إدوارد سعيد: مسيرة مفكر استثنائي
يبدو صحيحا أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية، جعلت الكثيرين بلا وطن لابد أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مشردين ومترجلين عبر حدود اللغة شذاذا متحفظين، نوستالجيين في غير أوانهم عمدا.."
بعد وفاة المفكر المرموق إدوارد شتاينر سعيد "1935 -2003"، الفلسطيني الأصل، والأمريكي الجنسية، سئل الشاعر الراحل محمود درويش عن رأيه فيه، فأجاب:" إدوارد سعيد ليس مفكرا عربيّا كما يتوهم البعض ذلك، وإنما هو مفكر عالمي، كان باستطاعته أن يعبر الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق ذهابا وإيابا، ليس بجواز سفره، وإنما بفضل إطلاعه الواسع على هذين العالمين اللذين ارتبط بهما ارتباطا قويّا، واللذين يكادان يكونان المكونين الأساسيين للعالم برمّته".
بهذه الكلمات البسيطة الواضحة، عرّف محمود درويش أحد ألمع المفكرين الذين يستعصي على الجميع، الغربيين أم الشرقيين، وضعهم في خانة معيّنة، ليس فقط بسبب هويتهم المضطربة، ومسارهم الشخصي الموسوم بالهجرات المؤلمة والجارحة بين الأوطان، واللغات، والأديان، وإنما انطلاقا من منظومة أفكارهم وأطروحتهم الفلسفية والأدبية والثقافية والسياسية وغيرها...
وبالفعل لم يكن إدوارد سعيد مفكرا عربيّا حتى وأن أقضى شطرا مهما من حياته في الدفاع عن الفلسطينيين وعن العرب أو عن المسلمين عامة، وأيضا عن الشعوب التي عانت طويلا من الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية.
وكان صوتهم في المنتديات والمنابر الأمريكية، الشيء الذي أثار ضدّه حفيظة الكثيرين من أصحاب النفوذ من أهل السياسة والفكر في الولايات المتحدة الأمريكية بصورة خاصة، وفي الغرب الأوروبي بصورة عامة، بصفته مفكرا فريدا من نوعه، تمكن بفضل إطلاعه الواسع والعميق على الغرب من أن يستعمل بمهارة وذكاء نادرين، أدواته الفكرية والمعرفية، ليتحدّاه من الداخل، كاشفا خفاياه، ونواياه، ومقاصده، فاضحا عنصريته وغطرسته تجاه الشعوب الأخرى، خصوصا تلك التي أبقاها طويلا تحت هيمنته مثل الهند، والعالم العربي، محاورا بكفاءة عالية مفكرية وفلاسفته من أمثال مونتسكيو، وارنست رينان، وكارل ماركس، وهيغل، وميشال فوكو، وجاك دريدا ونعوم تشومسكي، وآخرين كثيرين...
لذلك كان المفكر البريطاني جورج ستاينر على حق عندما قال ذات مرة: " إن إدوارد سعيد نصّ مفتوح على العالم" فقد كانت مساهماته الثقافية والفكرية مشهود لها في العالم بأسره.
ولعل في أطوار سيرة إدوارد سعيد ما يمكن أن يساعدنا على النفاذ إلى شخصيته، أو يقودنا إلى مفاتيح منظومته الفكرية والفلسفية والنقدية. فهو يتحدث عن جذوره وعن منشئة على النحو التالي: "ولدت في القدس عام 1935. ويمكن القول إنني وعائلتي ننتمي إلى مجموعة بروستنتانية صغيرة داخل أقلية أكبر، هي الأقلية المسيحية الأورثوذكسية اليونانية، داخل أغلبية واسعة هي الأغلبية المسلمة السنّية".
وكانت أمه فلسطينية من الناصرة، مثقفة، ومحافظة. وأما والده فمن القدس. وقد ترك فلسطين التي كانت آنذاك، أي عام 1911، تحت الهيمنة العثمانية، ليهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو في السادسة عشرة من عمره.
وهناك درس وعمل لسنوات طويلة، ولم يعد إلى بلاده إلا عام 1919 ليدخل في عمل تجاري مع أحد أبناء عمومته، أكسبه ثروة طائلة. وعقب نكبة فلسطين سنة 1948، استقرت عائلة سعيد في القاهرة.
وهناك انتسب الفتى إدوارد سعيد الذي كان قد درس قبل ذلك العديد من المدارس الكولونيالية المرموقة التي أقامها الإنجليز لتنشئة جيل من العرب من الذين يرتبطون بعلاقات طبيعية مع بريطانيا، إلى فيكتوريا كوليدج"، وهو معهد راق كان يدرس فيه أبناء كبار الأعيان والطبقة الحاكمة من العرب، ومن أهل الشرق الأدنى والذين كانوا يهيّأون لتولي السلطة بعد رحيل الأنجليز.
وكان من بين زملاء الفتى إدوارد الأمير حسين، الذي سيصبح ملكا على الأردن في مابعد، والعديد من الفتيان المصريين والسوريين والسعوديين الذين سيكون لهم شأن كبير في ما بعد..
غير أن هذه الطفولة التي تبدو مترفة سعيدة ظاهرياّ، سوف تترك في نفس إدوارد سعيد جراحا وندوبا لن ينساها أبدا حتى عندما يصبح مفكرا مشهورا مهاب الجانب على المستوى العالمي فقد كان على سبيل المثال محرما عليه وعلى زملائه في "فيكتوريا كوييدج" التحدث بلغة أخرى غير اللغة الإنجليزية.
فإن ضبط واحدا منهم وهو يخرج عن النظام، يسلط عليه عقابا شديدا وكان هناك تعقيدا آخر بالنسبة إليه، يتمثل في أنه كان فلسطينيا يحمل اسما بريطانيّا، هو إدوارد، إذ أن ولادته ذات ثقافة الإنجليزية، كانت معجبة بأمير "ويلز" في السنة التي ولد فيها ابنها.
إضافة إلى ذلك كان الفتى الصغير يتمتع بالجنسية الأمريكية، ويعني ذلك أنه كان "محروما من عروبته" هذا ما سوف يؤلمه في ما بعد، وسوف يؤلمه أكثر عدم اكتراث والده الفخور بجنسيته الأمريكية، وأمه حريصة على تربيته تربية انجليزية خالصة، بالمصير المؤلم والمأساوي الذي آل إليه الفلسطينيون عقب نكبة 1948.
وعن هذه الجراح، وهذه النّدوب، كتب إدوارد سعيد في ما بعد يقول: "وقع خطأ في الطريقة التي تم بها اختراعي وتركيبي في عالم والديّ، وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الآخر من حياتي المبكرة، لم أستطع أن أتبيّن ما إذا كان ناجما عن خطأي المستمر في تمثيل دوري، أو عن عطب كبير في كياني ذاته وقد تصرفت أحيانا تجاه الأمر بمعاندة وفخر، وأحيانا وجدت نفسي كائنا يكاد أن يكون عديم الشخصية، خجولا، مترددّا، وفاقد للإرادة.
غير أن الغالب على تفكيري هو شعوري الدائم أنني في غير مكاني. وهكذا كان يلزمني قرابة خمسين عاما لكي اعتاد على "إدوارد" وأخفف من الجرح الذي يسبّبه لي هذا الاسم الإنجليزي الأخرق الذي وضع كالنيّر على عاتق "سعيد" اسم العائلة العربي القح صحيح أن أمي أبلغتني أنني سمّيت "إدوارد" على اسم وارث العرش البريطاني الذي كان نجمه لامعا عام مولدي، أي عام 1935، وأن "سعيد"ّ هو اسم عدد من العمومة وأبناء العم، غير أن تبرير اسمي تهافت كليا عندما اكتشفت أن أجدادي لا يحملون اسم "سعيد" وخلال سنوات من محاولاتي الفراوجة بين اسمي الإنجليزي المفخّم، وشريكه العربي، كنت أتجاوز "إدوارد" وأأكد على سعيد تبعا للظروف".
ومبكرا انجذب إدوارد سعيد إلى الأدب في حين أن والده كان يريده أن يكون رجل أعمال ناجحا مثله. ومفسرا انجذابه للأدب، كتب يقول: "لقد درست الأدب لأنني كنت مهتما به دائما، ولأنه بدالي أن الأشياء الأخرى التي تحفّ بالأدب / الفلسفة، والموسيقى، والتاريخ، والعلوم الإنسانية، تمكن المرء من الاهتمام بعدد من القضايا والأنشطة الإنسانية الأخرى.
كان هذا الاختيار جيّدا بالنسبة لي، ولم أندم عليه لحظة واحدة في حياتي. أما البديل لم يكن حقيقيا بالنسبة إلي يوما من الأيام بسبب الخلفية السياسية والاجتماعية للتجارة في الشرق الأوسط التي كانت مرتبطة بالطبقة الحاكمة التي كنت أنا خارجها".
مطلع الخمسينات من القرن الماضي، كانت جراح الحرب الكونية الثانية لا تزال ماثلة للعيان، غير أن العالم كان قد بدأ يشهد تحولات هامة وخطيرة على جميع المستويات في ظل ما أصبح يسمّى بـ" الحرب الباردة" ولن تكون منطقة الشرق الأوسط في مأمن من تلك التحوّلات فمصر التي أنهكها فساد الحكم الملكي سوف تشهد عام 1952، ثورة "الضباط الأحرار" بقيادة جمال عبد الناصر.
وسوف تدخل سوريا دوامة الانقلابات العسكرية المتتالية. وفي إيران سوف يدبّر جهاز الاستخبارات الأمريكية انقلابا يطيح بنظام مصدق. وأما إدوارد سعيد فقد تم طرده من "فيكتوريا كوليدج" بتهمة "الشغب".
ولإبعاده عن منطقة بدأت تعيش تقلبات وتوترات على جميع الأصعدة، قرر الوالد إرسال ابنه إلى "أبعد ما يمكنّ" أي إلى الولايات المتحدة الأمريكية لينتسب إلى مدرسة " بيروتانية"، متقشفة، تقع في الركن الشمالي الغربي من "ماساتشوستس". بعدها انتقل إلى نيويورك ليواصل تعليمه العالي.
وفي خريف 1963، عين إدوارد سعيد أستاذ اللأدب المقارن في جامعة كولومبيا. وكموضوع لأطروحته، اختار ان يدرس اعتقادا على الأدوات النقدية الحديثة، عالم روائي شهير، قريبا من عالمه، أعني بذلك جوزيف كونراد "1857-1924"، البولندي الأصل، والذي اكتسب الجنسية البريطانية، واختار الكتابة بلغة شكسبير.
ولعل التركيز المبكر للناقد الشاب على هذا الكاتب البولندي المنجرف دائما الى عالم البحار، يعود إلى أن أعماله تكشف عما كان يعانيه من "انخلاع" وعدم استقرار، وغربة". لذا كان بالنسبة لإدوارد سعيد الكاتب الأفضل في عرض "مصير الضياع والتشويش" الذي كان يعاني منه شخصيا. لهذا ظل يقرأ كونراد، وعنه يكتب مثل "لحن ترنيمة من الترانيم، أو لازمة موسيقية ثابتة لكثير مما عاشه".
في نهاية الستينات من القرن الماضي، دخل إدوارد سعيد مرحلة جديدة وحاسمة في حياته، وفي مساره الفكري والنقدي والفلسفي. وقد تكون هناك أحداث عالمية كبيرة لعبت دورا أساسيا في ذلك. من هذه الأحداث مثلا، حرب حزيران 1967 التي هزمت فيها إسرائيل الجيوش العربية، واحتلت سيناء، وهضبة الجولان، والقدس، ملتهمة بذلك ما تبقى من الأراضي الفلسطينية التي لم تكن تحت سيطرتها.
وأما الحدث الثاني فهو ثورة ربيع 1968 الطلابية التي هزّت جلّ العواصم الغربية الكبيرة معلنة الحرب على "البرجوازية والرأسمالية والإمبريالية". ومن بين الأحداث الكبيرة الأخرى يمكن أن نذكر غزو ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي لما كان يسمى بتشيكوسلوفاكيا والذي أدى إلى إقصاء الاشتراكيين الليبراليين الرافضين لهيمنة موسكو من قيادة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.
ومن المؤكد أن هزيمة 67 كانت صادمة لإدوارد سعيد أكثر من بقية الأحداث التي ذكرنا. وقد تكون هي التي دفعته إلى بلورة رؤية جديدة للقضية الفلسطينية ترتكز أساسا على أن التاريخ الفلسطيني كان قد جرى طمسه، وأن الفلسطينيين قدموا للعالم وكأنهم أناس غير مرئيين.
أما قوة وهيمنة الرواية الإسرائيلية للأحداث والتاريخ، فتعود إلى كونها تعتمد كليا تقريبا على نوع من الرؤية البطولية للرواد الذين قدموا الى الصحراء. وهؤلاء لم يتعاملوا في نهاية المطاف مع سكان محليين ذوي وجود راسخ ومتجذر، ويعيشون في البلدان وفي المدن او يمتلكون بنيتهم الاجتماعية والسياسية الخاصة بهم، بل مع مجرد صحراء يقطنها هائمون على وجوههم بحيث يسهل طردهم.
ويرى إدوارد سعيد أن قيام الصهيونية على صورة البدوي الهائم، كان إجراء في منتهى التعقيد غير أنها ـ أي الصهيونية ـ عمدت الى استخدامه في التعامل مع الفلسطينيين كشعب. لذا هو يرى أنه من الضروري اجبار الإسرائيليين ثقافيا وعقلانيا وأخلاقيا على مواجهة الحقائق التي ينطوي عليها تاريخهم.
وهكذا يمكن القول أن هزيمة 67 وبقيت الأحداث العالمية التي أشرنا إليها سوف تساعد إدوارد سعيد على بلورة منهج نقدي جديد سوف لن يلبث أن يجعل منه أحد ألمع المفكرين في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العالم، حافزا إياه على الحفر في هويته الفلسطينية العربية التي باتت مهددة بالانقراض والتلاشي بسبب الهجرات، والإنشراخات الثقافية واللغوية. وهذا ما سوف يؤكده كتابه " بدايات" الذي صدر عقب صدور كتابه الأول "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية" "1966".
ويفسر إدوارد سعيد مقاصده من خلال كتاب "بدايات" قائلا: "إن مشكلة "بدايات" هي واحدة من المشاكل التي ستواجه المرء لجدّة، ان سمح لها بذلك، على المستويين العملي والنظري أيضا. كل كاتب يعلم ان اختياره بداية أمر ما، حاسم، لا يكون هذا الاختيار يحدّد الكثير مما سيلي البداية، بل لأن بداية العمل، من ناحية عملية، هي المدخل الرئيسي لما تقدمه.
إضافة إلى ذلك، فلو أننا قمنا في عمل بعينه، من الأعمال الأخرى، البداية تؤسس في الحال علاقات مع أعمال موجودة. علاقة تواصل أو تفاد، أو مزيج من التواصل والنقاد.. هل البداية هي نفسها الأصل؟ هل بداية عمل ماهي بداية الحقيقة، أم هل هناك نقطة سرية أخرى تجسد العمل بصورة أكثر أصالة".
وفي كتابه "بدايات" يظهر إدوارد سعيد ميلا كبيرا للفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو "1926-1984" لأنه "ايجابي وتقدمي" حسب رأيه في حين يصف منهج الفيلسوف الفرنسي الآخر جاك دريدا 1930-2004" بـ"العدمي" وفي كتابه المذكور، يركز إدوارد سعيد على مسألة اللغة بوصفها " موضوعا للتفكير" وأيضا بوصفها "موضوعا يحتل بالنسبة للكاتب مكانه أولى ذات امتياز".
غير أن المشروع النقدي الجديد الذي أتى به إدوارد سعيد تحقق بشكل متميز وقوي في كتابه الشهير: "الاستشراق" الصادر عام 1978، والذي يوضح فيه أن الإستشراق ، إسقاط ثقافي لعقيدة سياسية على الشرق. وهو أيضا، أي الاستشراق، "تنسيب لثقافة الأقوى". كما أنه، وكما يقول إدوارد سعيد "الأسلوب الغربي للسيطرة على الشرق واعادة بنيته وامتلاك السيادة عليه".
وفي كتاب "الاستشراق، ينتقد إدوارد سعيد بحدة الفكر الغربي الذي ساعد الإمبراطوريات الرأسمالية والإمبريالية الغربية على بسط نفوذها على بلاد الشرق بما في ذلك الفكر الماركسي. وهو يقول ان الاستشراق يصبح خطابا في نفس اللحظة التي يبدأ فيها بصورة منهجية بـ" انتاج صور نمطية عن الشرقيين، وعن الشرق، وعن نوع الحرارة والغبار، والسوق المكتظة بالحركة، وعن الإرهابي، والمحظية، او الغانية، والطاغية الآسيوي، والمواطن الأصلي الذي يتصرف كالأطفال، والشرق الغامض".
ومثل كل المؤلفات المثيرة للاهتمام الجدل، أثار كتاب " الاستشراق" الكثير من ردود الفعل في الغرب، وفي العالم العربي ـ الإسلامي، وأيضا في بلدان مثل الهند فقد حلل إدوارد سعيد في كتابه المذكور أوضاع هذا البلد، أي الهند، خلال الحقبة الاستعمارية التي استمرت ثلاثة قرون.
وقال غيارتى بسيفاك عن كتاب "الاستشراق": "لقد أثمرت دراسة الخطاب الكولونيالي التي بدأت بتأثير مباشر في عمل سعيد، ثم أزهرت لتصنع حديقة بتكلم فيها الهامشيون ويتكلم فيها عنهم، وحتى من أجلهم.
هي الآن جانب مهم من جوانب العلم". واعتبره آخرون "الكتاب الذي غير مسار البحث في العديد من العلوم، ووجد قراء في العديد من اللغات، وتحول الى مرجع لأعمال تخطر على بال". كما اعتبروه "الكتاب الأول الذي ينزع فيه إدوارد سعيد كل الأقنعة الايديولوجية للامبريالية". أما الأخرون فقد هاجموه بحدّة قائلين بأنه "لا يعد ان يكون نسخة مستحدثة من الكتابات التقليدية المكرسة ضد الكولونيالية والتي هي قديم قدم الاستعمار".
وبغض النظر عن أهميته الأكاديمية، والعامية، والمعرفية، والنقدية، والفلسفية، فإن كتاب "الاستشراق"، يبدو وكأنه محاولة جادة وواعية من جانب صاحبه الناضج الآن فكريا بما فيه الكفاية، للمصالحة مع الشرق الذي "انتشل منه بقوة وعنف". ليرمي به بعيدا عن صراعاته، وأوجاعه وآلامه.
وهو أيضا مصالحة مع ذاته الممزقة بين عالمين، وبين ثقافتين، والتي منعتها سلطة أب فخور بجنسيته الأمريكية من أن يعي، وهو لا يزال فتى، النكبة التي أصابت الشعب الفلسطيني عام 1948. وربما لهذا السبب سوف يواصل إدوارد سعيد بدأب ودونما كلل أو فتور، العمل لإنجاح هذه المصالحة مع الشرق، ومع ذاته في جل الكتب التي سوف يصدرها، وفي المواقف التي سوف يتخذها لاحقا بعد كتاب " الاستشراقّ ازداد إدوارد سعيد التزاما بالقضية الفلسطينية، وأصبح من أشهر المدافعين عنها في الولايات المتحدة الأمريكية وعندما صرحت غولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية، عام 1969 قائلة : ليس هناك فلسطينيون"، ردّ هو عليها قائلا:" لقد أوجد هذا التصريح لدي ولد الكثيرين تحديا محالا بعض الشيء لتنفيذ ما قالته وللبدء في تاريخ الضياع، والسلب، الذي كان لابد من تخليصه دقيقة بدقيقة، وكلمة بكلمة، وبوصة ببوصة، من التاريخ الحقيقي لقيام إسرائيل او وجودها ومنجزاتها.
وكنت أعمل تقريبا في عنصر سلبي تماما على وجه التقريب، وهو اللاوجود لذلك التاريخ الذي كان علي بطريقة أو بأخرى ان اجعله مرئيا رغم السدود أو تسوية الحقائق، وإنكار الحقوق". وفي كتاب له صدر عام 1983، وحمل عنوان "العالم والنص والناقد"، عمق إدوارد سعيد نظرياته النقدية، مشيرا إلى أن النصوص الأدبية تمتلك طرقا في الوجود بحيث أنها في أكثر اشكالها مادية تكون منشبكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع.
باختصار إنها موجودة في العالم "في الدنيا"، وبالتالي فإنها "دنيوية". وعن كلمة "دنيوية" التي أكد عليها كثيرا في كتابه المذكور، كتب إدوارد سعيد يقول "لقد أعطيت اسم "دنيوية" لهذا الصوت، وهو ما لا أعني به ذكاء الرجل الاجتماعي المتخم بشأن المدينة، وإنما موقف عارض لا يخشى شيئا تجاه استكشاف العالم الذي فيه يحيا.
وكانت الكلمتان المتشابهتان اللتان اشتقتا من فيكو "Vico" وأروباخ هما "علماني" "Secular" و"علمانية" "Secularism" باعتبار أنهما تنطبقان على أمور "دنيوية" "Earthly" وفي هذه الكلمات المشتقة من التراث المادي الإيطالي الذي يبدأ من لوكريتوس، ويصل إلى غرامشي، ولامبيدوسا، وجدت تصحيحا مهما للتراث المثالي الألماني الخاص بتوليف المتناقض كما نجده عند هيغل، وماركس، ولوكاتش، وهاربماس، ذلك أن كلمة "دنيوي" لم تتضمن قط هذا العالم التاريخي الذي صنعه الرجال والنساء، وليس "عبقرية الأمة" كما أسماها هيردر.
بل أنها أوحت بالأساس الأرضي لمقولتي ولغتي التي انطلقت من محاولة لفهم الجغرافيات الواسعة الخيال التي صيغت ثم فرضت بالقوة على بلدان وشعوب بعيدة".
وكانت العلاقات بين الغرب والشرق قد بدأت تشهد توترات حادة بسبب حرب الخليج الثانية "1991" عندما أصدر إدوارد سعيد كتابه "الثقافة والامبريالية" "1993". ووفيا لمشروعه الفكري والنقدي الذي بدأه شابا، واصل في هذا الكتاب العديد من القضايا الفكرية والإيديولوجية التي كان قد عالجها في كتبه السابقة، وخصوصا في "الاستشراق".
ومعتمدا على قصص وروايات قد عالجها في كتبه السابقة، خصوصا في "الاستشراق". ومعتمدا على قصص وروايات أبدعها كبار الكتاب الغربيين من أمثال كيبلينغ "Kipling"، وجين أوستن "J. Austen"، وغيرهما محاولا أن يبين كيف أن الغرب الاستعماري سعى إلى تجميل صورته مؤكدا دائما على أناه الفوقية صانعة التقدم والحضارة مقابل "الآخر الضعيف والعاجز والخانع"، والقابل بالتالي أن يكون مستعمرا.
وقد أكد إدوارد سعيد على ما سماه بـ"المقاومة الثقافية" التي ظهرت في العالم غير الأوروبي، أي في البلدان التي كانت خاضعة للهيمنة الاستعمارية والامبريالية والتي دلت دلالة قاطعة على بطلان تلك الفكرة التي تقول إن هذه لم تكن تملك لا حياة ولا تاريخا ولا ثقافة تستحق الذكر، وليس لها استقلال واكتمالية جديران بالتمثيل من دون الغرب.
ويشير إدوارد سعيد إلى أن أحد منجزات الإمبريالية أنها قربت بين أجزاء العالم، وأنه ينبغي عدم فصل الأوروبيين وغير الأوروبيين. لذا هو يدعو المشرق والغرب معا إلى "نبذ كل نزعة مركزية مهما كان مأتاها ونوعها حتى "تتبلور تلك النزعة الإنسانية" التي تقتضي الكف المنهجي عن أي تمركز ثقافي سواء اتخذ شكل مركزية غربية أو مركزية إسلامية، أو مركزية إفريقية.
وفي كتابه "الثقافة والإمبريالية"، يشير إدوارد سعيد إلى أن الثقافة تمتلك عنصرا كونيا يجعلها تسمو على الإقليمية والقومية المحلية والعرقية والطبقية إلى آخر تلك التصنيفات التي ظلت إلى عهد قريب تثقل كاهل الثقافة. كما أوضح أن ثقافات العالم متداخلة، تأخذ من بعضها بعضا، وتتغذى من بعضها بعضا أيضا. وهذا ما يغني الثقافة على المدى البعيد.
وفي "الثقافة والإمبريالية"، يعود إدوارد سعيد مجددا إلى واحد من الكتاب الأثيرين إلى نفسه، أعني بذلك جوزيف كونراد، مركزا بالخصوص على روايته الشهيرة "قلب الظلام" التي يروي فيها بطلها الرئيسي واسمه مارلو قصة تجربته في الكونغو على مسمع أربعة من رفاقه على ظهر السفينة "نبالي" التي كانت راسية في ميناء نهر "التايمز" تنتظر هبوب الرياح المواتية لتبحر. وتتطرق الرواية إلى المآسي والفواجع التي يسببها الاستعمار للشعوب التي ترزح تحت سيطرته.
ويتلخص كل هذا في الصيحة التي أطلقها كورتز، وهو إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية، عندما تراءت له ممارسات الاستعمار البشعة فلم يجد غير كلمتين هما "الرعب! الرعب!".
ويستهل إدوارد سعيد كتابه المذكور بهذا المقطع المعبر في رواية "قلب الظلام" والذي يقول فيه كونراد "إن السيطرة على أرجاء المعمورة الذي غالبا ما يعني الاستيلاء على الغير لأن لون بشرتهم يختلف عن بشرتنا أو لأن أنوفهم مسطحة قليلا مقارنة بأنوفنا. مثل هذا الأمر ليس مبهجا عندما نتأمله طويلا.
وما يشفع لهذه الممارسة هي فكرة فقط- فكرة تتستر وراء مشروع الاستيلاء هذا. وهي ليست تظاهرا عاطفيا زائفا، بل هي اعتقاد بالفكرة يبتعد عن أنانية الاعتقاد. وهو شيء نقوم بابتداعه، وننحني أمامه، ونقدم له الضحية".
إلى جانب انشغاله بالقضايا الفكرية والفلسفية العميقة، اهتم إدوارد سعيد بالمسائل السياسية المتصلة بالقضية الفلسطينية بالخصوص. وكان هدفه من خلال كل هذا إطلاع الجمهور الغربي على أشياء يجهلها أو يتجاهلها بخصوص القضية المذكورة، أو بقضايا تتصل بالعالم العربي- الإسلامي بصفة عامة.
وكان إدوارد سعيد قد قبل أن يكون عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني وذلك عام 1977. وبسبب مواقفه المعادية لإسرائيل، وجد نفسه في "حرب" مع اللوبي الصهيوني، ومع اليمين الأمريكي الشيء الذي سهل على البعض من أعدائه اتهامه بـ"النازية" مرة، وبـ"معاداة السامية" مرة أخرى. بل وبلغ الأمر ببعضهم حد وصفه بـ"الإرهابي".
ومطلع التسعينات، وبعد أن وقعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات اتفاقية سلام مع إسرائيل، برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، تخلى إدوارد سعيد عن عضويته في المجلس الوطني الفلسطيني احتجاجا على تلك الاتفاقية. ورغم أنه أصب بذلك المرض العضال الذي سيقتله، فإنه واصل النضال بقلمه ولسانه دفاعا عن القضية الفلسطينية.
وفي منتصف التسعينات من القرن الماضي، قام إدوارد سعيد بزيارة إلى أهله في فلسطين المحتلة. وكانت أول صفعة تلقاها هي مشهد المستعمرات التي أقيمت على هيئة حصون، وكأنها تقول "جذورنا هنا راسخة البنيان" ومعلقا على تلك الزيارة، كتب إدوارد سعيد يقول "إن فكرة ما تكمن وراء وجود تلك المستعمرات إذ أن تشييدها لم يأت من فراغ لأنها تخص الفكرة. والفكرة بدورها تزودنا بالحماية.
ولا يملك الناظر إليها سواء كان من أهل الحق أم من أصحاب الباطل إلا أن يقول "يا للهول! يا للهول!" تماما مثل كورتز في رواية "قلب الظلام" لكونراد. والفكرة في مجملها تثير الرعب في الناس جميعا حتى تظل محمية بهذا الشعور في كل الأزمنة، ويظل أصحاب القضية يبحرون في قلب الظلام دون أمل في الخروج إلى نهاية النفق، ونسمع كثيرا أن فكرة المستعمرات قد تناغمت مع فكرة إسرائيل عن الصليبيين الذين أخطأوا في نظر الإسرائيليين لأنهم لم ينشئوا بنية تحتية، فانسحبوا من دون أن يخلفوا تلك البنية التي كان يمكن أن تحافظ على وجودهم فوق الأرض التي استولوا عليها".
ولكن هل للمثقف دور في مجتمع يعاني من التخلف ومن الهيمنة الاستعمارية؟ عن هذا السؤال يجيب إدوارد سعيد قائلا "في هذا المجتمع أظن أن الأمر ينبغي أن يكون كذلك. أنا شديد الإيمان بوعي الفرد. وهذا هو الأصل في كل الجهد الإنساني. لا يمكن للفهم الإنساني أن يحدث على مستوى جمعي واحد إلا بعد أن يحدث أولا على المستوى الفردي.
لكن وعي الفرد في عصرنا قد جرى قصفه إن لم نقل خنقه بواسطة كميات هائلة من المعلومات المنظمة والمخرومة والتي تهدف أساسا إلى توليد نوع من القبول وعدم المساءلة والسلبية الجمعية. إننا نخضع معظم الوقت إلى قصف كيانات تطلب منا أن نستسلم لها ونشتريها في النهاية سواء عبر الأخبار، أو البضائع، أو السفر، أو أي شيء آخر".
ويواصل إدوارد سعيد حديثه عن دور المثقف قائلا "لقد بات كل شيء مخروما، ومغلفا وجاهزا للبيع. هذا هو معنى اقتصاد السوق الحر الجديد الذي سوقته العولمة على العالم خفية غير تاركة سوى حيز صغير للتحدي الفردي والمساءلة، بينما المنظمات الضخمة سواء كانت حكومات أو مؤسسات تتبنى سياسة عمياء في كثير من المجالات متسببة في حدوث دمار بيئي واسع، ودمار جيني شديد الشمول، وموفرة للجماعات القوية إمكانية جني أرباح دون أية مسؤولية. ضمن إطار كهذا، فإن دور المثقف هو أن يعارض.
وأنا أفكر بهذا على أنه دور نحتاجه بشكل قطعي، بل بشكل يائس. أنا لا أقصد أن يتم ذلك بطريقة سخيفة وسلبية. فأنا أقف ضد ذلك. ولكنني عندما أكون معارضا، فإنه بوسعي أن أمحص، وأن أحكم، وأن أنتقد، وأن اختار على نحو يجعل من الاختيار والمداخلة أمرين يعودان إلى الفرد.
إن من المهم أن نكون جزءا من كل آخر في مجتمع لا يمتلك اهتمامات مخرومة سلعية، وأهدافا تجارية مربحة ماثلة نصب عينيه. إنها أهداف صعبة التحقيق لكنني أظنها ممكنة التحقيق".
لقد كان إدوارد سعيد مفكرا استثنائيا بالمعنى الحقيقي للكلمة. ففي كتاباته تطرق إلى قضايا كانت مخفية ومغيبة. وفي مواقفه، كان جريئا، وشجاعا، ونزيها، وصادقا. وعندما توفي عام 2003 نعاه محبوه في العالم بأسره كرمز للحرية والشجاعة الفكرية.
حسونة المصباحي
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد