جردة الثقافة السورية في 2015
لا تتجاوز الحرب دور السينما والمسارح وصالات العرض التشكيلي وحــسب؛ بل تتغــلغل بدخانها الأسود في طيات صفحات الإصدارات السورية التي تشهد ملامسات عمياء للكارثة في عامها الخامس؛ فمن إعادة فرز الهيئة العامة للكتاب لعناوين مشبوهة مررها المدير السابق للهيئة جــهاد بكفلوني وتمّت طباعتها على حساب وزارة الثـــقافة؛ إلى غلبة عروض مسرح العنف على مجمل الريبرتوار الوطني؛ وصـــولاً إلى المحترف التشكيلي ومسوخه المرعبة؛ ومحاولات السينمائيين السوريين تقديم وثيقة في أفلامهم عن الكابوس؛ تنهض فيها صور الضحايا من الشاشة الذهـــبية نازعةً سكين القاتل عن أعناقها.
يبحث الفنان التشكيلي طلال معلّا عمّن يسانده في مشروعه بإدراج «دمشق مدينة مبدعة» على قوائم منظمة اليونسكو لعامي 2015- 2016؛ فالمشروع الذي طلبت المنظمة الدولية تسجيله في لوائحها، يحتاج إلى تضافر العديد من الجهود الحكومية والهيئات والجمعيات الأهلية. الفعالية التي تساهم اليوم في تدوين ودعم الحِرف اليدوية والفنون الشعبية والموسيقى كعناصر أولية لهذا الطموح؛ أتت مع اقتراب البلاد من إتمام عامها الخامس للحرب؛ حيث تحاول العاصمة السورية - على أقل تقدير - ألا تكون مدينة مفزعة كغيرها من شقيقاتها في المدن التي التهمت المعارك الشرسة، نصفها أو كلّها تقريباً كما هو الحال مع حلب وحمص والرقة ودرعا وإدلب.
توهّج الفن والثقافة في دمشق يعكس مزاجاً آخر من مقاومة الموت العبثي؛ فالجبهات المشتعلة تكاد تكون على مسافة أمتار عديدة فقط من عتبات المسارح والصالات الكبرى للعاصمة. هكذا لن يبالي جمهور دار الأوبرا بتعرضها يومياً لقذائف وصواريخ آتية من جبهات الريف الدمشقي موديةً بأرواح العديد من موظفيها وروّادها على حدٍ سواء؛ حيث ستحقق (الدار) وعلى امتداد عامٍ كامل برامج واسعة من الحفلات الموسيقية؛ تصدّر فيها مطربو حلب الهاربون من مدافع (جهنم) المصبوبة على أحيائهم واجهة ليالي الأوبرا السورية.
حفلان موسيقيان عن ذكرى الإبادتين الأرمنية والسريانية في «أوبرا دمشق» كانا كفيلين بإثارة حنق بعض الرؤوس الحامية في الطرف المقابل من الجمهور؛ مما استدعى قراراً شفهياً بإيقاف حفلات الدار ذات الطابع الديني، وإلغاء العديد من الفعاليات المشابهة خوفاً من استفزاز جمهور مضاد يراقب ويريد حصته من الدوخة السورية!
جوائز
سيطرة الميليشيات المسلحة ومافيات الحرب على مسرحَي تدمر وبصرى الأثريين وتحويلهما إلى منصات لعمليات الإعدام الجماعية؛ سيكون له أثر الصدمة عند جمهور لطالما تابع على مدرجيهما العريقين أكبر العروض الفنية العالمية، لكنه اليوم سيقف مشدوهاً أمام ما فعله تتار الألفية الثالثة بعالم الآثار السوري خالد الأسعد؛ والذي قضى ذبحاً بعد تعليق جثمانه على عمود كورنثي من أعمدة السوق الرئيسية في تدمر؛ ليلقى مصيراً مشابهاً لما فعلته قوات الإمبراطور الروماني «أورليان» بعد دخولها إلى المدينة 272 م وقتلها للمفكر «لونجينوس الحمصي» المستشار الأدبي لزنوبيا وصاحب كتاب «ما هو سامٍ في الفن»، أول مؤلَّف على وجه الكوكب في علم الجمال.
حجم الآثار المنهوبة لعام 2015 تجاوز عمليات الإحصاء، وبرغم من أن مديرية الآثار والمتاحف قامت مؤخراً بالتوثيق إلكترونياً لآلاف المواقع والقطع الأثرية السورية ووزعت صوراً منها على الأنتربول الدولي لاستعادتها من شبكات التهريب؛ إلا أن عمليات التنقيب غير الشرعية لازالت مستمرة من قلب المدن القديمة في إيبلا وماري والمدن الميتة إلى تجار آثار في تركيا وأوروبا.
الجوائز التي انتزعتها السينما السورية لهذا العام جاءت بمثابة اعتراف بالفيلم السوري من مهرجانات العالم بعد قرابة أربع سنوات من المقاطعة؛ لاسيما الذي تنتجه المؤسسة العامة للسينما، حيث حاز فيلم «بانتظار الخريف» لجود سعيد جائزة «أفضل فيلم عربي»، في مهرجان القاهرة، وانتزع فيلم «رسائل الكرز» لمخرجته سلاف فواخرجي جائزة «أفضل فيلم عربي» في مهرجان الإسكندرية؛ بينما نال فيلم «المهاجران» لمحمد عبد العزيز جائزة «الكاميرا الذهبية» في مهرجان الفيلم لعربي بهولندا.
شهد العام 2015 تصوير العديد من الأفلام الروائية الطويلة التي ركزت على ثيمة الحرب؛ كان في مقدمتها فيلم «تحت سرّة القمر» لغسان شميط؛ بينما أنهت كاميرا المخرج عبد اللطيف عبد الحميد تصوير جديده «أنا وأنتِ وأمي وأبي»، عن سيناريو من كتابته؛ وفي هذا الشريط يذهب صاحب «نسيم الروح» إلى قراءة مغايرة للجرح الغائر عبر لغة متوازنة وبعيدة عن الانتصار لطرف على حساب آخر. بالمقابل أنهى نجدت إسماعيل أنزور العمليات الفنية على شريطه السينمائي الأول الذي يتعاون فيه مع «المؤسسة العامة للسينما» وجاء بعنوان «فانية وتتبدّد». في هذا الشريط يكمل صاحب «ملك الرمال» ما بدأه في مشروعه التلفزيوني من بحث عن منابع التطرف والإرهاب اجتماعياً وسياسياً.
«مسرح الشوك»، التجربة الأبقى في ذاكرة مسرحيي البلاد؛ شهدت نهايتها هذا العام مع رحيل مؤسسها الفنان عمر حجو، لتسيطر عروض المونودراما بشكل شبه كلي على المشهد المسرحي السوري؛ فلقد اكتظت المسارح بحضور متفاقم لمسرحيات الممثل الواحد بعد هجرة كثيفة للممثلين والفنيين إلى خارج البلاد؛ واعتصام بعضهم الآخر بمسلسلات التلفزيون المُنتجة في الجغرافيات المجاورة. هكذا تقدّم الخشبة السورية على التوالي عروضاً في هجاء الحرب؛ قام ممثلون بأدائها وكتابتها لأنفسهم؛ من قبيل «قهوة مرة» لحازم عبد الله؛ و «سكتة قلبية» لمنصور نصر؛ و «إعادة تدوير» لسامي نوفل، و «نبوءة» لسامر عمران؛ بينما قدّم حسين خضور من أدائه وإخراجه مسرحية راقصة بعنوان «زيارة ذاتية» عن رواية «الحمامة» لباتريك زوسكيند؛ وفيها تقصّى «خضور» مآلات الحرب في عمق اختلاجاتها النفسية وتعقيداتها الاجتماعية؛ في حين قدمت فرقة «عيون» من الجولان السوري المحتل عرضها «شرق أوسط جديد» لمخرجه بشار مرقص؛ وفيها تابع الجمهور دفن امرأة وهي حيّة ترزق من قبل متطرفين إسلاميين؛ في محاكاة لبشاعة المأساة الدائرة في بلادهم المحررة من السلام!
في المقلب الآخر يطارد المخرج عروة العربي حالياً أوراق أعضاء فرقته؛ من أجل استكمال ثبوتيات ممثليه وفنييه للسفر بمسرحيته «مدينة في ثلاثة فصول» إلى مهرجان المسرح العربي بالكويت. العرض الذي اقتبسه (العربي) عن نص لمصطفى الحلاج أنتجته «مديرية المسارح والموسيقى» كواحد من أقوى العروض التي جابهت الحرب في أقصى شروطها الفنية والإنسانية؛ حيث كان من بين العديد من عروض المسرح القومي التي حاولت تحقيق خطاب متوازن لجمهورها، جاءت في مقدمتها مسرحية «هدنة» لمخرجها مأمون الخطيب، وعرض «زبيب» لمخرجته نسرين فندي، إضافةً لعرض «زجاج ـ مواطنون فنانون ـ آفاق) الذي حقق عبره مخرجه أسامة غنم مستوى آخر من التجارب المسرحية التي أطلت على خرابات أصابت الطبقة الوسطى للبلاد وأحالتها إلى أطلال؛ وذلك عبر اقتباسٍ ذكي لنص «الحيوانات الزجاجية» للأميركي تينيسي وليامز.
تشكيل
الفن التشكيلي عانى هذا العام من فقدان العديد من أسمائه؛ حيث طوى الرائد «ناظم الجعفري» ( 1918- 2015) برحيله عن عمر ناهز تسعة وسبعين عاماً؛ مرحلةً من أغنى مراحل المدرسة الانطباعية السورية؛ تاركاً وراءه مصيراً مجهولاً لمئات اللوحات والتحف الفنية التي حفِل بها مرسم «الجعفري» في مشغله بدمشق. كنز مبعثر لم تلتفت له مديرية الفنون الجميلة التي تقول إنها شرعت في أرشفة إلكترونية هي الأخرى لأعمال الرواد؛ ليكون الحدث الأبرز تشكيلياً لهذا العام افتتاح «مركز الفنون البصرية» في «كلية الفنون الجميلة»، وذلك بعد افتتاح «المديرية» لقاعة عرض متواضعة في صالة «الرواق» حملت اسم الراحل «لؤي كيالي» وصفها البعض أنها جاءت كنوع من رفع العتب!
المعارض الجماعية كان لها حضورها في دورتي «الربيع» و «الخريف» اللتين خيّبتا ظنّ الكثيرين من عشاق ومتابعي الفن التشكيلي؛ فلم تعكس معظم الأعمال المشاركة في هذين المعرضين بلاغة بصرية قادرة على تهجئة معجم الحرب من ألف الخراب إلى ياء الدم؛ بينما عوّضت المعارض الفردية ـ على ندرتها ـ عن تراجع الجرأة الفنية للمعارض الرسمية؛ ففي ظل إقفال معظم الصالات داخل البلاد؛ كان معرض «انتهى زمن الصمت - تجليات» لطلال معلّا صادماً من حيث قدرة أعماله على مصارحة الجمهور بتضاريس الكارثة؛ وفيه مهّد معلّا لمعرضه الآخر في بيروت «أرى الناس» مُرخياً العِقال لكائناته اللونية نحو أقاصي وحشتها واغترابها البشري.
الفنان بطرس المعري أطلق بدوره صرخته «أوقفوا الحرب» من باريس؛ مستعيداً ذاكرته الدمشقية وحنينه الغامض إلى الأمكنة الأولى في أحدث معارضه؛ ليسجل النحات الشاب بهزاد سليمان معرضه النحتي الأول في صالة «آرت هاوس» مشتغلاً على الحجر الصناعي وخشب المشمش؛ مستعيداً بذلك ذكريات العنف والغربة في محترف قارب أعمال الراحل محمود جلال ولوحاته عن «أطفال عامودا» الذين قضوا حرقاً داخل صالة للسينما.
النشر
الأخبار الدموية التي رشحت لفنانين خارج البلاد تزامنت مع رحيل بعضهم في المغترب؛ بعد تقطع السبل بهم وابتعادهم القسري عن جحيم الاقتتال الدائر، فمحمد الوهيبي مات في برلين مغادراً نقوشه وطواطمه الفلسطينية في مرسمه على سفح قاسيون، فيما قضى شاعر اللون عمر حمدي «مالفا» في فيينا بعد سنوات من الترحال؛ ليقضي بدوره رائد الحداثة المحلية غسان السباعي إثر أزمة قلبية؛ مخلّفاً وراءه أسماكه ونساءه بين الدماء والنار؛ فيما توفيت شكران الإمام أرملة الفنان فاتح المدرّس في بيتها بمشروع دمّر؛ تاركةً مرسم أبرز رواد الفن السوري في «ساحة النجمة» مغلقاً حتى إشعار آخر!
هذه الملامح السوداء للثقافة السورية العام 2015 لم تأتِ على ما يبدو من فراغ؛ فقد استمرت الأمور على أسوأ ما يُرام بالنسبة لحركة النشر؛ والتي شهدت هي الأخرى تراجعاً كبيراً؛ فالحرب أدت إلى صعود صاروخي في أسعار الورق وأجور الطباعة؛ مما أطاح بتاريخ العديد من دور النشر السورية التي وقعت أمام خيارين، إما إغلاق الدار أمام عجز وشلل اتحاد الناشرين السوريين عن مد يد العون، أو المشاركة بأسماء دور نشر لبنانية ومصرية في معارض أربيل وأبو ظبي والشارقة وسواها.
واقع النشر في سورية شهد أيضاً كارثة من النوع الثقيل على المستوى الرسمي، إذ استرجع توفيق أحمد مدير «الهيئة السورية للكتاب» أكثر من مئة وتسعين عنواناً كانت في طريقها إلى النشر؛ محيلاً هذه الكتب التي أرسلت إلى مطبعة الوزارة بقرار من المدير السابق جهاد بكفلوني؛ إلى لجان قراءة قام «أحمد» بتشكيلها بنفسه على خلفية طباعة «الهيئة» عناوين تروّج للمذهبية وتمجيد دولة الخلافة! (راجع السفيرـ 24 ـ تشرين الأول ـ 2015).
هذا الواقع لم يثنِ العديد من الأدباء السوريين عن إصدارات روايات تستنطق الحرب؛ وتلخص مشهديتها القاتمة، فقد شهد معرض بيروت للكتاب تواقيع عديدة لروائيين سوريين كانت في مقدمتهم رواية «ألماس ونساء» للينا هويان الحسن، في حين وقّع هاني نديم ديوانه الجديد «متحف الوحشة» وأصدرت سندس برهوم روايتها الأولى «عتبة الباب» وتابع نبيل سليمان منمنماته السردية في روايته الجديدة «جداريات الشام» وأصدر عادل محمود روايته الثانية «شكر للندم» مسقطاً مأساة الثمانينيات على ما يحدث اليوم.
خالد خليفة لم تتأخر روايته الأحدث «الموت عمل شاق»، في حين أصدر أيمن زيدان مجموعته القصصية «أوجاع» لتحدث رواية «المياه العائمة» لمؤلفها الراحل صميم الشريف جدلاً عند بعض المتزمتين بآرائهم عن طهرانية مدينة دمشق وامتناعها عن أن تكون مدينة إيروتيكية بلثام صوفي!
الشاعر نزيه أبو عفش كان له إصداره الجديد الذي جاء بعنوان «تصديق الهذيان» وفيه تابع سيرته الشعرية ملتمساً حساسية جديدة عن الحرب الدائرة، في حين قدّم محمد عضيمة مختاراته الشيقة في كتابه الجديد «ديوان الشعر العربي» (اختيارات من شعر أدونيس) وليوقّع خليل صويلح كتابه «قانون حراسة الشهوة» (غاليري القصيدة الدمشقية) في البلدة القديمة، حاله في ذلك حال العديد من الملتقيات الشعرية التي نبتت في ظل الحرب؛ والتي شهدت لأول مرة حضور الشاعر اسكندر حبش من بيروت في ملتقى «يا مال الشام» الذي يديره المسرحي أحمد كنعان منذ اندلاع الأحداث وحتى الآن.
إضافة تعليق جديد