حرب لبنان وإحياء الدور الإقليمي لسوريا
لا يمكن قراءة الموقف السوري من الحرب الإسرائيلية على لبنان إلا بالنظر إلى طبيعة العلاقات السورية – اللبنانية التي حكمت البلدين قبل فترة الحرب، فالموقف السوري من الحرب كان من الممكن أن يختلف جذرياً لو كانت العلاقة بين البلدين على ما كانت عليه خلال فترة التسعينات، أو خلال فترة ما أصبح يُعرف بالتعبير اللبناني «فترة الوصاية السورية»، هذا على رغم أن الطرف الآخر ( إسرائيل) ما زال يُعتبر عدواً محتلاً في نظر البلدين خلال فترة الوصاية وما بعدها، ففي فترة التسعينات كان الموقف السوري دائم الحديث عن دعم الدولة اللبنانية والمقاومة باعتبار أن الثانية تعبيرٌ مشروع عن الأولى، وكان يؤكد باستمرار دعمه الحكومة اللبنانية التي هي جزء من مؤسسات الدولة، لكنه اليوم يتحدث عن دعم «الإجماع اللبناني» في إشارة غير مباشرة إلى رغبته في دعم المقاومة على حساب الحكومة اللبنانية التي بات على خلاف كبير معها.
دخلت العلاقة السورية - اللبنانية منعطفاً جديداً بدأ من الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار (مايو) 2000 قبل وفاة الرئيس حافظ الأسد بأيام قليلة، إذ انسحبت إسرائيل من كامل الجنوب في 24 أيار باستثناء مزارع شبعا التي اعتبرها مجلس الأمن خاضعة للسيادة السورية في حين أكد السوريون أنها تتبع للسيطرة اللبنانية، بالإضافة إلى بعض الخلافات حول نقاط ترسيم الخط الأزرق.
كان الانسحاب نصراً لبنانياً بامتياز لا سيّما أنه تم من دون شروط إسرائيلية مفروضة على لبنان. وما سرّع الانسحاب وصول معلومات استخبارية لرئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك حول صحة الرئيس حافظ الأسد تؤكد أن وضعه الصحي حرجٌ تماماً وانه احتاج إلى منشطات للمشاركة في قمة جنيف مع الرئيس الأميركي بيل كلينتون التي عقدت في آذار (مارس) 2000، لذلك حسم باراك خياره بالانسحاب المبكر من لبنان حتى قبل الموعد المقرر في تموز (يوليو) 2000 لأنه خشي أن تفلت الأمور بوفاة الأسد فلا أحد على الإطلاق كان يعرف حقيقة السيناريو المعد لخلافته وإن كان الجميع يتوقع أن ابنه بشار سيكون وريث أبيه، لكن نجاح السيناريو وإتمامه كان في علم الغيب، لذلك قرر باراك الانسحاب والأسد على قيد الحياة لأنه أوثق ضامن لعدم حدوث اعتداءات على الجبهة اللبنانية تضع المنطقة على شفا حرب لا يبدو الجميع مستعدون لها.
بعد وفاة الأسد وتولي الرئيس بشار الأسد السلطة أصبحت العلاقة السورية - اللبنانية موضع نقاش جدي داخل لبنان، خصوصاً مع صعود الاحتجاجات الداخلية المطالبة بخروج القوات السورية وفقاً لاتفاق الطائف نظراً الى انتهاء دورها، لكن التغير الدولي كان الأهم في حجمه، فحدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 مع مجيء إدارة أميركية جديدة بأجندة دولية وإقليمية مختلفة، ثم حرب العراق، وانتهاء بصدور القرار 1559 الذي دعا إلى احترام سيادة لبنان وكان بمثابة صفعة موجهة إلى دمشق بعد دعمها التمديد للرئيس لحود بعد تعديل دستوري أثار الكثير من النقاش والاحتجاجات داخل لبنان.
كانت سورية أعادت انتشار قواتها العسكرية من لبنان أربع مرات قبل صدور القرار الدولي، لكن الجديد هذه المرة كان التشدد الفرنسي إزاءها. لذلك وجدت نفسها في «مأزق صعب» في لبنان. وتمثلت الخسارة السورية الأكبر من هذه الخطوة في توتر «العلاقة الإستراتيجية» مع فرنسا، بعدما وصلت هذه العلاقة إلى مستوى متقدم جداً من التنسيق والتوحد في المواقف، فأعاد الموقف الفرنسي في مجلس الأمن، الذي كان المحرك الفعلي لصدور القرار، العلاقة السورية – الفرنسية إلى زمن التوجس والترقب والحذر، لا سيما أن دمشق باتت وحيدة تماماً على رغم توقيعها اتفاق الشراكة بالأحرف الأولى في مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2004.
ومع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري دخلنا حقبة جديدة ذات عناوين جذرية على مستوى العلاقات السورية - اللبنانية وعلى مستوى علاقات سورية الإقليمية والدولية، فبالنسبة الى المعارضة اللبنانية التي أطلقت «انتفاضة الاستقلال» حان الوقت كي تُصاغ هذه العلاقة وفق منطق مختلف عن «المسار الواحد «أو الشعار الشهير «شعبٌ واحد في دولتين». أما بالنسبة الى المجتمع الدولي الذي دفع بالقرار 1559 بعد اغتيال الحريري إلى قائمة أولوياته، واتفقت عليه الرؤيتان الأميركية والأوروبية، فإنه أصبح لا يرى في العلاقة السورية - اللبنانية إلا احتلالاً سورياً قائماً على الهيمنة والسيطرة الأمنية والاستخبارية، وتصاعد الكلام على اتهام سورية باغتيال الحريري أو أنها مسؤولة في شكل غير مباشر عن اغتياله بسبب سيطرتها المحكمة على الوضع الأمني في لبنان.
بعد ذلك سيطرت المعارضة اللبنانية على معظم مقاعد مجلس النواب بعد فوزها في الانتخابات التي تلت الانسحاب السوري، ومن ثم امتلكت زمام المبادرة في شكل كامل. لكن دمشق لم تحاول إعادة تأسيس علاقتها مع لبنان وفق منظور مختلف بعد انسحابها بل تجاهلت في شكل تام ضرورة تأسيس هذه العلاقة وفق أسس جديدة تتجاوز مبادئ «الخاصرة الرخوة» أو معنى «الملف»، وهو ما راكم الأخطاء في شكل أتاح الانفجار دفعة واحدة في وجه دمشق.
كانت دمشق تصر باستمرار على أن العلاقة بين سورية ولبنان تحكمها اتفاقات ومواثيق، وتحددها مؤسسات الدولتين، وهكذا فإن قصر نظر السياسة السورية التي تعتمد الأشخاص في بناء السياسات الإستراتيجية الحقيقية جعلها تتخذ قراراً بالتمديد للرئيس اميل لحود وفرضه عبر مجلس النواب اللبناني في شكل أو آخر. ولم يجد المواطنون السوريون حقيقة، عدا عن اللبنانيين بالطبع، تبريراً واحداً يشرعن هذه الخطوة أو يجعلها مستساغة.
ثم جاء إعلان سورية انسحاب قواتها واستخباراتها الكاملة قبل نهاية شهر نيسان (أبريل) 2005 ليطوي صفحة الدور الإقليمي السوري في لبنان.
هكذا نفذت دمشق الشق المتعلق بها في القرار 1559 تحت ضغط دولي شديد وصل الى درجة درجة التلويح بخيارات أخرى استناداً إلى البند السابع، واستخدمت معها العصي من دون إظهار أي جزرة، لذلك لم يعد منطق الرئيس حافظ الأسد في المقايضة هنا واقعياً أو قابلاً للتحقق أو الصرف، فالإدارة الأميركية الحالية ترى أن على دمشق تنفيذ الالتزامات المتعلقة بها فيما يتعلق بالعراق ولبنان وفلسطين من دون شكر على واجبها المنوط بها. وفي الوقت نفسه تبدو دمشق مقتنعة تماماً أن الانسحاب لن يكون نهاية الضغوط الأميركية عليها، وهذا ما حصل فعلاً، فالولايات المتحدة انتظرت ملف الانسحاب حتى أغلق في شكل نهائي لتفتح ملفاً آخر يتعلق بالوجود الاستخباراتي والضغط لتنفيذ الشق الآخر من القرار 1559 المتعلق بنزع سلاح حزب الله.
وصدر قرار جديد من مجلس الأمن 1636 نص على عدم تعاون سورية الكافي مع مجلس الأمن، وصيغ من ضمن الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة ما جعل التلويح بالعقوبات الدولية كعصا غليظة قابلة للتطبيق في أي لحظة، خصوصاً أن القرار الدولي أعطى لجنة التحقيق الدولية المستقلة صلاحيات مطلقة. ثم أتى التقرير الثاني للمحقق ديتليف ميليس مذكراً بعدم التعاون السوري الكافي والبطيء مع لجنة التحقيق الدولية، مما فتح الباب على خيارات عدة أسوأها العقوبات الدولية بخاصة بعد تأكيد القرار الدولي السابق بقرار آخر رقم 1644. ثم أصدر مجلس الأمن قراراً جديداً حمل الرقم 1680، بتأييد 13 دولة وامتناع الصين وروسيا عن التصويت، ودعا فيه إلى ترسيم الحدود بين لبنان وسورية «خصوصاً في المناطق التي تعتبر فيها الحدود غير مؤكدة أو محل نزاع (في إشارة إلى منطقة مزارع شبعا)، وإقامة علاقات وتمثيل دبلوماسي كاملين». وأهاب المجلس بالحكومة السورية أن تتخذ إجراءات مماثلة لتلك التي اتخذتها الحكومة اللبنانية «ضد عمليات نقل الأسلحة إلى الأراضي اللبنانية». وكان رد دمشق عنيفاً، إذ وصفت الخارجية السورية القرار بأنه «إجراء غير مسبوق» و»تدخل في صلب الشؤون السيادية والثنائية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، واستفزاز يعقد الأمور». هكذا بدت بيروت في نظر دمشق مركزاً للتقلبات القادمة، ولم يبق الخوف السوري من العراق، ذلك البلد الذي يعيش حالة من الحرب الأهلية، وإنما من بيروت التي كانت حتى وقت قريب الحليف الأوثق لدمشق.
تلك كانت الأجواء السورية – اللبنانية ما قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وأتت الحرب المفاجئة التي لم تكن تتوقع دمشق رد الفعل الإسرائيلية تجاهها لتغير قواعد اللعبة، على حد تعبير أحد المسؤولين السوريين، باعتبار أن خلط الأوراق سيكون في مصلحة سورية في المآل الأخير.
في البداية حمل الجانب الرسمي السوري وعلى لسان نائب الرئيس فاروق الشرع إسرائيل المسؤولية عن التصعيد وان «المقاومة ستستمر طالما بقي الاحتلال». ونوهت الصحف الرسمية بأسر «حزب الله» جنديين إسرائيليين. في ظل عدم الحسم الإسرائيلي تجاه الموقف من سورية مع بداية الحرب، إذ سادت حال من الترقب للتصريحات الأميركية والإسرائيلية ازاء احتمال حصول اعتداءات إسرائيلية على مواقع في سورية. وبينما كانت الحكومة الإسرائيلية في السابق تشير بأصابع الاتهام الى سورية، جاء بيان حكومة أولمرت الذي أعلن فيه الحرب مركزاً على الحكومة اللبنانية. كما لم تجر الإشارة الى دمشق في البيان الإسرائيلي. وعندما سئل أولمرت عن ذلك، قال: «إن سورية بلد بحكومة ذات طبيعة إرهابية. وان الاستعدادات المناسبة يجب القيام بها لمعالجة الوضع بالنسبة الى سلوك الحكومة السورية».
الموقف الأميركي جاء مختلفاً، إذ قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي فريدريك جونز: «نحمل سورية وإيران اللتين تدعمان حزب الله، مسؤولية الهجوم والعنف الذي تلاه»، كما أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قالت ان لدى «سورية مسؤولية خاصة لاستعمال دورها والتأثير في شكل إيجابي»، قبل أن يقول الرئيس جورج بوش: «يجب أن تحاسب سورية على أفعالها».
لكن إسرائيل بدت حريصة عبر تصريحات قادتها ووسائل إعلامها على ما وصفته بـ «تهدئة روع» سورية، وطمأنت الى أن استدعاء عشرات الآلاف من أفراد قوات الاحتياط ليس لغرض هجوم عسكري عليها. وكررت القيادات العسكرية ثم السياسية رسالة مفادها أن إسرائيل بعثت «عبر قنوات مختلفة» برسالة واضحة الى سورية «لطمأنتها بأنه ليست لدينا نية في مهاجمتها، وأن استدعاء الاحتياط مرتبط فقط بالحرب في لبنان وليس لغايات أخرى».
وقال وزير الدفاع عمير بيريتس «إن إسرائيل تعمل كل ما في وسعها لتبقى الجبهة السورية على وضعها الراهن «ونحن ننقل هذه الرسالة ونرجو أن يتم استيعابها، ونأمل أيضاً في أن لا يجر حزب الله سورية إلى الحرب». هذا على رغم أن إسرائيل اتهمت حزب الله باستخدام أسلحة روسية مخصصة لسورية، حيث نسبت صحيفة «معاريف» الى مسؤولين أمنيين أن تل أبيب قدمت إلى موسكو وثائق تثبت أن «حزب الله» استخدم أسلحة روسية مخصصة أصلاً للجيش السوري.
لكن سورية أكدت في ما بعد أن أي هجوم إسرائيلي عليها سيقابل برد مباشر كما عبّر وزير الإعلام السوري محسن بلال وقال في أول رد فعل رسمي سوري منذ شن إسرائيل هجومها الواسع النطاق على لبنان، إن «أي عدوان إسرائيلي على سورية سيقابل برد سوري حازم ومباشر لا حدود له لا بالزمن ولا بالأساليب». وأوضح انه «في حال تعرضنا لعدوان سنرد الرد الكافي الذي تستحقه يد العدوان والعربدة الإسرائيلية في المنطقة». وأعرب عن «دعم سوري» للمقاومة الوطنية اللبنانية في تصديها للعدوان الإسرائيلي» وعن اعتقاده بأن «المقاومة ستنتصر».
وشعبياً فقد شهدت سورية حركة عبور كثيفة للاجئين لبنانيين أصبحوا يزدادون تباعاً مع تزايد الأعمال العسكرية الإسرائيلية في لبنان، خصوصاً بعد ضرب مطار رفيق الحريري الدولي. واستضافت سورية ما يعادل 400 ألف لاجئ لبناني خلال الحرب، استضافهم السوريون في منازلهم وتبنت منظمات وجهات خيرية غير حكومية دعمهم وتأمين إقامتهم ومعاشهم.
وخلال فترة الحرب بدا الموقف السوري أيضاً منفرداً عن غيره من الدول العربية، ويعود ذلك في رأينا إلى موقف سورية من الحكومة اللبنانية والأطراف الداعمة لها بأكثر مما يعود كموقف عقائدي داعم للمقاومة. إذ عشية اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت في آب (أغسطس) 2006 بهدف الوصول إلى موقف عربي «موحد» من العدوان الإسرائيلي على لبنان، وصل وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى بيروت في أول زيارة لمسؤول سوري منذ الانسحاب من لبنان في نيسان 2005. وأثارت زيارته حينها والتصريحات التي أدلى بها عاصفة من ردود فعل قوى 14 آذار، بدأت بتنظيم تظاهرة احتجاج على زيارته أمام سرايا جبيل مما حال دون استقبال وزير الخارجية اللبناني فوزي صلوخ له هناك، ونقل مكان الاستقبال إلى سرايا طرابلس. كما أثارت زيارته ردوداً حادة أبرزها للنائب وليد جنبلاط الذي اتهمه «بالمزايدة على آخر نقطة دم من الشعب اللبناني» وقال: «لولا أصول الضيافة واللياقة لوجب رجمه وطرده من البلاد».
ذلك أن المعلم قال وهو في طريقه إلى الاجتماع الوزاري أن سورية «سترد على أي اعتداء» إسرائيلي عليها فوراً. وأضاف رداً على سؤال عن احتمال قيام حرب إقليمية: «أهلاً وسهلاً بالحرب الإقليمية ونحن مستعدون لها ولا نخفي استعداداتنا». ثم أضاف «أنا مستعد لأن أكون جندياً عند السيد حسن نصر الله». وأعلن حينها أن سورية «تدعم النقاط السبع، التي توصلت إليها الحكومة اللبنانية لوقف الحرب، طالما اتفق عليها اللبنانيون»، شرط أن يضم التوافق اللبناني «كل الفئات الفاعلة على الأرض اللبنانية وحزب الله جزء أساسي وهو الذي يقود المعركة إلى جانب شعب لبنان والجيش اللبناني الباسل». ووصف مشروع القرار الأميركي – الفرنسي في صيغته الأولى المقدم إلى مجلس الأمن بأنه «وصفة لاستمرار الحرب كما انه وصفة لاحتمال اندلاع حرب أهلية في لبنان»، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه الرئيس بشار الأسد من مشروع القرار إذ وصفه بأنه «وصفة» لعدم الاستقرار.
خشية دمشق كانت تنبع من مقترح نشر القوات الدولية في جنوب لبنان ونزع سلاح «حزب الله»، إذ رأت أن ذلك يعني «خسارة لحزب الله وابتعاده عن الحدود وفقدانه القدرة الردعية وفقدان حليف سياسي أساسي لدمشق». ثم أتت تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية عن « الشرق الأوسط الجديد « لتزيد الشكوك السورية بأن ترتيباً إقليمياً جديداً للمنطقة بدأ يتخلق من دون علم سورية أو احترام مصالحها، لذلك كانت واضحة في رفضها مشروع القرار في صيغته الأولى، وإن كانت تداخلها رغبة في الحفاظ على قدرات حزب الله سليمة أو ما تبقى منها على الأقل، وهذا ما دفعها فيما بعد لقبول القرار 1701.
وبعد أكثر من شهر على الحرب الإسرائيلية على لبنان وبعد مفاوضات مضنية استمرت أسابيع، اعتمد مجلس الأمن بالإجماع القرار 1701 الذي يدعو إلى وقف الأعمال الحربية بين إسرائيل و»حزب الله» تمهيداً لوقف نار دائم، وانسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية بالتزامن مع انتشار الجيش اللبناني في الجنوب تدعمه قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان «اليونيفيل» التي تقرر تعزيزها ليصل عديدها إلى 15 ألف رجل مزودين عتاداً وصلاحيات أوسع. كذلك وضع القرار قضية مزارع شبعا على جدول أعمال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان مدة شهر. .
وعلى رغم الاعتراضات اللبنانية، ذلك أن القرار يتيح لإسرائيل تنفيذ عمليات عسكرية دفاعية، فيما أرجأ بت النزاع على مزارع شبعا إلى مرحلة لاحقة. ولم يتضمن مطالبة بالإفراج عن الأسرى اللبنانيين الذين تعتقلهم إسرائيل، كذلك لم يتضمن مطالبة بانسحاب فوري للقوات الإسرائيلية، في حين شدد على الحاجة إلى إطلاق غير مشروط للجنديين الإسرائيليين اللذين أسرهما «حزب الله» في 12 تموز 2006. وفي لب القرار عنصران: السعي إلى وقف فوري للقتال الذي بدأ في 12 تموز، وسلسلة من الخطوات التي تؤدي إلى وقف دائم للنار وحل بعيد المدى. وتتضمن هذه السلسلة إنشاء منطقة خالية من أي عناصر مسلحة وعتاد وأسلحة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، إلا تلك التابعة للحكومة اللبنانية و»اليونيفيل». فالقرار يجيز نشر قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة مكونة من 15 ألف رجل كحد أقصى لدعم نشر الجيش اللبناني في الجنوب «فيما تنسحب إسرائيل» إلى خلف الخط الأزرق.
بعد صدور القرار علقت دمشق رسمياً على قرار مجلس الأمن الرقم 1701، قائلة إنها «تؤيد الإجماع الوطني اللبناني والتحفظات والملاحظات التي عبر عنها الموقف الرسمي اللبناني. وفي ضوء الإنجازات التي حققتها المقاومة الوطنية اللبنانية والصمود البطولي للشعب اللبناني، كانت تأمل «في أن يصدر عن مجلس الأمن بعد هذا الوقت الطويل من المداولات قرار متوازن يحفظ مصالح لبنان كاملة ويلبي مطالبه العادلة في تحرير جميع أراضيه المحتلة وبما يصون أمنه وسيادته واستقلاله الوطني».
وأعلنت أنها «أخذت علماً بما تضمنه القرار من تأكيد وقف الأعمال العسكرية وتأكيده أهمية تحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط استناداً إلى قراري مجلس الأمن 242 و338، الأمر الذي يتيح معالجة جذور الصراع في المنطقة بما يؤدي إلى تحقيق الأمن والاستقرار فيها». كان القرار وكما يقال – أفضل الممكن – والفرصة الفضلى لوقف العدوان الذي أوقع أكثر من ألف قتيل لبناني معظمهم مدنيون ودمر البنى التحتية.
وقبل أن يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت موافقته على قرار مجلس الأمن مارس لعبة مزدوجة، إذ أعلن قبوله القرار، واصدر من جهة أخرى أمراً إلى الجيش الإسرائيلي ببدء الهجوم البري الواسع الذي كان أقره المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية قبل أيام من صدور القرار. فحدث شيء لم تكن تتوقعه إسرائيل أبداً، إذ مني الجيش الإسرائيلي بهزيمة ساحقة على مستوى عدد الجنود الذين قتلوا أو المركبات والدبابات الإسرائيلية التي دمرت في مناطق بنت جبيل وعيتا الشعب، مما أظهر صورة أسطورية عن حزب الله وقدرته القتالية أمام الجيش الإسرائيلي، وهو ما أعاد خلط الأوراق الإقليمية من جديد وأعاد حساباتها. إذ أعطى هذا «النصر» المحدود المتمثل في الدفاع الباسل عن الأرض اللبنانية وإسقاط عدد كبير من الجنود الإسرائيليين في أرض الميدان دعماً كبيراً للموقف السوري الذي وجد في ذلك فرصة مناسبة للتلويح بالخيار المقاوم في الجولان.
لذلك يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على لبنان كانت من أهم فوائدها بالنسبة الى سورية عودتها الديبلوماسية إلى المحيط العربي والإقليمي والدولي، فقد شهدت دمشق حركة دبلوماسية واسعة مع بداية الحرب، وهو ما أعاد تسليط الضوء على دورها الإقليمي بعد أجواء العزلة التي فرضت عليها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. واستقبل الرئيس بشار الأسد مع بداية الحرب عدداً كبيراً من المسؤولين العرب والغربيين لم يكن لدمشق أن تستقبلهم من دون الحرب. وعبر عن ذلك بصراحة وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخل موراتينوس الذي يعتبر من أصدقاء سورية، إذ قال إنه «يجب إدخال سورية المعزولة جداً في اللعبة الدولية».
وراجت في الإعلام الغربي ثم العربي نظرية أن سياسة عزل سورية كانت فاشلة لأنها دفعت دمشق إلى تعزيز العلاقة مع إيران وإلى مزيد من التشدد. لذلك اقترح المعلق الأميركي توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» بعد زيارته دمشق خلال فترة الحرب «فتح حوار» مع دمشق لإبعادها عن طهران، وشجع محاولة «دق إسفين» بين سورية وإيران. لكن الدور السوري تعاظم تماماً مع وجود قوات اليونيفيل المكونة من عدد أوروبي كبير (فرنسي وإيطالي في شكل رئيس) حيث حاولت جميع الدول المشاركة فتح حوار مباشر مع سورية لضمان أمن جنودها، وهو ما كسر طوق العزلة في شكل شبه نهائي عن دمشق خصوصاً بالنسبة الى البوابة الأوروبية. وفي إشارة لافتة توجه المعلم الى هلسنكي تلبية لدعوة من رئاسة الاتحاد الأوروبي، في أول زيارة لوزير خارجية سوري منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2004. واعتبرت الزيارة دليلاً على نهاية سياسة العزل التي اتبعها الاتحاد الأوروبي بعد اغتيال الحريري، وظهرت ثلاث دول داعمة للحوار بقوة مع سورية هي إسبانيا وإيطاليا وألمانيا بهدف ضمان الاستقرار في جنوب لبنان. لذلك حاولت دمشق الاستفادة من هذه الأجواء لتبرير سياسة الفصل بين مسار التحقيق في اغتيال الحريري الذي تحاول دمشق التعاون مع اللجنة الدولية فيه، وبين فتح الحوار السياسي معها، وعدم انتظار نتائج التحقيق، وفي الوقت نفسه الضغط على الجانب الأوروبي للتوقيع على اتفاق الشراكة الذي وقع بالأحرف الأولى في نهاية 2004 ولم يوقع رسمياً إلى الآن وجمد تماماً بعد اغتيال الحريري.
لكن الموقف السوري الأكثر إثارة للجدل بعد وقف الحرب كان خطاب الرئيس السوري أمام «المؤتمر الرابع لاتحاد الصحافيين» في دمشق الذي وجه فيه اتهامات قاسية إلى معظم الحكام العرب متهماً إياهم بأنهم «أنصاف رجال»، وتضمّن الخطاب الذي خرج الرئيس السوري عن نصه المكتوب مرات عدة، هجوماً ضارياً على القوى السياسية اللبنانية التي تريد نزع سلاح المقاومة، واتهمها بالسعي الى «فتنة في لبنان»، وأنها فشلت و»سقوطها لا يبدو لنا بعيداً»، معتبراً أن قوى 17 أيار/مايو (والمقصود قوى 14 آذار /مارس) هي «منتج إسرائيلي».
أحدث الخطاب ردود فعل عربية ودولية كبيرة للغاية، وكان أول انعكاساته إلغاء وزير الخارجية الألماني زيارته التي كانت مقررة إلى دمشق، وخلق جفوة كبيرة بين سورية من جهة وبين مصر والسعودية والأردن من جهة أخرى. وعربياً لم يشارك المعلم في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي رحب بإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب، وبضرورة الدعم الكامل للبنان بكل السبل والوسائل على المستويين السياسي وإعادة الإعمار ومساعدته في بسط سيادته على كامل أراضيه. كما دعموا تطبيق القرار 1701. وانسجاماً مع ذلك التصعيد السياسي رفض الأسد مقترحاً أوروبياً بنشر قوة دولية بين سورية ولبنان واعتبر أن ذلك يخلق حالة عداء.
وبالتزامن مع هذا الاستثمار الإقليمي بدا الداخل السوري مستعصياً تماماً أمام الإصلاح، وتبنى النظام خطاباً رسمياً يعتمد تجميد الإصلاح الداخلي - على احتمال أنه قد بدأ - في ظل الظروف السياسية والأمنية الإقليمية، لكن الضغوط الدولية تجاه ملف حقوق الإنسان تحولت إلى ضغوط إقليمية لاحترام سيادة لبنان واستقراره.
الحرب الإسرائيلية على لبنان كانت بمعنى من المعاني تثبيتاً لنظرية الاستقرار التي حاولت الإدارة الأميركية زحزحتها باتجاه الدمقرطة، فحرضت هذه الحرب على العودة مجدداً إلى سياسة الاستقرار الهيكلي المستفيدة منها الأنظمة العربية بعمومها «المعتدلة» و»الثورية»، إذا جاز التعبيران.
رضوان زيادة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد