حرب الأديان قادمة أم قائمة
حرب الحضارات، أو بالأحرى حرب الأديان، تمضي الدعوة إليها مسرعة الخطى مضاعفة الضرب بقوة على طبول الحرب، نافخة بشدة في نار الحقد. تلك الحرب المجنونة لها منظرون تحت الطلب يتقدمهم برنارد لويس الكاتب البريطاني المقيم في الولايات المتحدة الأميركية والناطق الأدبي والأكاديمي باسم اليمين الديني الأميركي، وليس صمويل هنتنغتون كما يشاع خطأ.
وقد وضع برنارد لويس كتابين في الموضوع هما "ما الذي وقع" و"أزمة الإسلام"، يمكن تلخيص الأفكار الأساسية لهما في أن المسلمين يكرهون الغرب وحضارته وديمقراطيته وعلمانيته لمجرد أنهم مسلمون، فدينهم وقرآنهم هو السبب في كل هذا، وليس الاستعمار الغربي ولا الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، ولا العدوان الصهيوني الأميركي على فلسطين ولبنان.
ثم تلقف هذه الأفكار كتاب آخرون ليعبروا عنها بأشكال مختلفة كانت أسوأهم هي الكاتبة الإيطالية أوريانا فالاشي التي توفيت في 15 سبتمبر/أيلول 2006 تاركة وصية تهدي فيها مكتبتها للفاتيكان بروما.
ومما يزيد في تأجيج النار اليمين الديني الأميركي بمحاولته مسابقة الإسلام واحتكار المسيحية والدفاع عن "الحرية الدينية"، وتنصيب رؤساء موالين له في كل قارات الكرة الأرضية.
لضمان السند الشعبي العام بالولايات المتحدة الأميركية في الحرب ضد لبنان، ثم سوريا وإيران، أسس البنتاغون الأميركي والجيش الإسرائيلي بنية للتأطير والتكوين، منذ نهاية سنة 2005، لتعبئة خمسين مليونا من الإنجيليين الأميركيين.
وتركز المحور العام لهذه العملية على إدماج زعماء الإنجيليين في مؤسسة إيديولوجية وحيدة: "المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل".
ولا ترمي هذه المنظمة الجديدة إلى أن تكون بديلا للمنظمة الشهيرة "إيباك" العاملة كجماعة ضغط سياسية (لوبي) في الأوساط الحاكمة، لكن مهمتها هي ترويج العقيدة الصهيونية في الكنائس الإنجيلية وخارجها حتى يصير دعم العمليات العسكرية العدوانية الإسرائيلية في نظر أغلبية الأميركيين بمثابة الواجب الديني.
في يناير/كانون الثاني 2006، ظهر كتاب خطير بالولايات المتحدة "العد التنازلي لأورشليم: تحذير للعالم.. الفرصة الأخيرة للسلام"، وبسرعة أصبح في ثلاثة أشهر فقط، أكثر الكتب تداولا وبيعا في الأسواق الكبرى بالولايات المتحدة الأميركية.
يرى الكتاب أن حكام إيران متزمتون يسعون إلى محو إسرائيل من الخريطة بإلقاء قنبلة نووية على القدس. وبعد اجتياح إسرائيل على يد المسلمين والروس، ستقوم حرب ثانية للسيطرة على إسرائيل، وستشتعل بين الولايات المتحدة من جهة، والصين والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية.
وفي هذه اللحظة سيظهر المسيح الدجال في شخص رئيس الاتحاد الأوروبي. وفي النهاية ستضع الحرب النووية الرهيبة حدا للنزال، وستدور المعركة الحاسمة في ميجيدو (هارمجدون).
وسيصبح بإمكان المسيح المبجل أن ينزل إلى الأرض ليجزي الذين آمنوا به وانتظروا رجوعه. ومن حسن حظه أن الجيش الإسرائيلي والبنتاغون يمكنهما ترجيح الكفة لصالحه بتدخل وقائي، بما فيه استعمال قنابل نووية جديدة وتكتيكية.
ولهذا يجب خوض الحرب من الآن دون انتظار. مؤلف هذا الكتاب العسكري الديني الرائج هو القس القادم من التيكسان جون هاجي، النجم الجديد في المسيحية الصهيونية.
يخوض الإنجيليون في هذه الأيام سباقا محموما مع الأديان الأخرى، خاصة دين الإسلام الذي يتزايد معتنقوه الغربيون بالآلاف دون نشاط دعوي كبير للمسلمين، ويجرون الحسابات والمعادلات لوقف الانتشار والظهور.
فقد نشرت مجلة "المسيحية اليوم" خلاصة يوم دراسي نظم في ولاية ماساتشوسيتس من قبل الملتقى العقائدي غوردون كونويل في فبراير/شباط 2006 انتهى فيه المشاركون إلى أن الإسلام أسرع انتشارا من المسيحية، فالإسلام ينتشر بنسبة 1.9% سنويا، بينما تنتشر المسيحية بنسبة 1.3% في السنة.
وحسب الإحصائيات المنشورة يعتنق الإسلام سنويا ما بين 30 ألف و40 ألف فرنسي، و500 ألف أميركي منذ تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وقال الشيخ هارون سينجوبا من اتحاد مجلس مسلمي شرق ووسط وجنوب أفريقيا "في أوغندا ينتشر الإسلام بسرعة. كل دقيقة يأتينا أناس يريدون اعتناق الإسلام".
وينتشر الإسلام في جنوب أفريقيا بين السود حيث 80% من السكان البالغ عددهم 45 مليون نسمة نصارى. حتى أن هذا الانتشار الواسع جعل أحد القساوسة الألمان يقدم على الانتحار مخافة من امتداد الإسلام.
فيما يتعلق بالإنجيلية، توقع الخبير الإحصائي الأنغليكاني دافيد بارانت في ثمانينيات القرن العشرين أن يقفز عدد المسيحيين الإنجيليين من 25% من مجموع المسيحيين إلى 44%، وأن ينخفض عدد المسيحيين الآخرين غير الكاثوليك من 25% إلى 23%، وأن يهبط عدد الكاثوليك من 50% إلى 33%.
عندما نشر هذه التوقعات سخر منه المختصون- كما يقول والتر ج. هولنويغر في بحث بعنوان "الإنجيليون مستقبل كوني للمسيحية" في كتاب "الجغرافيا السياسية للمسيحية"- إلا أنه في جميع الحالات كانت توقعاته صحيحة، لأن الإنجيلية انتقلت من صفر إلى 500 مليون ملتزم خلال قرن واحد، وهذا شيء لا نظير له في التاريخ كله. وخلال جيل قادم ستتجاوز كل الكنائس الأخرى، وهو ما يجري حاليا على قدم وساق.
مرة في كل سنة، تنصب الولايات المتحدة الأميركية نفسها حاميا لحمى الملة والدين، وتشهر سيف تقرير الحرية الدينية في وجه عدد من الدول، على رأسها الدول الإسلامية والصين.
في يناير/كانون الثاني 1996 انضم هوروفيتز إلى نيناشيا اليهودية المتعصبة رئيسة برنامج حقوق الإنسان في منظمة "بيت الحرية" ومؤلفة كتاب "عرين الأسد" الذي زعمت فيه أن مصر والسودان وإيران والسعودية وباكستان هي الدول الأكثر اضطهادا للمسيحيين، واعتبرت أن الإسلام مثله مثل الشيوعية في اضطهاد المسيحيين.
ونظم هوروفيتز ونيناشيا مؤتمرا عقد في واشنطن تحت عنوان "أثر الأسلمة على العلاقات الدولية وحقوق الإنسان" شارك فيه ستيف أمرسون التلفزيوني الأميركي المتعصب، صاحب الفيلم التسجيلي الشهير المعادي للإسلام "الجهاد في أميركا".
وفي يناير/كانون الثاني 1997 نظم هوروفيتز وبيت الحرية مؤتمرا تحت عنوان "اليوم العالمي للتضامن مع الكنيسة المضطهدة" حضره ممثلو أربعين ألف كنيسة في الولايات المتحدة تضامنا مع المسيحيين في الدول الإسلامية.
واتهم المؤتمر كلا من الكنائس الأميركية والإدارة الأميركية بالتقصير، ودعا إلى إنقاذ مسيحيي الشرق من "براثن الإسلام". (المسيح اليهودي ونهاية العالم/رضا هلال، مكتبة الشروق/ 2001).
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الإنجيليين الأميركيين وظفوا الفن السينمائي لتجييش مشاعر الأطفال وإعدادهم لخوض معركة صليبية وشيكة، ففي فيلم وثائقي حمل عنوان "معسكر يسوع"، يظهر عدد من الأطفال والدموع تنهمر من أعينهم، بينما يقال لهم إنهم "زائفون" و"منافقون"، وإن عليهم أن يغسلوا أياديهم بالمياه من أجل "طرد الشيطان"، وذلك خلال إعدادهم "للحرب" دفاعا عن الإنجيل، على غرار "المجاهدين" في فلسطين، بحسب القائمين على المعسكر.
وفي مشهد آخر يظهر الفيلم أيضاً أولئك الأطفال وهم مجتمعون ويدعون من أجل الرئيس الأميركي جورج بوش رافعين أيديهم في الهواء مترنحين ومغلقين أعينهم، وذلك قبيل أن ينشدوا أغنية "الحكام الصالحين" في وقت تسيل فيه دموعهم.
أما في الصين، فتتابع الولايات المتحدة الأميركية مساندة المسيحيين عامة، والإنجيليين خاصة، وتنشر أخبارهم وتنقل محنتهم وتبث شكواهم ودموعهم.
وحسب التقارير الإعلامية الأميركية المنشورة في عدة مواقع إلكترونية، فإن عددهم يتراوح بين 25 و40 مليون إنجيلي، استقبل الرئيس الأميركي في11 من مايو/أيار 2006 ثلاثة رموز من رموزهم هم المحامي ليبيغانغ والكاتب وانغ لي والروائي يو جي، وهو الأمر الذي اعتبرته بكين استفزازا ولعبا بالنار من لدن البيت الأبيض.
في أفريقيا يدور صراع ثلاثي بين مسيحيتين والإسلام. المسيحيتان الإنجيلية والكاثوليكية تطرد الواحدة منهما الأخرى في عدة بلدان ومناطق، والطارد هو الإنجيلية الأميركية، والمطرود هي الكاثوليكية الأوروبية، خاصة الفرنسية.
في نيجيريا مثلا وصل التأثير الإنجيلي الأميركي إلى قمة السلطة في شخص الرئيس أوباسانجو، والآن يعتزم القس ماكسويل أبراهام ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المقرر تنظيمها عام 2007.
والقس ماكسويل أبراهام هو رئيس أبراشية يوجد مقرها الرئيسي في العاصمة لاغوس. وقد شرع في تعبئة أتباعه الذين يتكتلون في "الحركة المسيحية الديمقراطية" لتشكيل "لوبي تيوقراطي" يحمله إلى كرسي الرئاسة السياسية بعد اعتلائه لكرسي الرئاسة الدينية.
وعلق موقع "المسيحية اليوم"، وهو موقع إنجيلي بروتستانتي، على هذا الخبر بأنه رد ضد موجة التدين الإسلامي وتطبيق الشريعة في شمال نيجيريا ذات الأغلبية المسلمة وأيضا في وسطها.
يحدث هذا في الوقت الذي مات فيه الزعيم الإسلامي لشمال نيجيريا في حادث طائرة لم يتحقق بعد من أسباب انفجارها.
وتعتبر القارة السمراء في أعين الإنجيليين الأميركين جنة موعودة وساحة للاكتساح الديني والسياسي معا, ويؤكد جوناتان بونك، ناشر المجلة الدولية للبحوث التبشيرية التي توزع في الولايات المتحدة الأميركية أن المسيحية انتشرت انتشارا كبيرا في القرن العشرين الذي عرف حركة استعمارية للدول الغربية على حساب الشعوب الشرقية والأفريقية.
ففي سنة 1900 كان عدد المسيحيين في أفريقيا حوالي 8.7 ملايين، ثم صعد العدد إلى 117 مليونا في سنة 1970 ليصل اليوم إلى 389 مليونا.
واستلم زمام التنصير بعد الأوروبين الإنجيليون الأميركيون الذين يعطون الأولوية للمبشرين السود من أصول أفريقية لتسهيل المأمورية، ويضغطون بكل الوسائل لاختلاق أقليات وجيوب تابعة في جميع الدول بما فيها دول المغرب العربي.
تساءل جوفروي دوتوركهايم في "أخبار الديانات" (العدد 3 مارس 1999 ص16). "هل سيكون القرن الواحد والعشرون إنجيليا؟" واعتبر المنظر الألماني اللوثري وولفهات بانينبيرغ أنه "إذا توقفت الكنائس البروتستانتية عن الدعوة للإنجيل كما هو بالضبط، رغبة في التكيف مع الثقافة المعلمنة، فلن يبقى في الساحة خلال القرن القادم سوى الإنجيليون".
مناطق متعددة من العالم تشهد الصراع بين الكنائس الإنجيلية الأميركية والكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية الأوروبية. وتحتل أميركا الجنوبية التي ظلت قلعة للكاثوليكية والبروتستانتية الأوروبية طليعة ساحات المواجهة، ويصل الصراع أوجه في الانتخابات التشريعية والرئاسية، وقد يعبر عن نفسه في الانقلابات والانقلابات المضادة.
في البرازيل مثلا، وحسب أندري كورتن، بروفيسور العلوم السياسية وعضو مجموعة البحث في التخيلات السياسية بأميركا اللاتينية وصاحب مؤلفات حول التحولات الدينية بالقارة المذكورة، فقد انخفضت نسبة الكاثوليك من 85% عام 1980 إلى 70% عام 2000.
ويرجع السبب إلى تحول في التدين الشعبي استغلته الإنجيلية الأميركية للتغلغل وسحب البساط من تحت أرجل الكاثوليكية.
وهذا التحول الكبير لا يستثني أي دولة من دول أميركا اللاتينية سوى المكسيك. في مطلع القرن العشرين كانت معظم الدول اللاتينية كاثوليكية 100%، لكن الوضع أخذ ينقلب بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الكنائس الأميركية حتى أصبحت هي الغالبة في بعض الدول، ووصل بعض الرؤساء الإنجيلين إلى الرئاسة في كل من غواتيمالا (الرئيس إفران ريوس مونت بانقلاب عام 1985، ثم الرئيس جورج سيرانو إلياس بانتخابات 1991، والرئيس ألبيرتو فوجيموري بالبيرو في السنة نفسها، والرئيس البرازيلي داسيلفا خلال ولاية سابقة ثم أعيد انتخابه في مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2006.
ولا تكتفي الإنجيلية الأميركية بهذه "الفتوحات" في أميركا اللاتينية، بل تزاحم كنائس أوروبا برمتها حتى اشتكت الكنسية الفرنسية من هذا الغزو.
الحرب قائمة وليست قادمة باعتراف رئيس الوزراء الإسباني الأسبق وزعيم الحزب الشعبي خوسيه ماريا أزنار الذي قال بالحرف في محاضرة بالولايات المتحدة –ويا لها من مناسبة- حيث القيادة العامة للإنجيلية "إننا في زمن حرب، فإما هم وإما نحن، الغرب لم يهاجم الإسلام، إنهم هم الذين هاجمونا".
ومما يؤسف له أن تنخرط الكنيسة الكاثوليكية في أجواء التوتر وإعلان الحرب من لدن الإنجيلية الأميركية على الآخرين، ويخشى أن تكون تصريحات البابا التي اتهم فيها الإسلام بالعنف واللاعقلانية انسياقا واستجابة للضغوط الأميركية.
حرب الأديان تجيش لها الولايات المتحدة الأفئدة والكتائب، وهي تعتقد أنها وريثة المسيحية وحاملة رسالتها في العالم اليوم. وهي المسؤولة وحدها عن مآسي هذه الحرب في الحال والمآل، وعلى المسلمين العلماء وأهل الكتاب العقلاء وأهل الحياد الحكماء، العمل على نزع الفتيل من المهووسين المتسترين وراء المسيح عليه السلام، وهو منهم لا شك متبرئ متملص، عند العودة والنزول ويوم الميقات المعلوم.
الحسن السرات
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد