اكتشاف دمشق من وجهة نظر أخرى.
الروائي حسن سامي يوسف: مدينة غارقة في النور!
زار حسن سامي يوسف دمشق أول مرة في منتصف الخمسينيات قادماً من مخيم اللاجئين الذي نزلت به العائلة قرب مدينة بعلبك اللبنانية، وقد ارتبطت دمشق بذاكرته بالحلم... فقد كانت هذه المدينة حلماً بالنسبة لطفل قضى جانباً من طفولته قبل النكبة في قرية صغيرة تدعى (لوبية) قرب بحيرة طبرية، وعندما صافحت عيناه المدينة أول مرة، بدت له (أكبر مدائن العالم) كما وصفها في روايته (رسالة إلى فاطمة) التي كتب فيها جانباً من سيرته الذاتية.
يقول الروائي والكاتب التلفزيوني حسن سامي يوسف، في غير موضع من روايته، واصفاً طعم الدهشة الأولى وهو يسير في شوارع دمشق في أول زيارة لها:
'كنت مندهشا من كل ما تقع عليه عيناي، مثل مخلوق جاء من كوكب غريب، وحط فجأة بين أناس لا يشبهون في شيء أولئك الذين تركهم وراءه. ودمشق أولى المدائن التي أزورها... كانت في ذلك الوقت مدينة صغيرة، لكنها كم بدت لي كبيرة. لم أتصور يوماً بإمكانية وجود أناس بهذه الكثرة وسيارات بهذه الكثرة وعربات بهذه الكثرة وأبنية بهذه الكثرة ومصابيح بهذه الكثرة. مدينة غارقة في النور، سابحة في الضوء الكثير. كل شيء في دمشق كثير ودمشق أكبر مدائن العالم. تلك هي النتيجة التي خلص إليها عقل ذلك الولد ذي السنوات العشر، وهو يأكل سندويشة الفلافل ويشعر بالأمان والرضا تحت جناح أخيه في طريقهما إلى موقف الترامواي وعيناه لا تتركان شيئاً يمر بهما من دون أن تمرا عليه'.
ويضيف حسن سامي يوسف مختزلاً علاقته بدمشق في صورتها الكلية: 'دمشق كلها كانت حلماً، ولعلها ما زالت إلى اليوم حلماً وأي حلم! هنا كنت صغيراً. وهنا كنت كبيراً. هنا فرحت وحزنت وضحكت وبكيت ومرضت وشفيت وعشقت وكرهت وخدعت وخُدعت وسعدت وشقيت وبقيت ورحلت وعرفت وفارقت وصحوت وسكرت وشتمت وشُتمت... فأية (هنا) هذه المدينة التي اسمها دمشق؟! أية هنا هي؟!' ويتابع: 'كم يحزنني أن أعيش حياتي في مدينة لست أفهمها! كم حاولت أن أفهم هذه المدينة التي اسمها دمشق مذ جئتها أول مرة بصحبة عمتي فاطمة! كان بيت عمتي واسعاً نظيفاً. فيه ساحة مكشوفة للسماء، وفي أجناب الجدران التي تحيط بالساحة أشجار كباد ونارنج وشتلات ورد وحبق، وشجرة كرمة عرشت أغصانها وأوراقها بشخاء على المكان، وشجيرات ياسمين يضوع في الليل عطر أزهارها البيضاء فيملأ الجو برائحة قوية نفاذة تجعلني أسكر من النشوة'
الناشر سعيد البرغوثي: الشام التي كانت!
الكاتب والناشر سعيد البرغوثي، رأى أن جزءاً من سيرته الذاتية ارتبط بشكل وثيق بدمشق، ولهذا آثر أن يروي ياستفاضة تفاصيل الصورة منذ بدأت تتشكل ملامحها الأولى على وقع نذر النكبة، يقول لـ 'القدس العربي':
دمشق، في أطياف ذاكرتي المبكّرة لم تكن دمشق.. كانت الشام. حينها كنت في العاشرة أو أكثر أو أقل قليلاً، تردد الاسم على مسامعي مختلطاً مع أصوات صليات من قذائف الهاون، التي بدأ العدو الصهيوني يرشق بها أحياء صفد عشية انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، ليرعب أهلها ويجبرهم على الرحيل.. وكان للعدو ما أراد.
بدأ الناس يجمعون بعضاً من أشيائهم الضرورية، ويغلقون أبواب منازلهم، ويحتفظون بمفاتيحها لحين عودتهم، ويمضون باتجاه الشمال. وكانت الشام واحدة من أهم مقاصدهم.
في أحد الصباحات اجتاحتني الغيرة، عندما طلبت مني والدتي مرافقتها لوداع بيت خالي الذاهبين إلى الشام، فابن خالي الصغير الذي يجايلني، سيذهب إلى هناك أما أنا فلا!
أمام منزلهم، تلاشت الشكوك التي كنت ألجأ إليها، ربما لن يرحلوا، ولن يستأثر ابن خالي بزيارة الشام، فها هم يغلقون باب منزلهم، وها هي امرأة خالي تعطي المفتاح لوالدتي لتحتفظ به أمانة لحين يرجعون!
اشتعلت الغيرة في روحي من جديد، امرأة خالي العذبة، شديدة النبل والحساسية، قرأت الغيرة في عيني، ودعتني لمرافقتهم. رفعت عيني إلى أمي مستجدياً موافقتها، ومن غير أن أسأل، تركت لي الخيار 'إذا بدّك روح مع بيت خالك' فالأمر ليس أكثر من نزهة، ليس أكثر من زيارة للشام.. وبعدها نعود!
انعطفت أمي باتجاه منزلنا، وانعطف معها قلبي، عدة التفاتات متلهفة تبادلناها، كانت أمي تتوقف مع كل التفاتة، وتستدير بجسدها الناحل، وتلوّح لي بكفها إلى أن غابت.
مضينا سيراً على الأقدام على طريق منبسطة حيناً ووعرة أحياناً، إحدى القرى في أقصى شمال فلسطين كانت محطتنا الأولى، كنا ضيوفاً عند مختار القرية، تناولنا طعام العشاء، وبعدها بقليل جاء وقت النوم.
كنت أصغر أخوتي، وهكذا كانت أمي تستأثرني بالنوم إلى جوارها، وتهدهدني بحكاياتها المتكررة التي لا أمل سماعها كل مساء إلى أن أغفو..
هناك، ولأول مرة، وجدت نفسي وحيداً، بعيداً عن أمي وحكاياتها، لم أكن في سن يسمح لي بالبكاء أمام الآخرين، دفنت رأسي تحت الغطاء، ورحت أبكي بصمت إلى أن غفوت.
على ظهر شاحنة في صباح اليوم التالي تابعنا طريقنا، كانت وجهتنا 'القنيطرة' حيث كانت ليلتنا الثانية، ومع ساعات الليل تكرر بكائي الصامت، يؤججه ندمي على فراق أمي، أفكر وأسأل نفسي عن إمكانية العودة إلى حضنها، ومع إدراكي لعبثية السؤال، كنت أزداد عزلة ومرارة.
انطلقنا من القنيطرة في حافلة باتجاه الشام، في بلداننا الأطفال لا يشاركون الآخرين بالجلوس على المقاعد، وهكذا وجدت نفسي واقفاً مع مجموعة من الأطفال الفلسطينيين في ممر الحافلة. لم يكن الطريق إلى الشام ممهداً، فكنا نهتز مع الحافلة ذات اليمين وذات الشمال، الإعياء من الوقوف والاهتزاز أرغمنا على الجلوس في ممر الحافلة بين المقاعد، كان طيف أمي يلازمني.. التفتُّ إلى طفل كان يجلس إلى جانبي لأسأله ما إذا كانت أمه ترافقه في هذه الرحلة، أومأ بالإيجاب مشيراً إلى سيدة تجلس إلى الجوار. انكفأت على أحزاني من جديد، فقد كنت أمنّي النفس بوجود طفل آخر يشاركني فراق الأم، خاب فألي، وعدت لأغرق وحيداً في أحزاني.
بدأت معالم تلوح في الأفق، تبدت أبنية من عدة طوابق لم نألفها من قبل.. شوارع عريضة ونظيفة تصطف بمحاذاة أرصفتها محال تجارية جميلة ومتنوعة، حافلات تجوب الشوارع، الذي أدهشني حافلات من نوع آخر يرتفع من سقفها عامود معدني ينتهي ببكرة تلامس سلكاً في الأعلى، بينما السائق يقود الحافلة واقفاً، وينبه المارة بصوت أقرب إلى صوت الأجراس مختلفاً كل الاختلاف عن أصوات منبهات الحافلات الأخرى.
كانت السكنى في الشام طموحاً صعب المنال لمجموعات من اللاجئين الفلسطينيين، لا يملكون إلا مفاتيح منازلهم التي تركوها، وهكذا كانت الضواحي القريبة من الشام الهدف والملاذ..
لست أدري كيف تجمعت أسر من عائلتنا وعائلات أخرى في ضاحية 'حرستا'، هناك كان الحصول على مأوى يتحقق بلا مشقة وبلا بحث، فأهالي البلدة استقبلوا العائلات الفلسطينية بكرم وإيثار، كل أسرة وجدت مكاناً لها في أحد البيوت إلى جانب أصحابها، وأصبحوا كأنهم أسرة واحدة يحتلون عدة غرف، ولم تكن الطبيعة أقل كرماً من الناس، عدة أنهار بمياهها العذبة تتخلل بساتين البلدة، وكان الناس يجودون على اللاجئين بما تجود به أراضيهم العامرة بكل أنواع الخضار والفواكه.
لم يدم فراقي لأمي طويلاً، فبعد أقل من أسبوع انضمت إلينا بشكل مفاجئ، حتى الآن لا أعرف كيف أتت ومن الذي ساعدها على الرحيل والوصول، فوالدي لم يكن معها. فرحتي الغامرة بقدومها شغلني عن السؤال عن أبي، الذي وصل بدوره بعد أيام، فهو لم يغادر 'صفد' إلا بعد أن رأى اليهود على الجانب الآخر من البلدة.
عند مغادرتنا لبلدتنا لم يكن العام الدراسي قد انتهى، فقد أغلقت المدارس أبوابها عشية انتهاء الانتداب البريطاني، فلم يعد هناك من مرجعية أو جهة راعية.
رحت أتجول في بلدتنا الجديدة، مررت ببناء من طابقين، تتمدد في كل طابق عدة غرف تطل على الخارج بنوافذ زجاجية، قرأت يافطة فوق مدخل البناء كتب عليها 'مدرسة حرستا الرسمية للبنين' عاودتني ذكرى مدرستي التي غادرتها منذ أسابيع قليلة، وتركت هناك كتبي ودفاتري وأقلامي. اقتربت من إحدى النوافذ، وحضنت وجهي بكفي ملتصقاً بالزجاج، مستطلعاً ما ومن بداخل الغرفة، صفوف من المقاعد يحتلها عدد من التلاميذ، لمحني المعلم الذي كان بمواجهة النافذة فقد كان منظري ووقوفي أمامها ملفتاً، أشار لي أن ألتف لآتي إلى صفه محدداً لي وجهتي للوصول. دلفت إلى المدرسة وقصدت الصف المعني، أخذ التلاميذ يتصايحون 'فلسطيني أستاذ، فلسطيني بيعرف إنكليزي' طرح علي المعلم بعض الأسئلة البسيطة باللغة الإنكليزية، وأجبته بما أسعفتني به معرفتي البسيطة يومها، وليس بأكثر من حدود أسئلته.
قال لي الأستاذ 'خليل البرهجي' الذي كان معلم الصف الثاني الابتدائي، دون أن يستوضحني عن مستوى تعليمي وفي أي صف كنت في فلسطين، قال لي: 'بكرة جيب دفتر وقلم وتعال داوم' وهكذا انتظمت في المدرسة من جديد.
كان العام الدراسي يقترب من نهايته، وهكذا لم أمكث في الصف الثاني لأكثر من شهر، وترفعت إلى الصف الثالث.
كان لكل صف معلم واحد يعلّم التلاميذ كل المواد، كان معلم الصف الثالث يدعى محمود الضوبع الذي لحظ تفوقي، وباقتراح منه وموافقة من مدير المدرسة راشد الشعار، اتُخذ قرار بالقفز إلى الصف الخامس، حيث كانت الشهادة الابتدائية تعتبر مرحلة هامة جداً في حياة التلاميذ، فالذي يظفر بها ربما يصبح في نظر الناس نصف أستاذ! كانت نتائج امتحانات الشهادة الابتدائية تحتل المنابر الإعلامية، فكانت أسماء الناجحين بالشهادة الابتدائية تنشر في الصحف، وكانت أيضاً تذاع بالراديو.. وكان اسمي بين الناجحين.
عدد كبير من الأطباء والمهندسين والمحامين في بلدة 'حرستا'، تتلمذوا على أيدي أولئك المعلمين المتفانين، الذين كانوا يعقدون للتلاميذ دروساً إضافية خارج أوقات الدوام، فالدروس الخاصة المعروفة اليوم لم تكن موجودة، هناك كان المعلمون يتطوعون لعقد الدروس الإضافية، وعلى جدران رواق المدرسة كانت هناك لوحات عليها صور الناجحين في الشهادة الابتدائية لأعوام متتالية مقترنة بنسبة النجاح لكل عام والتي لم تنخفض عن تسعين بالمائة إلا نادراً.
كان المعلمون: (خليل البرهجي، محمود الضوبع، عادل رمضان، مفيد الساعاتي) يعطون التلاميذ من قلوبهم وأرواحهم، ولكن الرجل الذي كان أكثرهم مهابة وتقديراً، كان مدير المدرسة راشد الشعار، رجل قصير القامة، يعتمر طربوشاً يميزه عن الآخرين، صاحب شخصية قوية جعلت الجميع من معلمين وتلاميذ يحسبون له ألف حساب، رغم أنه لم يكن يحمل عصاً كغيره من المعلمين!
ظفر الشعار بتقدير واحترام الجميع، بما في ذلك أهل البلدة، كان متديناً، وكان عندما يذهب لأداء إحدى الفرائض في المسجد، يخلي له شيخ المسجد المكان ليؤم المصلين.
بعد نجاحي من الصف الخامس وظفري بالشهادة الابتدائية، بدأتُ رحلتي الخاصة باتجاه الشام، كل الضواحي كانت تفتقر للمدراس الإعدادية. كان يطلق على المدارس الإعدادية اسم التجهيز، وكانت مدرسة جودة الهاشمي المعروفة حتى الآن باسمها هذا يطلق عليها التجهيز الأولى، وكانت قبلة التلاميذ سواء القادمين من الشام نفسها أم من الضواحي، تقدم التلاميذ الذين سيصبحون طلاباً بطلبات انتساب، فالمرحلة الإعدادية ليست إجبارية، وهكذا لم تكن التجهيز الأولى لتتسع لجميع طالبي الانتساب إليها، فتم توزيعهم على إعداديات أخرى تحمل اسم التجهيز مضافاً إليه رقماً يميزها، وكان نصيبي في التجهيز الخامسة للبنين، في حي العمارة بمنطقة السبع طوالع. من هناك بدأت رحلتي الخاصة مع الشام بمعزل عن صحبة الأهل.
في البدايات لم أكن أجرؤ أو أعرف السبيل إلى الشام رغم ما شكله ذلك من إغراء تكبدت على إثره فراق أمي، نمضي معاً أمي وأبي وأنا لزيارة المرجة وسوق الحميدية والجامع الأموي.. في ساحة المرجة كانت تصطف 'الحناطير' وهي عبارة عن عربات تقوم على عجلين كبيرين، وتجرها خيول مطهمة برؤوس مزينة بتطريزات قماشية ملونة، تتخللها أجراس صغيرة ترسل أصواتاً رتيبة مع إيقاع يتعاظم ويتباطأ مع إيقاع قوائم الخيل أثناء مسيرها. كان الحوذي يجلس على منصة في المقدمة خلف ظهر الحصان، يحمل سوطاً بعصاً خشبية مزينة بالمسامير بطبعاتها العريضة، وينتهي بحبل طويل من الجلد، كان الحوذي يلوح بها حاثاً حصانه على الجري، يضرب بكرباجه أطراف الحاوية لتصدر صوتاً يحرض الخيول على الإسراع في عدوها. وكانت ساحة المرجة مركز المدينة الذي تنطلق منه وسائل المواصلات إلى الأحياء الأخرى وتعود إليه. كانت الحافلات والترامواي تمضي إلى الشيخ محي الدين، والمهاجرين، والميدان، والقصاع، وكان أكثرها إمتاعاً الترامواي الذي يقصد ضاحية 'دوما' ماراً بجوبر وزملكا وعربين وحرستا، كان ذلك يفضي إلى نزهة ساحرة بين البساتين رائعة الجمال والخضرة، والناجية من صخب المدينة. بعد ظفري بالشهادة الابتدائية الموقعة من وزير المعارف آنذاك، وذهابي إلى التجهيز الخامسة حظيت بمكانة واهتمام خاص لدى مدرس اللغة العربية 'الشيخ محمد وحيد الجباوي'، كان الجباوي شيخاً معمماً بجبة سوداء، وكنت ألمحه بين فترة وأخرى يحتل مقعداً له في ترامواي 'دوما' في مقصورة 'البريمو' وهي مقصورة بمقاعد جلدية مريحة، يحتلها الموسرون فقط لأن الأجرة فيها مضاعفة. كان الشيخ يأخذ مكانه ذاك ليس لحاجة له في أي من المحطات التي يجتازها الترامواي، بل ليمتع نفسه بالمناظر الخلابة والهواء النقي، يأخذ مكانه في أحد مقاعد مقصورة 'البريمو'، ولا يغادره إلا في المحطة الأخيرة من رحلة العودة في ساحة المرجة من حيث انطلق.
كانت مدرستي الجديدة التي سأمضي فيها أربع سنوات في بؤرة الشام القديمة، من هناك وعبر شارع فرعي كنا نمضي إلى سوق الحميدية والجامع الأموي و'المسكية' التي كانت المكان الوحيد لبيع القرطاسية والكتب. إلى هناك كنت أذهب كل يوم مروراً بالمكتبة الظاهرية التي اعتدت أن ألجأ إليها في فترات الظهيرة بعد الغداء، حيث كان التعليم على مرحلتين، صباحية ومسائية، تتخللهما فترة للغداء، هناك في فترات الظهيرة في المكتبة الظاهرية، وفي قاعتها الصغيرة وصمتها المقدّس، تعرفت على توفيق الحكيم وطه حسين، هناك سُحرت بعصفور من الشرق والأيام، وهناك أصبت بلوثة القراءة.
سندويشة فلافل من زاوية صغيرة جداً في المسكية كانت غدائي شبه الدائم، كان 'عبد' صاحب المكان بائع الفلافل يحضّر السندويشات بسرعة مذهلة، يضعها بصفين حسب ثمنها، ثم يبدأ بمناولة السندويشة بيد ويقبض ثمنها باليد الأخرى، ليعود إلى عمله بتصنيف السندويشات من جديد، عبد هذا أصبح لاحقاً يملك عدة محلات للفلافل والفول والحمص منتشرة بدمشق بعنوان 'مأكولات المصري'. ولكن الثمن تطور مع تطور المدينة.
كانت الأكف الطريقة تمتد لبائع الفلافل، 'بفرنك ونص.. عبد بفرنكين عبد..' وكان ذلك يعني سندويشة مدعومة بأقراص إضافية من الفلافل. كان المبلغ المخصص لي من والدي 'ستة فرنكات' يومياً أي ثلاثين قرشاً، وكانت كافية لأجرة الذهاب والعودة وسندويشة الفلافل، ويزيد منها خمسة قروش 'فرنك' أنفقه لشراء 'شعيبية' لذيذة ساخنة محشوة بالقشطة، أما سندويشة الفلافل 'عربي' فكنا قادرين على شرائها في المناسبات وأيام البحبوحة، فقد كانت باهظة الثمن، خمسة فرنكات كاملة، أي ربع ليرة سورية! ولكي نروي ظمأنا بعد تلك الوجبات الدسمة، كنا نلجأ إلى صنابير الفيجة المنتشرة في شوارع الشام، تغدق بمياه الفيجة، التي يقال عنها أنها أعذب وأنقى مياه الأرض. كانت تدهشني ببرودتها في الصيف ودفئها في الشتاء!
شارع الصالحية كان أهم شوارع دمشق، كنت ألمح عمال التنظيفات يرشون الشارع كل يوم بواسطة 'قِربة' محضّرة من جلد الماعز، يحملونها على ظهورهم، ويرشون الماء عبر إحدى القوائم التي تترك مفتوحة لذلك الغرض، وعندما ينضب ماؤها يعودون لملئها من إحدى صنابير الفيجة، ويتابعون عملهم من جديد.
أمضي مع خفقات ذاكرتي، في الشام شاهدت أول فيلم سينمائي، وعشقت السينما، وفيها شاهدت أول عمل مسرحي. وفي الشام بدأت قراءاتي للجرائد اليومية، ومن مدرستي الإعدادية شاركت بالمظاهرات الطلابية المندّدة بحلف بغداد والمشاريع الاستعمارية، المظاهرات التي أسهمت بإسقاط أول حكم عسكري ديكتاتوري تزعمه أديب الشيشكلي، وفي الشام أصبت بلوثة السياسة التي أرهقتني وما تزال!
أمضي مع خفقات ذاكرتي، وأرتد إلى الحاضر، وأحتاج للبكاء!..
الإذاعي طالب يعقوب: زمن التكافل الاجتماعي!
الإذاعي المخضرم طالب يعقوب روى بكثير من الحميمية والتركيز صوراً أثيرة مبللة بالألم حيناً، وبالحنين وحب الزمان والمكان والناس حيناً آخر... وقد قال :
أن تعود في الذاكرة فذلك شيء جميل... ولكن ليس في كل ما يمكن أن تتذكر... ولاسيما إن أردت العودة إلى ما تبقى في الذاكرة من صور عن دمشق حين اللجوء الفلسطيني. فالصورة التي لا يمكن أن تبرح خيالي، تلك الحيطان التي رفعناها من الخيش والقماش البالي لنصنع منها بيوتاً داخل جامع الشامية في حي ساروجا. فقد تم تقطيع الصحن الداخلي للجامع على شكل مربع أو شبه منحرف أو غيره من الأشكال، حسبما يتوفر لصاحب الحاجة، لتكون بيوتاً تؤوي الأطفال والنساء.. أما الرجال فلهم صحن الجامع الخارجي يسهرون، يدخنون، يستعيدون الذكريات غير البعيدة؛ فذاك يروي عن شجرات زيتونه، وآخر يمد يده فجأة ليتحسس مفتاح بيته في فلسطين لأن الغيبة لن تطول كما قيل لهم... فالمشكلة لن تطول سوى أيام ويعودون!
ذكريات... وذكريات... وسعال دخان رخيص، وعيون معلقة بين السماء والأرض، ورجال الانتظار يسامرون انتظارهم حتى يغلبهم النعاس والتعب، فيغفون في نوم عميق لا أدري كنه أحلامه.
إذن حي (سوق ساروجا) كان هو الوجه الأول لدمشق في ذاكرتي... ولعل ما زاد من رسوخ ذكرياته بالنسبة لي، هي تلك الحكايا عن ذلك الولي، أحد أولياء الله الصالحين من أصحاب الخطوة... الذي حمل الحي اسمه حسب الحكاية الشعبية التي تقول: تصادف أن كانت والدة هذا الولي في دمشق تطبخ (كبة لبنية) فتمنت لو أن ولدها الموجود في الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، حاضر معها كي يأكل (الكبة اللبنية) فما كان من الولي الصالح إلا أن استأذن من أصحابه وخطا من مكة باتجاه دمشق، فبلغها في دقائق معدودة، وحمل قدر (الكبة اللبنية) وعاد إلى أصحابه فأكلوه ساخناً... وقد اصطلح عامة الناس على هذه الرواية فسمي الحي (سار وإجا) أي سار وجاء، ومنها اشتقوا (ساروجا) وكم سمعنا هذه الحكاية مرات ومرات، وفي كل مرة كانت الدهشة تعلو وجوهنا... دهشة تعدت بي الحكاية والزمان إلى المكان.. إلى حي ساروجا، إلى الحواري الضيقة المتعرجة الحانية على بعضها كأنها تتناقل حكايات الأجيال الذين مروا على هذا الحي.
(أبو صالح) الحارس الليلي الذي لا ُينسى، الساهر أمام (تنكة) يشعل بها النار فيتدفأ ويغلي شايه، و(يحمَص خبزته) ليتمكن من جرف صحن الفول، ثم يشرب مرقه بتلذذ، ويمسح شاربيه ثم يحمد الله ويشكره. ويأتي السقا فيرش الحارات بالماء، ويسير خلفه الزبال يكنس الأرض... وقبل أن أغادر تلك الصور عن أشخاص الحارة، أود أن أتوقف عند (محمد) شاب معقد له ما يمكن أن نطلق عليه اسم (دكان) طولها وعرضها متر بمتر، بني أسفلها على شكل مصطبة بارتفاع متر ونصف تقريباً ليجلس ويتناول المرطبانات المملوءة بالسكاكر الملونة أو (القضامة النعوّمة) وغيرها. قرشان ونصف أو (نصف فرنك) كانت ثروة بالنسبة لي، تكفي لأشتري النعومة، ولأنتظر البائع الجوال (حلّي سنونك) الذي يضع السكر الملون ويمطه صانعاً منه حبلاً مجدولاً كثير الألوان، لطالما أغرانا. وما يكاد يغيب (حلّي سنونك) حتى تمر عربة (المَلْوَق) المملوءة بطاسات فيها السكر الملون والمنّكه، وبعضها معجون مع (القضامة) الصفراء.. يغرز الرجل (مَلْوَقه) وهو ملعقة مسطّحة في إحدى الطاسات، يبرمها حتى يصنع كرة، ثم يمدها نحو فمنا فنطبق عليها.
مباهج طفولة ملونة، وأناس طيبون كان الكرم سمتهم والعطف والحب والتآخي... صحيح أن في الحي بيوتاً تغلق أبوابها على كل أسرة، لكنهم جميعاً أسرة واحدة لا مكان لمحتاج بينهم.
(سوق ساروجا) وفيه حارة الورد التي سكناها بعد خروجنا من جامع الشامية... كانت اسماً على مسمى. الورد أحمره وأبيضه وأصفره... الياسمين... وردة المجنونة بألوانها الزاهية... هذه كلها كانت تطل عليك من الأعلى لترسم مع زرقة السماء وحنو البيوت على بعضها منظراً لعله الأجمل في الدنيا. الحديث عن (سوق ساروجا) وأهله يطول... لكنني أغادر ليس بعيداً إلى ساحة المرجة، وبالذات إلى سكة الترام نتعلق بحبل (السنجه) أو القضيب الذي يصل شريط الكهرباء بالترام، ونسحبه إلى أسفل، فيتوقف الترام ونركض مبتعدين حتى لا يمسكنا الكمساري.. أو تلك السيوف التي كنا نصنعها من مسامير نضعها تحت عجلة الترام!
وننتقل إلى الضفة الأخرى... إلى بردى. ولعل أسعد الأيام عندما كان يوم (الطوفة) التي تعلو فيها مياه بردى لتخرج إلى الشارع وتتعداه إلى المحال التجارية. ويومها كان يجد بعضهم عملاً له... يحمل الناس وينقلهم من طرف لآخر... أيضاً كان يمكن لأحدنا أن يكون من الأولاد المحظوظين، إن استطاع الغوص في الماء والوصول إلى وسط ساحة المرجة حيث يقوم النصب الشهير، فيرفع هذا الولد رأسه مزهواً وكأنه توسط العالم!
صور كثيرة لا أود الاسترسال بها على جماليتها الممزوجة بالألم والأسى والحرمان، مما كان يضطرنا كل أفراد العائلة صغيرنا وكبيرنا إلى العمل إن وُجد... فنحن بحاجة إلى كل شيء، فقد كان الخروج من فلسطين (ربي كما خلقتني) الثياب التي تسترنا فقط... ولماذا نحمل أموالنا وأشياءنا... ألم يقولوا لنا: أيام وتعودون؟!
ومع كل هذا الأسى والعوز، كان الناس من الجيران وغيرهم، كانوا معنا... يخففون وطأة المأساة، ويزيحون الهم، ويمدون يد المساعدة. وتمتد الأيام... وتمر السنوات لتغير الكثير؛ إن على صعيد الحي أو المدينة... فتتهدم أحياء بأكملها، آخذة في طريقها الكثير من العادات والتقاليد الجميلة، واصلة إلى نفوس الناس، مغيرة الكثير فيها.. بل لعل الأيام لم تغير فقط، بل محت الكثير من تلك الجمالية والتكافل الاجتماعي.
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد