في وفاة أنيس الصايغ
الصخرة والينبوع
من تلال «أم قيس»، عند مثلث الحدود السورية ـ الاردنية ـ الفلسطينية، كان يحلو له ان يتأمل مياه طبرية بحرقة وشجن، ولو حدّق قليلا لرأى مدينته التي ولد فيها وعاش في أفيائها سبعة عشر عاماً. غير انه، في هذه المرة، لم يذهب الى «أم قيس»، فقد وهن قلبه واتعبته آلام العمر، فأناخ راحلته في مدينة عمان ومضى.
هكذا تطوي الأيام احلامنا، و«تفرفط»، مثل زهر الأقحوان، أوراقنا، وتغمر بصمتها العجيب أجساد الأحبة. فيا للحسرة، خلال سنين معدودة ومنحوسة تناثر جيل مدهش كما تتناثر حبيبات الطلع في كل مكان، وها نحن ما زلنا نودع الواحد من هذا الجيل تلو الآخر.
رحل إحسان عباس في سنة 2003، ثم كرّ خيط الموت: هشام شرابي، نقولا زيادة، محمود درويش، رفعت النمر، شفيق الحوت، محمد يوسف نجم، يوسف صايغ، ومعهم سمير قصير وجوزف سماحة وكمال ناجي وآخرون. وبغيابهم أزدادت الايام وحشة وسواداً، وباتت كالحة مثل سديم الصحارى.
كان أبي
حينما سلمته مقالتين ارسلهما معي من دمشق الدكتور ماهر الشريف والدكتور جورج جبور، فرح كالأطفال، فقد كان يعد كتاباً جميلاً سيهديه الى اسم شفيق الحوت. وفي اثناء ذلك اخبرني ان فحوصه الطبية ليست جيدة البتة، وعليه ان يدخل الى المستشفى بسرعة، لكنه سيؤجل العلاج الى اجازة الميلاد ورأس السنة التي سيمضيها في عمان. وفي يوم سفره هاتفني، وكان صوته مبحوحاً جراء نزلة صدرية اتعبت قلبه، وقال لي: «أنا مسافر الى عمان، وحينما اعود ارجو ان تكون بين يدي مقالات محمود سويد ونصري الصايغ ومحمود محارب ومقالتك أنت، فقد تأخرتم في تسليم ما تعهدتم به»... لقد ظلت اصابعه تعبث بالأقلام والأحبار والمقالات حتى آخر يوم من حياته.
الثانية عشرة والنصف، ليلة الميلاد، جاءتني مكالمة من عمان. كان على الطرف الثاني رامي شعبان، فاعتقدت ان الدكتور أنيس يرغب في أمر ما. لكن رامي اجهش في البكاء، ولم يستطع ان ينقل إليّ الخبر الدامع بوضوح، ثم دفع بالهاتف الى رفيقة عمر أنيس صايغ السيدة هيلدا شعبان التي تمكنت من ان تخبرني برحيل الرجل الذي صار أبي منذ ان تعرفت إليه قبل ثلاثين سنة... وكان بكاء هنا وبكاء هناك وفي امكنة كثيرة بالطبع. فأنيس صايغ واحد من الكبار اللامعين، بل من القلة القليلة التي انعقدت محبتنا له، ومن النادرين الذين تحلقنا حوله في «الموسوعة الفلسطينية» وفي «اللقاء الثقافي الفلسطيني»، وكان إمامنا في الاخلاق والتواضع والتفاني والالتزام والجرأة والحنو والترفع عن المماحكات اليومية التي أتقنها، أيما اتقان، الفلسطينيون واللبنانيون معاً.
رافقت أنيس صايغ قليلا في مجلة «شؤون عربية»، ويوميا في «الموسوعة الفلسطينية»، ولم أنفك عن صحبته طوال الحقبة التي اعقبت ظهور الموسوعة وانتشارها بين الملأ وحتى آخر يوم له في بيروت، وربما كنت من اكثر الناس معرفة به في آخر ربع قرن من عمره. ومن المؤكد ان رحيله كان فاجعة لي بكل ما تعنيه كلمة فاجعة من معنى. ولهذا السبب لن اتجاوز الحقيقة اذا قلت ان أنيس صايغ، وهو الذي ذاق المرارات كلها، كان مراً في سخريته مثل قهوة والده الحورانية (قهوة القسيس)، وقد علّمنا فن السخرية، وكان منعشا للأحلام القومية مثل «ليموناضة» والدته البترونية، وهو الذي انعش أيامنا في بيروت بعد سنة 1982.
واجه أنيس صايغ مآسيه كلها بنبل وفروسية: خروجه من فلسطين ثم موت والدته ورحيل شقيقه منير، ثم موت اشقائه وتعرضه للاغتيال، فموت والده... وهكذا. وفوق ذلك كان في منظمة التحرير الفلسطينية كالمركب الذي يعاند أمواج المحيط: صلبا في مواقفه النقدية مثل صخور الوعر، ونقيا في مبادئه مثل مياه الينابيع. لقد شهد موت الجميع، ولعل شقيقته ماري هي الأكثر صبرا على الألم بعدما لم يبق لها من عائلة القسيس عبد الله أحد.
سيرة بنيامين الطبري
أسمته المبشرة الاميركية ماري فورد، وهي جارتهم في طبرية، بنيامين حينما ولد في 3/11/1931، لانه السابع بين ابناء القسيس عبد الله صايغ، تماما مثل بنيامين آخر ابناء النبي يعقوب. لكنه لم يحمل هذا الاسم إلا ثلاثة ايام، فوالدته رفضت الاسم بشدة، واصرّت على ان يكون له اسم عربي مثل اسماء اخوته. وهكذا صار اسمه أنيساً، وكان مرصودا منذ البدايات لمؤانسة شيخوخة والديه. لكن والدته لم تعش طويلا لتأتنس بأبنائها، وخصوصا بابنها الاصغر أنيس فتوفيت في سنة 1950 لتترك في ولدها وشماً من الألم لم يمح منذ ذلك الزمن.
في سنة 2004، حينما كنا نرافق جنازة يوسف صايغ الى مثواه الاخير، لاحظت ان الدكتور أنيس وقف عند بوابة المدفن ولم يتقدم الى الداخل إلا بضع خطوات فقط. وقد اكتشفت انه ما عاد يدخل الى ذلك المكان منذ ان غيّب المدفن نعش والدته قبل نحو ستين سنة. وما زالت تلك الذكرى القاهرة ماثلة بقوة في ارتعاشة يده حينما كان يدّون مذكراته فيقول: «انه يوم اسود في حياتي، بل هو أسوأ يوم في حياتي، وسأذكره بوقائعه ولحظاته ما حييت. ففيه جابهت ملاك الموت لاول مرة، فكيف الحال اذا كان هذا الملاك قد خطف اقرب الناس واحبهم إليّ».
إن سيرة أنيس صايغ هي سيرة الألم الذي حاق بوالده واضناه، فوالده فقد أباه صغيراً، ثم هجر سورية الى فلسطين قسراً في سنة 1925، ثم واجه موت زوجته بتجلد وثبات في سنة 1950، ثم صبر على موت ابنه فؤاد في سنة 1959، وابنه توفيق في سنة 1971، الى ان أراح ركبه في سنة 1974. ومع ان أنيس صايغ تعرض للموت مباشرة حينما أرادت إسرائيل اغتياله بطرد ناسف في سنة 1972 إلا ان لغز الموت وحيرة الوجود لم يبرحا خياله. وقد تعلم من موسى المجادي (ابو دخل الله)، وهو رجل مؤمن من بلدة خربا، ان الموت الرحيم ربما كان حلاً عادلاً لبعض بني البشر. لكنه رفض عدالة الموت، وطالما تساءل: كيف يكون الموت عادلاً وهو يأخذ منا الأحبة؟ فقد بكى بغضب حينما عرف ان أبو دخل الله اطلق النار على حصانه المريض. ولعل تجربته في الطفولة حيال موت الحصان، وتجربته في الكهولة حيال الاغتيال، جعلتاه شجاعا امام الموت، جباناً امام الألم، فهو لا يخشى الموت لكنه كان يخاف إبرة الطبيب.
من حوران إلى فلسطين
قبيل الميلاد غادر لبنان الى دمشق بهويته اللبنانية. وغادر الشام الى الاردن بجواز سفره السوري. ثم عاد الى لبنان ليحمله الفلسطينيون الى مثواه الأخير. انه، إذاً، سوري ولد في فلسطين واستوطن لبنان وتزوج اردنية. لقد كان المثال الحقيقي المعادي للسيدين مارك سايكس وجورج بيكو.
إن تاريخ عائلته هو تاريخ الهجرات الداخلية في بلاد الشام، فمؤسس الأسرة، يوسف الكبير، اصل والده من حمص، وقد استقر به المقام في السويداء، وعمل في الصياغة وامتلك أراضي ومنزلا ومجوهرات أورثها ابنه الوحيد عبد الله. لكن عبد الله (القسيس) خسرها كلها حينما أُرغم على النزوح الى فلسطين في اثناء الثورة السورية، ولم يلبث ان هجر فلسطين الى لبنان في سنة 1948. لذلك لم يكن غريباً ان يلتحق هو وبعض اخوته (فايز ويوسف) بالحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم تحولوا الى العروبة بعد صعود جمال عبد الناصر عقب تأميم قناة السويس في سنة 1956.
أنيس صايغ ابن القسيس الذي لم يذهب الى الكنيسة منذ سنة 1955، وكان في طفولته يعد الى المئة بدلا من قراءة «أبانا والسلام». وقد اكتشف شقيقه فايز ان أنيس يكرر كلمة «بطاطا» مئة مرة في اثناء الصلاة، وكان يفضل بيضة مقلية وصحن بطاطا على المدرسة. إن هذه الروح الساخرة والمحببة ظلت تغمره طوال عمره، وكان بارعاً في السخرية اللطيفة وغير المدببة. ولعل تهذيبه الكبير ورقيه المشهود منعاه من البوح بأسرار كثيرة وردت في مذكراته التي اصدرها في سنة 2006، فأشار إليها من غير ان يذكر الأسماء، لانه كان منصرفا الى رواية الحدث، ولا يعنيه أمر الأشخاص حتى الذين اساؤوا إليه.
في احدى جلساتنا المنفردة باح لي بما اخفاه في مذكراته. ويحق لي الآن، ان ازهو بأنني صرت اعرف من هما اللذان طلبا من أنيس ان يكتب لكل منهما رسالة جامعية، واحدة للماجستير في التاريخ، والثانية للدكتوراه في الاقتصاد، وهذان صار احدهما استاذاً للعربية في احدى الجامعات الاميركية، والثاني احتل منصبا كبيرا في البنك المركزي اللبناني. وصرت اعرف كذلك من هو الفلسطيني الذي سطا على كتاب أنيس صايغ «الهاشميون والثورة العربية» وقدمه في احدى الاذاعات في خمسين حلقة وكأنه من تأليفه. ومن هو الصحافي اللبناني الذي سرق مخطوطة كتاب فايز صايغ عن الدبلوماسية الصهيونية ونشرها في «النهار» على حلقات باسمه. ومن هو الكاتب المصري الذي كان ينشر مقالات يهاجم فيها مجلة «حوار»، وكان في الوقت نفسه ينشر في «حوار» مقالات في الدفاع عنها بتوقيع زوجته. ومن هو الذي أراد الاعتداء على منح الصلح بالعصا. ومن هما الباحثان اللذان اختلفا في ليبيا على لون زجاجة البيرة في لبنان. ومن هو المسؤول في مطار بيروت الذي رفض شحن مجلة «شؤون عربية» من المطار لكنه قبل رشوة لتسهيل ذلك. ومن هو الباحث الذي نشر في الشهر نفسه بحثين منفصلين بتوقيعين مختلفين رأى في احدهما انه لولا مساندة الجيش العراقي لسورية في حرب 1973 لكانت دمشق سقطت، ورأى في ثانيهما ان دخول القوات العراقية الى سورية لم يكن له فائدة تذكر.
[ [ [
رحل أنيس صايغ ليلة الميلاد، قريباً من فلسطين وبعيداً منها في آن. كانت اكثر الكتب تفضيلاً لديه هي كتب الرحلات وكتب السيرة. وها هو قد كتب سيرته ورحل. وكان عليه ان ينهي جمع فصول الكتاب الذي سيهديه الى صديقه شفيق الحوت، مثلما فعل حينما اصدر مع الدكتور محمد المجذوب كتابا عن قسطنطين زريق على نفقتهما الخاصة. ومن المؤكد ان هذا الكتاب سيصدر، وسنتنكب، نحن أصدقاءه، هذه المهمة عنه، وسيبقى أنيس صايغ امام أعيننا الأب والصديق والأستاذ الذي تعلمنا على يديه في «الموسوعة الفلسطينية» البحث العلمي، وهو الذي دفعنا كي نتعلم على قسطنطين زريق وإحسان عباس ونقولا زيادة التفكير النقدي والفهرسة وقراءة التواريخ، وفوق ذلك كله ـ وهو الأهم ـ التواضع والأنس والدماثة والعيش المترع بالجمال والأمل (بقدر ما تتيحه الاحوال)، وهي عناصر اجتمعت لهؤلاء الذين ذكرناهم وغابوا عن أعيننا، لكنهم بتألقهم العلمي وتواضعهم الأدبي ما زالوا في صدورنا وفي عقولنا كأروع الامثلة الإنسانية في هذه البيداء العربية المترامية.
صخر أبو فخر - السفير
الرجل الذي لم يمت من قبل
لم يمت أنيس صايغ في الموعد الاسرائيلي. كان عليه أن يلتحق بغسان كنفاني، بعد عشرة أيام من اغتياله، على أيدي الموساد الاسرائيلي. أنيس صايغ، ظل على قيد الحياة، برغم اعلان الإذاعة الاسرائيلية، بعد عشرين دقيقة من انفجار رسالة ملغومة في وجهه «مقتل انيس صايغ الذي يتولى تدريب الارهابيين الفلسطينيين في أوروبا على القتال».
تعليقه يومذاك كان: لم أمت. الإذاعة الاسرائيلية كذبت. واستمر أنيس صايغ، طوال حياته المديدة، في مقام تكذيب اسرائيل في مزاعمها وادعاءاتها وايديولوجيتها وديموقراطيتها.
يومها، أخذوا منه اليسير من بصره، وظل مبصراً. أخذوا منه بعض عافية الوجه والكتف وأصابع اليدين، واستمر يكتب ويكتب ويؤسس، حتى بات مرجعية فلسطينية، في الثقافة والوطنية، فاستحق مرتبة الأمين على القضية، أرضا من النهر إلى البحر، وإنسانا، فلسطينياً عربياً، حتى النفس الأخير.
منذ أيام، مات أنيس صايغ. في المنفى. وطنه اللبناني لا يعوض فلسطين. هويته السورية لا تلغي مسقط الرأس والقضية. عروبته النهائية، نهائية كيانه، لا تنسيه طبريا، وبحيرة الماء فيها، وأقدام المسيح تمسح وجه الماء، وبائع السمك الذي صار رسولاً.
مات... ولن يعود، ممنوع على الفلسطيني ان يموت في أرضه. ليكن قبره بعيداً جداً. وكثر غيره عادوا ولم يصلوا. هشام شرابي عاد ووصل إلى بيروت. جورج حبش عاد ووصل إلى الأردن. ادوارد سعيد ذر رماده في المنافي، لا في فلسطين.
صدق يوسف صايغ في حياته. وكذب في مماته. طبرية سيدة المدائن وعميدة الانصار. هي مآل الاحلام والتطلعات، وهي الأعز في القلب والأقوى في الوجدان. وهي الخاتمة الطبيعية لطريق الحياة الوعرة نحو الراحة النفسية وربما الراحة الجسدية الابدية أيضا، بيروت هي المحطة النهائية لي قبل العودة إلى طبريا، سواء تحققت هذه العودة فعلا أو بقيت حلماً في الخيال... فأنا طبراني لا غش فيه».
وحده الفلسطيني، حتى اليوم، يعود ولا يصل.
عندما كتب أنيس صايغ عن «أنيس صايغ». برر كتابة مذكراته كي يتعرف هو على نفسه. فهل عرفها؟ قال الاشياء بلا ادعاء. خلط الانتماءات في هويته ليكون فرداً مختلفاً. «انا فلسطيني وأنا لبناني وأنا سوري. لكنني عربي أولا وإنساني في نهاية الأمر. عروبة تخدم فلسطين ولبنان وسوريا، مثلما تستمد منها كلها وجودها وقوتها، وتقوم على القيم والمثل الانسانية العامة».
وترجم أنيس صايغ انتماءه. نضالا وثقافة. لم يهدأ. مسيرته لسان حال امانيه وأحلامه وقضيته. «خمسون سنة ومسعاي تحرير فلسطين أولا وأرض العرب كلها ثانيا، لالغاء الكيان المغتصب وعودة الشعب المقتلع وتحرير الانسان والأرض معاً. وفي الوقت نفسه أمارس الصنعة الثقافية لتصبح المعركة بعد التحرير ركنا أساسيا في بنيان فلسطين الغد. فالثقافة تحرر والتحرير يثقف. فهما معاً غنى حضاري».
لقد اختصر أنيس الصايغ رحلته بهذه العناوين. ترهبن للقضية، تقشف في مسلكه، كأنه من جنس المتصوفة الذين قرنوا العلم بالعمل. نذر آلامه ومصاعبه وأحلامه وجهده، كي تكون فلسطين، فمن دونها، لا جدوى لأنيس وسواه من رواد العقل والفعل. ولذا، ولتزمته في التزامه وحرارة عطاءاته، تحوّل أنيس صايغ إلى مؤسسة متنقلة. فحيث يعمل، تنشأ مؤسسة فلسطينية وعربية. وحيث يغادر، يكون قد برأ ذمته مع ذاته وقضيته، غير نادم على منازلة خاسرة، أو معركة غير متكافئة، مع أولي الأمر والمال والسلطة.
هو هو... أنيس صايغ ليس مجيّرا لغير ذاته. مثقف عضوي ملتزم من الألف إلى الياء، ومن الجرح إلى الشهادة التي فاتته ذات صباح في بيروت.
هو هو... من أولئك الذين طافوا الدنيا، وظلت طبريا جنته، وعرفوا الممالك والسلطات، واستمرت فلسطين عالمه، وكل ما حولها دونها، وما فوقها أقل منها، وما أجمل منها، أقل منها بهاء. هي الجسد وقد تخلّد في تضاريس القضية، وهي الروح وقد تنزلت في العقل والقلب، ولا انفصام.
الفلسطيني
طاف العالم، وكان ما عدا فلسطين، باردا، داكنا. وبرغم اقامته في بيروت، فقد عاش فيها فلسطينيا، حبرا وكلاما وأوراقا وجهدا ونضالا.
ويكفيه، أنه المدين في كل حياته لانتمائه الى فلسطين الأم انه اضاف اليها في المنافي، فلسطين العقل والمعرفة والعلم والنقد والمؤسسات. يكفيه، انه كان «فلسطيناً» أخرى، كغيره من الذين أضافوا الى الأرض والشهادة، عمق الولادات، وآفاق الكلمة، وثبات الحضور.
محمود درويش الفلسطيني له فلسطين الشعر، تضاف الى فلسطين القضية، وانيس صايغ الفلسطيني. له فلسطين الثقافة، تضاف إلى فلسطين الأرض، من النهر إلى البحر، و«لا تنازل عن ذرة تراب» لأنه صنو الروح وهذه لا تتجزأ.
تخسر فلسطين بغيابه، من أحضر فلسطين الكتاب إلى بيروت، إلى جانب البنادق. فإن كانت الأخيرة قد شذت أحيانا، فمؤسسة الدراسات، خاضت معركة العقل في صراط مستقيم. تخسر فلسطين، بغياب أنيس صايغ... مرجعية ثقافية غرست في التراث العربي الحديث، ما تعجز عنه مؤسسات ومعاجم وكتب.
ومع ذلك... فلا تكريم يستحقه أنيس صايغ على جهده ونضاله. ختم كتابه بما يلي: «ما من فلسطيني أو عربي يستأهل التكريم ما دامت فلسطين لا تزال تخضع لحكم الغاصب المحتل، وعندما يحول أنيس صايغ تلة أم قيس من شرفة يطل منها على طبريا السليبة يروي برؤياها غليل الشوق إلى محطة متقدمة على درب النضال نحو طبريا، يحق لصدره ان يحمل وساماً... ان أكاليل النار من حق المنتصرين فقط، العائدين فعلا إلى المنابت التي حرروها ليمارسوا فيها حرياتهم... في طبريا... وعلى الطريق إلى طبريا، ومن أجل طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفا، وكأنه لا يموت».
غدا، أو بعد طول غد، يعيدونك إلى شاطئ طبريا، وقد تحررت من الاحتلال. سيكون لك قداسك الفلسطيني. وستفرح طبريا بعودة ابنها.
انها ميدالية طبريا.
نصري الصايغ - السفير
«جندي يحلم بالزنابق البيضاء»
أثناء البحث عن أستاذ للإشراف على أطروحتي الجامعية (1980)، أعلمني أستاذي ومديرنا وعميدنا الدكتور محمد مجذوب بإمكانية الاستعانة بأستاذ من خارج الكلية، وكان اسم أنيس صايغ الأكثر قبولا لاحترام وتقدير نكنّه كلانا ولإشرافه على أطروحة الدكتورة بيان نويهض الحوت، قبل ذلك. إلا أنني لا أعرفه شخصيا فشاورت الصديق معن بشور فاستسحن ذلك الا انه أخافني من صرامته ثم عرّفني عليه لتبدأ معه مرحلة تتلمذ وصداقة.
[[[
لغيري، وهم كثر، الكتابة والحديث عن سيرة حياته النضالية والبحثية والادارية، وهي غنية وزاخرة قالتها كتبه ودراساته وقالها نفسه في سيرة حياته وذكرتها الصحف في نعيه وهناك الكثير للقول فيها لاحقا، وسأكتفي ببعض من سيرته الشخصية التي تكشف بعض أسباب تفوقه وغزارة إنتاجه وتفيد من يرغب بالسير على خطى التألق، شخصيا وعلميا ونضاليا، الذي كأنه أنيس صايغ.
[[[
الصرامة التي أخافني منها معن لم تكن موجودة على مستوى العلاقات الشخصية، فقد كان دمثاً فتح قلبه وبيته ومكتبه لي فرحب بالإشراف وساعد في اختيار الموضوع ولم يفرض رأيا سوى الالتزام بالدقة والموضوعية، لا بل عاملني كصديق وشجعني على الكتابة في المجلات التي كان يشرف عليها (شؤون عربية وقضايا عربية)، وهذا دأبه ـ كما عرفت بعدها ـ حين كان في مركز الأبحاث الفلسطينية ومجلته شؤون فلسطينية وفي مركز دراسات الوحة العربية ومجلته المستقبل العربي حيث شجع الكتاب الناشئين فساهم في إبراز جيل من الباحثين المرموقين، وشغّلني في الموسوعة الفلسطينية، حينه، لأسباب بحثية ومالية في آن.
ولم تكن سيرته هذه معي بل مع كل من عمل معه في الموسوعة من الفتى عادل اندراوس ـ دينامو المكتب في تلبية حاجاته ـ واخته ديانا ـ السكرتيرة الناشئة ـ الى الدكاترة: احسان عباس ونقولا زيادة وعفيف دمشقية ومرورا بقسطنطين خمار وصقر ابو فخر ونارمين عباس ونهلة علي احمد ومحمود شريح ومحمود بركات ومسعد حداد، فضلا عن كتّاب الموسوعة والمتعاملين معها وزوارها، وهم كثر.
ولم تكن الدماثة على المستوى الشخصي فقط بل على المستوى العام، اذ رغم خلافه مع الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينيات من القرن الماضي وخروجه منه بقي على ود معه كحزب وكقياديين فيه مبينا لهم وللآخرين ايجابيات وسلبيات الحزب، وكذا في خلافه مع الهاشميين واصداره كتبا طالت سياساتهم العربية لم يحل دون ودّ لاحق مع الامير حسن وتقدير لايجابيات فيهم دون التخلي عن نقده السابق، وكذا خلافه مع ياسر عرفات في اكثر من قضية وفي عدة فترات لم يحل دون تقدير الايجابيات فيه والود الشخصي معه، وشهدت وداً وتقديراً للشيخ زهير الشاويش ومنه، رغم ملاحظات الشيخ الناقدة، والمنشورة مقالات ثم كتابا، للموسوعة الذي كان يعتبرها درة اعماله وكان عتب رقيق بينهما.
كنا في المكتب نضبط ساعاتنا على موعد مجيئه، وكذا كان جيرانه ـ كما عرفناه لاحقا ـ وهذه قد تكون الصرامة الذي عناها معن فقد كان دقيقاً، لا بل صارماً، في التعامل مع الزمن وفي اعتبارات الوقت، سواء في ما يخصه او في ما يخص الآخرين، ربما لشعوره بأن الحياة مهما طالت قصيرة وربما لتربيته البروتستانتية وربما لقناعة نهضوية، اذ كثيرا ما كان يردد مع الدكتور نقولا زيادة قولا لنبيه امين فارس موجها لطلابه «العربي لا يطيق الجلوس على مؤخرته» بمعنى انه لا يثابر على العمل.
ولم تقتصر الدقة على الحضور في الموعد والالتزام بالدوام، بل في التخطيط للعمل فكل المشاريع التي قام بها ـ وهي كثيرة بعضها عشتها معه وبعضها الآخر سمعتها منه ـ خطط لها: ما سينجز والوقت اللازم للانجاز والكلفة المالية، ولم يقدم على أي مشروع دون ضمان توفر مقومات هذه العناصر، وقد كان ناجحا في تخطيطه، فالموسوعة الفلسطينية، مثلا، انجزت في بيروت في أصعب ظروف الحرب (1983 ـ 1988) وكان مركزها الرسمي في دمشق، وأحياء بيروت ومناطق لبنان والطريق الى دمشق تعج بالحواجز العسكرية لميليشيات متقاتلة تعيق الحركة وتهدد فاعلها والاتصالات والمواصلات بين بيروت والعالم لا تقل صعوبة عن الأولى وكتاب الموسوعة من مقار متباعدة ودول عديدة. ومن تعبيرات الصرامة والدقة التدوين فلا مكان في عمله للمشافهة، فكل عمل بنص وكل تكليف برسالة هي التزام منه بما طلب وطلب من الموجهة اليه ان يلتزم بما تعهد. ومن تعبيرات الصرامة والدقة عنده رفضه اعادة طباعة أي من كتبه ـ وهي كثيرة ومرجعية ـ لاعتباره انها كتبت في زمن محدد وظروف محددة ووضع محدد والزمن يسير والظروف تتغير والوضع الشخصي يتبدل.
ومن تعبيرات الصرامة والدقة عنده رفضه «البطالة» و«التقاعد» فحين ترك الموسوعة او ترك منها اصر على تأمين مكتب خاص به ـ بمساعدة اصدقاء خلص له وللقضية ـ يداوم فيه ويعمل، كما اصر على مواصلة العمل للقضية بما يعوض عن العمل في الموسوعة فعمل على تأسيس اللقاء الفلسطيني، رغم صعوبة الظروف (خروج المنظمات من لبنان، المضايقات الرسمية وبعض الميليشيا للفلسطينيين، حرب المخيمات، الاقتتال الفلسطيني الداخلي) وقد ضم اللقاء مثقفين فلسطينيين من كل المشارب واستضاف لبنانيين من كل الاتجاهات وطرح موضوعات لبقاء القضية حية وتصويب البوصلة نحو فلسطين بعقلانية ووعي.
ومن تعبيرات الصرامة في حياته تمسكه بالمبادئ ورفضه التنازل عنها دون تخل عن الواقعية، ان في الموقف من اوسلو او في غيرها من المواقف الكبير منها والصغير.
[[[
هذا الانتاج الغزير والمواظبة الدقيقة والصرامة في العمل هي لرجل اصابته رسالة اسرائيلية مفخخة في مطلع السبعينيات فعطبت سمعه وبصره ويده وتكفل العمر بزيادة الاعطاب وهو مصاب بمرض القلب وعلى موعد دوري (اسبوعي في الغالب) مع اطباء احد هذه الاعطاب، فضلا عما يستجد للمرء في مثل عمره من أمراض أخرى. وكم كنا في مكتب الموسوعة نتعجب من اصراره على العمل والعطاء بإتقان وغزارة، رغم هذا الوضع الصحي المعيق لهذا العمل وكنا نعجب بذلك، ولاشراك القارئ في التعجب والاعجاب أروي تفاصيل كتابة مقال او قراءته في مراحل حياته الأخيرة: كان يكتب ويكلف من يطبع المكتوب ثم يصور المكتوب مكبرا ويقرأه بواسطة المكبر. انها ارادة الحياة، ارادة العطاء التي عبقت بمسيرة انيس صايغ، انها صرامة مع الحياة نفسها قلّ نظيرها.
يعز عليّ وعلى كثر مثلي غيابه، وما يعز عليّ اكثر عدم تحقيق مشروعين له وعنه: الأول: فاتحته به أكثر من مرة هو جمع تراث اخيه فايز، وهو تراث غني، وقد رحب بذلك، الا ان تصوره لانجاز أي مشروع الذي يشترط تأمين التمويل المسبق حال دون البدء به، وهذا برسم السوريين القوميين الذي كان من المفكرين الأوائل ببنهم، وإن اختلف معهم وفصل من الحزب وبرسم القوميين العرب الذي مثل جامعتهم خير تمثيل في الأمم المتحدة وبرسم انصار الديموقراطية التي اختلف مع سعادة حولها وبرسم المنظمات الفلسطينية الذي كان صوت القضية دوليا، قبل ان تنشأ أي منها.
الثاني: فاتحت الصديق صقر أبو فخر به وهو إعداد كتاب تكريمي عن انيس صايغ في حياته، وقد رحب بالموضوع، الا ان مشاغل الحياة وعدم توقع الموت السريع لانيس حالا دون البدء به، وهو مشروع برسم اصدقاء انيس، وهم كثر، وإن بعد مماته.
فارس اشتي- السفير
مات واقفاً ووجهته فلسطين
قال انه سجن نفسه في عالم صغير لم يغادره منذ تأهل للحياة العملية، هو عالم القلم وعالم الوطن. أي عالم الثقافة وعالم التحرير. وقد صدق في وصف عالمه الصغير، الذي أشع منه على العالم الخارجي فكراً وطنياً صادقاً ملتزماً قضايا العرب القومية، وأبرزها فلسطين في اطارها العربي الشامل.
في حديث تلفزيوني قبل اشهر قليلة سأله المحاور: لقد كنت ناصرياً في شبابك فأين أنت اليوم؟ أجابه دون تردد، كنت وما أزال حتى اليوم ناصرياً. ثم سأله عن موقعه الفلسطيني؟ فأجاب أنا مستقل لكني حمساوي الهوى.
هذا هو الرجل الكبير ـ المفكر المقاوم الثائر، الذي لم تبعده سنوات عمر قارب الثمانين، ولا احباطات الواقع العربي المتراجع، ولا قنابل الصهاينة التي أفقدته احدى عينيه وأصابع احدى يديه، عن استمرار نضاله الفكري، سلاحه القلم، وقضيته وطن.
أعتز بأني كنت صديقاً لابني عائلة القس عبد الله الصايغ المناضلة. الأخ الأكبر يوسف والأخ الأصغر أنيس.
صداقتي مع الدكتور أنيس استمرت أربعة عقود. بداياتها في النادي الثقافي العربي الذي كان لي شرف رئاسته فترة طويلة، وكان هو من أصدقاء النادي والمحاضرين فيه. ثم تعاونت معه في تأسيس مؤسستين وطنيتين تعملان لقضيتنا المشتركة: العروبة وفلسطين.
عام 1972 كان أنيس أحد المؤسسين «للجنة العربية لتخليد جمال عبد الناصر» التي ترأسها الشهيد كمال جنبلاط، وكان معنا فيها رفيقه شفيق الحوت. كان اهتمامه باللجنة كبيراً، ومثابرته لافته، حتى انه قبل ساعات من موعد أحد الاجتماعات في منزل كمال جنبلاط استلمت منه بصفتي أميناً عاماً للجنة، برقية من القاهرة يعتذر عن الحضور بسبب عمل اضطراري في مصر. كم كان حضارياً هذا المناضل الكبير.
والمؤسسة الثانية منتصف التسعينيات كانت «المؤتمر الدائم لمناهضة الغزو الثقافي الصهيوني» التي تزاملنا فيها في مجلس أمناء ترأسه المغفور له الرئيس أمين الحافظ، وكان تشاوري دائماً معه. كنت أثق برأيه الوطني الصادق والصلب خاصة في الموضوع الفلسطيني، والتقيته غالباً مع الثلاثي الذي كان يجمعه مع المغفور له رفعت النمر (أبو رامي) والدكتور صلاح الدباغ أطال الله بعمره. كما أعتز بأني شاركت معه في تحرير كتاب «قسطنطين زريق 65 سنة من العطاء».
كما أعتز بدعوته لي لمخاطبة اللقاء الثقافي الفلسطيني الذي كان ينظمه أسبوعياً في نادي متخرجي الجامعة الأميركية.
اختلف مع كثر أبرزهم الرئيس ياسر عرفات، وبقي متمسكاً بقناعاته. فلسطينه هي بين النهر والبحر، ولا مساومة. عروبته صافية وصادقة. بقي يكتب كلمة «إسرائيل» بين قوسين رغم ان البعض اتهمه بأنه يسجن نفسه في كهف.
استمر يكتب للعروبة وفلسطين حتى الرمق الأخير، رغم انه لم يعد يستطيع القراءة لضعف عينيه وبعض سمعه وفقدان اصابع احدى يديه. زوجته هيلدا كانت له العين، وصلة الوصل مع عالمه الفكري. آخر عمل له لم ينجزه كان كتاباً عن شفيق الحوت بمعاونة تلميذه في العروبة الياس سحاب.
«على طريق طبريا يطيب الموت لأن المرء يموت واقفاً، وكأنه لم يمت».
هكذا كتب ثم نفذ. مات واقفاً ووجهته فلسطين.
محمد قباني - السفير
رابع أربعة
لا أريد ان أبد بالقول انني لم اعرف جيداً أنيس صايغ ولم أعرف أبداً فايز ولا يوسف ولا توفيق صايغ. لكن الثلاثة يحضرون اليوم في غياب أنيس أصغرهم. لا بد ان باباً ثقيلاً اقفل وراء الثلاثة، لا بد ان صفحة طويت اليوم، لقد بات هذا الشعار والاسم العائلي في البانتيون وبرحيل أنيس لن يبقى من الجميع سوى الذكرى.
لم أعرف أنيس ولا جدوى من القول اننا التقينا بدون ان نلتقي، لم أتعرف إليه الا بالكاد ولا أدري إذا كانت صحبة أنيس وفايز ويوسف وتوفيق شرطا لنعرفهم. افلا يحق لمثلي ان يكون قارئاً عادياً، واحداً من الجمهور وأن يعرف الشاعر والباحثين سيرة وأدباً. أحسب اليوم ان الفلسطيني العادي يحضر اليوم أكثر ما يحضر حين يكون معاناة بالروح والقلم والقلب. فوجئت حين علمت ان توفيق فلسطيني. كان الفلسطيني لا يزال بالنسبة الى (أبو سلمى وابراهيم طوقان)، الا انني اليوم لا أذكر توفيق صايغ إلا ويقترن اسمه بالفلسطيني ففي هذا التذنيب العميق الذي طغى على شعره وفي هذا الصليب المعكوس الذي علق عليه أرى اليوم بوضوح أكبر المأساة الفلسطينية وقد تخلصت من الهتاف والتظاهرة والصخب المسلح، المأساة الفلسطينية وقد عادت أيضاً عزلة العزلات وأودية الشتات والهيام في الأرض والذنب الانطولوجي وأخيراً ذلك القبر المنفرد في حديقة انكليزية. سيكون توفيق صايغ بعد كل هذا الوقت المسيح الفلسطيني الذي لا يقتل في جنين وغزة وحدهما ولكن يصلب أيضاً في الشتاء الانكليزي والأوروبي والعربي وفي كل مكان.
نذكر فلسطين بشهدائها وقادتها المستشهدين غالباً وهم كثر ووفرتهم أكثر من الذاكرة، من شهيد على بقايا شهيد إذا استعرنا المعري مع تحوير للمناسبة قد لا يبقى الرمز. لكن الرمز الفلسطيني ليس واحداً ففلسطين مصنع الرموز، موت توفيق صايغ الفاجع في انكلترا وموت محمود درويش في أميركا لن يكونا أقل معنى. وها موت أنيس صايغ بعد يوسف وفايز وأنيس سيجعل من هذه المقبرة العائلية رمزاً، ليس المخيم وحده بوعره وبؤسه وخشونته هو الشاهد الوحيد. ثمة أيضاً هذه الارستقراطية الفكرية التي بتربية بروتستانتية وصراع مع المسيح البروتستانتي، بمكتبة عامرة وعيون شفافة وأناقة وتهذيب جم لم نكن أقل فدائية ولا عناداً ولا صلابة من فتيان المخيمات، هذه المراكز الثقافية القليلة التي انشئت في بنايات أنيقة لم تكن أقل نضالية ولا بذلاً من المعسكرات، كان الأمر معكوساً أحياناً كثيرة فالموت في سبيل فلسطين لم يكن دائماً ولا أبداً أقل من الحياة في سبيل فلسطين. في هذه المراكز كانت فلسطين تستحضر بالصورة والواقعة والحدث. كانت الذاكرة الفلسطينية تصاغ من جديد وكانت فلسطين تكتسي بالتفاصيل وكانت تمتلئ وتؤهل بالبشر والنبات والمعالم والتواريخ. كانت شهادتها تلك بقوة استشهادها ففي حين صارع كثيرون اليأس بأجسادهم الحية والمباشرة، صارعه آخرون بالوجدان والحلم والذاكرة. حين أحرقت أصابع ووجه أنيس صايغ تلك الرسالة الإسرائيلية المفخخة كانت تسعى لتحرق بالدرجة الأولى ذاكرته، وتلك الفلسطين التي لا تزال تنتظر في الحلم والذكرى.
كان توفيق هو الشاعر وفايز وأنيس ويوسف هم الباحثون لكن في حال كهذه كيف نستطيع التفريق بين النثر والشعر بين الذاكرة والأمل، بين التاريخ والحلم بين البحث والمعاناة، في حال كهذه كيف يمكننا ألا نسمع الصدى المأساوي يتردد حتى في سطور الارشيفات. كيف لا يخطر لنا ان الجداول والأرقام تشعر وتغني وتتألم، القلب الذي انصدع في انكلترا كان هو الأول واليوم نسمع عند رحيل أنيس الحلم نفسه يقاوم ويتألم.
عباس بيضون - السفير
فلسطين استعادته أخيراً بين أسمائها الحُسنى
«إننا نفقد اليوم واحداً من أسماء فلسطين الحُسنى». هذا الوصف الآسر والشجيّ الذي أطلقه شفيق الحوت في تأبين محمود درويش، انطبق لاحقاً على الحوت نفسه، وها نحن نستعيده لنؤبِّن أنيس صايغ (1931 ـــــ 2009) الذي رحل ـــــ استكمالاً للمرارة ـــــ قبل أن يُنهي كتاباً بدأ بإعداده عن الحوت.
لن تكفَّ فلسطين عن إنجاب أسماء جديدة، لكننا ننتبه إلى أنها تفقد ذاك الرعيل الذي عاصر ضياعها، وتربّى على حلم العودة إليها، وصنع أفراده، كلٌ في مجاله، جزءاً من اسمها وحضورها في وعينا ووجداننا وثقافتنا. كأن فلسطين تخسر احتياطيها الاستراتيجي. نقول ذلك لأنفسنا كلما احتضن تراب الشتات أجساد هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في النضال، وأمِلوا أن يروا مسقط رأسهم، ويموتوا فيه كما يموت البشر العاديون. قلَّما مات الفلسطينيون موتاً عادياً. إما أن يموتوا غرباء عن بلادهم، وإما أن يسقطوا برصاص الجيش الإسرائيلي. بهذه المعاني كلّها، نتلقى خسارة فلسطين وخسارتنا لأنيس صايغ الرجل الذي ارتبط اسمه بـ«مركز الأبحاث الفلسطيني» الذي ترأسه بين عام 1966 و1976، وبـ«الموسوعة الفلسطينية» التي بقي مرتبطاً بها حتى سنة 1993، وصدر منها أحد عشر مجلداً.
لعلَّ علينا أن نخاطبه اليوم بـ«عزيزي أنيس مركز الأبحاث» كما خاطبه الوزير فاروق البربير خلال تكريمه قبل سنوات، إذْ لطالما مثَّل له المركز الجبهة الثقافية والسياسية والتأريخية التي حارب فيها. أنجز الرجل أشياء كثيرة في حياته. أصدر عشرين كتاباً، وأسس مجلة «شؤون فلسطينية» ثم «المستقبل العربي» و«شؤون عربية»، وترأس تحرير مجلة «قضايا عربية»، وأسّس «اللقاء الفلسطيني» الذي ظلت جلساته مستمرة حتى رحيله. ولكنّ المركز بقي يختصر تلك الحياة الخصبة، حتى بعد استقالته، وتفجير المركز على يد إسرائيل سنة 1983، بعد ثلاثة اعتداءات عليه في النصف الأول من السبعينيات، ثم احتلاله عام 1982 وسرقة وثائقه ومكتبته.
بجوار إنجازات النضال الفلسطيني، كان مركز الأبحاث أهم إنجاز ثقافي. فيه ـــــ وفي «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» ـــــ تحولت القضية الفلسطينية من مسار عاطفي وخطابي إلى مسار علمي موضوعي وموثَّق، بحسب ما كتب صايغ في مذكراته. كانت فلسطين حاضرة في الشعر والسرد والأغاني، وبات لها حضورها المتجذِّر في التاريخ والوثائق والدراسات المحكمة والرصينة. مثَّل المركز ظاهرة أثارت إعجاب إسرائيل نفسها. إذْ دعت المنظمة الصهيونية العالمية في أحد تقاريرها إلى الاقتداء بالمركز «إذا أرادوا لحركتهم النجاح». ولا ننسى أن صايغ نفسه تعرض لمحاولة اغتيال بطرد مفخخ وفقد بعض أصابعه، ومعظم سمعه وبصره، الأمر الذي حوَّل المركز إلى معمودية نار ستلازم رئيسها حتى آخر حياته.
بدأ صايغ الكتابة في الصحافة وهو لا يزال طالب علوم سياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. وبحسب ما كتب في مذكراته، كان يذهب مع زميله هشام أبو ظهر (رئيس جريدة «المحرر» لاحقاً) إلى مكاتب جريدة «الحياة» وينتظران خروج صاحبها كامل مروّة. يدخلان ويسألان عنه فيقول لهما البواب إنه غير موجود، فيترك كل واحد منهما مقاله على مكتبه وينصرفان. كان صايغ يخشى أن يُكتشف أنه طالب صغير السن يكتب في موضوعات أكبر منه، لكنّه فوجئ بإعجاب مروّة بمقالاته وإضافته لقب «الدكتور» إلى اسمه. وحين أوضح له في مقالة لاحقة أنه ليس دكتوراً، استمر في منحه اللقب ظانّاً أنّه يتواضع، إلى أن قام أستاذه نقولا زيادة (وهو اسم آخر من أسماء فلسطين الحسنى) بالاتصال بمروّة، فعاد اسم أنيس صايغ من دون ذلك اللقب الفخري.
البداية الطريفة واللاهية، ولكن الذكية والواعدة في الوقت نفسه، كشفت عن سيرة مميزة في طور التكوّن. سيرةٌ لم يتأخر صاحبها في تعزيزها، فنشر باكورة كتبه «لبنان الطائفي» في سنة تخرُّجه (1953). بعد التخرّج حتى التحاقه بجامعة كامبردج (1959)، عمل في «النهار» و«الأسبوع العربي». نشر كتباً أخرى، وعمل في تحرير عدد من الموسوعات والقواميس، قبل أن يبدأ مشروع حياته في عام 1966، حين وصلته ـــــ وهو في لندن ـــــ برقية من شقيقه فايز الذي كان قد أسس مركز الأبحاث في «منظمة التحرير الفلسطينية» أوائل عام 1965، يطلب منه الاجتماع مع أحمد الشقيري، رئيس المنظمة وقتها، للبحث في مشروع إصدار موسوعة فلسطينية. قدم فايز استقالته، وكُلِّف هو برئاسة المركز والعمل على إنجاز الموسوعة معاً.
ها نحن نلف وندور، ونعود مجدداً إلى «المركز» و«الموسوعة». قالت العرب قديماً «المرء بأصغريه، قلبه ولسانه». الأرجح أن المركز والموسوعة كانا قلب أنيس صايغ ولسانه. ففيهما وضع الرجل الأثرَ الذي سيخلِّده ويحفظه من النسيان. ولا ننسى، في هذا السياق، أن عشرات الكتاب والمثقفين الفلسطينيين والعرب مرّوا على المركز. بعضهم بدأ من هناك، وآخرون عززوا حضورهم فيه. لكن الجميع يقرون بأهمية اللحظة التاريخية التي جعلت أسماءهم وتجاربهم في الكتابة والإبداع جزءاً منه. هكذا، وجد المركز خلوداً إضافياً على شكل شذرات ومحطات أساسية في سِيَر من عملوا فيه.
برحيل أنيس صايغ، نودِّع رابع الصيَّاغ الكبار في عائلته، فقد سبقه يوسف الذي ألَّف عشرات الكتب والدراسات الاقتصادية، وترأس اتحاد الاقتصاديين العرب سنوات عدة. وفايز المفكر والقيادي في الحزب السوري القومي، وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً. وتوفيق أحد رواد الشعر العربي الحديث وصاحب مجلة «حوار» التي ضجَّت بها الحياة الأدبية في الستينيات.
في سنواته الأخيرة، وفي شقته البيروتية المستأجرة، دأب صايغ على رؤية حلم متكرّر يحوم فيه حول بيت العائلة القديم في طبريا من دون أن يدخله. لعلَّ حلماً مماثلاً تسرَّب إلى نوم آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين امتلك كل واحد منهم حكاية عن عودته المنتظرة إلى مكانه الأول في فلسطين. كان مقدَّراً ألا يستشهد أنيس صايغ بالطرد الإسرائيلي، فعاش حتى توقف قلبه يوم عيد ميلاد عيسى الناصري. حذا حذو إخوته الذين لم تسعفهم قلوبهم على العيش أكثر، وتلك تراجيديا أخرى... أنيس صايغ، وداعاً.
حسين بن حمزة- السفير
كيف أفسّر شعور الانتظار في مقام الوداع؟
صحيح أن جثمان المعلّم أنيس صايغ الآن في ثلاجة، أو قد يكون وصل إلى ضريحه في بيروت؛ صحيح أنه رحل عن حياة مكلّلة بالغار مزدحمة بالمناقب والشمائل النادرة، وأن سيرته العطرة ومؤلفاته المتنوعة وجهوده المعرفية («مركز الأبحاث الفلسطينيّة»، «الموسوعة الفلسطينية»، إلخ.) وقبضه على الجمر وجهاده يمكنها أن تسند جيلاً من المفكرين والمقاومين. صحيح أن رحيله ـــــ في لحظة العرب والفلسطينيين المريضة هذه ـــــ خسارة كبيرة... لكن كيف للمرء أن يفسّر شعور الانتظار في مقام يفترض أنه مقام الوداع؟
المسألة معقدة قليلاً، لأن الأمر ليس مبالغة عاطفية مردّها الشعور بالفقد. نحن بالفعل ننتظر أنيس صايغ أكثر مما نودعه. الموت حيلة أيها الأصدقاء. ينتابني شعور أنه قفز في الزمن وسبقنا عقداً أو عقدين أو ثلاثة إلى تحقيق فكرته التي تبدأ من فلسطين المحتلة عام 1948، فلسطين العميقة التي كانت معرفته المتينة لا ترى مستقبلاً للعرب من دون تحريرها. لهذا، ظل مؤمناً بفكرة أن لا مكان على أرض فلسطين لمستوطنة استعمارية تدعى «إسرائيل»، وقد حرص دائماً على وضعها بين علامتي تحفظ.
من وجوه فرادة أنيس صايغ كونه مثّل في مسيرته النقيض البهيّ لـ«مثقف منظمة التحرير» الامتثالي والذرائعي، ذلك المثقف الموظف في أدنى معانيه. ذلك النمط من المثقفين الذين تمتعوا بتفرّغ مموَّل في مؤسسات «منظمة التحرير الفلسطينية» لكن دونما إنتاج في المقابل، وغلّبوا في معظم الأحيان ولاءاتهم المصلحية على دور المثقف وشروطه. للأسف، لم يكن هؤلاء دائماً من قليلي الموهبة، فبالإمكان العثور على بعض أصحاب المواهب بينهم. ولم يكونوا قلة، بل كانت القلة هم أنيس صايغ ورفاقه. وفي هذا السياق، تُقرأ مواجهات أنيس صايغ مع ياسر عرفات ونهج «الألبنضة» (بالدارجة المصرية) الذي عامل به الأخير طبقة المثقفين في حاشيته الثورية.
عاش صايغ في مرحلة كان موقف المثقف الفلسطيني من سلطته موقفاً ملتبساً بسبب الطابع الثوري للمنظمة، من حيث الشكل والشِّعار لا من حيث الممارسة الفعلية. كان نقد أداء منظمة التحرير أو ياسر عرفات أو نقص الولاء للأخير يعد وقتها ـــــ في نظر الحاشية ـــــ خروجاً على «الشرعية». ولعلّ «الشرعية» كانت وما زالت أسوأ الكلمات الطوطمية في القاموس السياسي الفلسطيني.
في رحيل أنيس صايغ، نعرف أن الموت نوعان: خروج من الزمن وقفز في الزمن. موت يشبه ختاماً وحصاداً، وآخر يشبه بَذْرَاً وغرساً وتجذيراً. لا أعرف أية بقعة سيختار ليقف عليها في الزمن المنتظَر الذي سَبَقَنا إليه، وهل سنكون جديرين يومها بالوقوف إلى جانبه؟ هذا على الأقل ما سيحاوله كثيرون منا.
نجوان درويش- الأخبار
إضافة تعليق جديد