عام على رحيل كبير الشعراء محمود درويش
حيفا وبيروت، باريس وتونس، رام الله وعمّان...
في 9 آب (أغسطس) 2008، توقّف قلبه المثخن عن الخفقان في أحد مستشفيات هيوستن، في ولاية تكساس الأميركية. لكنّ الشاعر ما زال طاغياً في «غيابه». ماذا يبقى لنا من صاحب الــ «جداريّة»؟
هل تغيّر شيء في نظرتنا إلى شعره بعد سنة على رحيله؟ هل تتضاعف رمزيته التي أحرزها عبر عقود من الكدح الشعري الدؤوب من جهة، وتماهيه مع صورة فلسطين وسؤالها الأخلاقي المفتوح على العالم؟ هل غياب الشاعر صاحب الكاريزما سيتيح لشعره قراءة أكثر تحرراً من سطوة الظاهرة التي تقاطعت فيها جملة عناصر ومكوّنات؟ ظاهرة تظل شعرية في الأساس، رغم ما دَخَل عليها من أثقال السياسة والأدوار والتوازنات الصعبة. ثم من هو الشاعر في النهاية؟ وهل بالإمكان فصل شيء عن آخر حين نتحدث عن عملية القراءة وبقية أشكال التلقي؟
ثم أين نعثر على الأجوبة؟ في مجلدات أعماله الشعرية؟ في فتوّته عند ضفاف المتوسط في حيفا وبيروت؟ في كهولته بين رام الله وعمان؟ في الناس الذين خرج منهم؟ في الشقق والعمارات والشوارع؟ في مدوّنة الشعر العربي وتحولاته؟ في الغياب؟ لا أحد يمكنه التنبؤ بمفعول هذا الإكسير العجيب (الغياب) على الأعمال الفنية، والزمن، هذا الماكر، لا نعرف ماذا يخبئ «الغياب» للذين عرفوا بريق الشهرة في حياتهم، أو مكثوا في ظلمة الهامش. نتذكر الآن أحمد شوقي ونزار قباني. والأعلى ذائقةً سيتذكرون لوركا ونيرودا. هذه السلالات الشعرية التي يمكن إرجاع محمود درويش إليها.
أما السؤال عن التركة الشعرية لشاعر ما، فيُحوّل تلقائياً إلى ثلاثة: النقد الأدبي وذائقة الأجيال الجديدة والزمن. وكل واحد يجيب بطريقته. وإن ظن بعضنا أنها ليست سوى جهة واحدة تتخفى بثلاثة أسماء.
هل نقف عند أطراف سيرته؟ الولادة في آذار (مارس) 1941 في قرية عربية فلسطينية لها اسم دقيق كأنما من الحنطة: «البروة». سرعان ما سيهجّر أهلها وتدمّر عام 1948. في العام نفسه، ترجع العائلة من نزوح قصير إلى لبنان، لتستقر في قرية «الجديدة» قرب عكا. سيتذكر حبال غسيلها دوماً. هناك في مدرسة قرية «دير الأسد»، سيعرف معنى كلمة لاجئ. تتضاعف قسوة الكلمة حين ينشأ المرء لاجئاً في بلده. هذا لجوء مركب يشبه الفقر واليتم كأن الأرض تهرب من تحتك. كلمة لاجئ مثّلت له تحدياً حتى النهاية، وقد مثّل في حياته ــــ واعياً لهذا التمثيل على الأغلب ــــ نموذج الفلسطيني الذي يثير الحبّ والحسد لا الشفقة.
عكا وحيفا في الستينيات، فتوة لا ينقصها الصخب، وغسان كنفاني (1936 ــــ 1972) يصدر كتابه «أدب المقاومة» (1966). هذا التيار الذي حمل معه كثيراً من الأخشاب الميتة. في حيفا، يلتحق بـ«راكاح» (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)، عن طريق المؤرخ الشيوعي إميل توما (1919 ــــ 1985). تبدو علاقته مع توما نموذجاً مصغراً، أو تمريناً لعلاقته اللاحقة بياسر عرفات الذي بقي مقرّباً منه حتى الاغتيال الغامض للأخير في باريس.
ذات يوم في رام الله، تناقشنا معه حول أمسيته الحيفاويّة التي أثارت نقاشاً عارماً عام 2007، خصوصاً أنّ جانباً من الحساسيات المثارة حولها حينذاك مردّه إلى أنّ «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة» (وريثة الحزب الشيوعي الإسرائيلي) هي من نظّم الأمسية، ما أعطاها «أبعاداً» كانت في غنى عنها. فوجئنا يومذاك بردّه على التساؤلات النقديّة: «... ولكنه حزبي!». استغربنا أن يكون الشاعر ما زال يعتبر نفسه من هذا الحزب، فيما الصورة الملازمة له كان قد طغى عليها ارتباطه بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، وانقطاعه الطويل عن العمل السياسي داخل فلسطين المحتلة منذ التحاقه بمنظمة التحرير بداية السبعينيات. بل إنّ بعض أقطاب هذا الحزب نددوا بخروجه من البلاد في ذلك الوقت (1972)، بنبرة تذكّر بما سيتعرض له بعدها بسنوات طويلة المفكر والقائد السياسي عزمي بشارة.
أولى محاولاته تعود إلى المجموعة الشعريّة التي أسقطها لاحقاً، وحملت عنوان «عصافير بلا أجنحة» (1960). اعتبر محمود «أوراق الزيتون» (1964) مجموعته الأولى. وطوال ربع قرن من عمله الشعري، لم يكن بإمكانه إلا أن يعترف: «خرجت من عباءة نزار قباني». تأثير لوركا لم يكن قليلاً في تكوينه الشعري. ولاحقاً كان كثير الإفادة من لغة معاصريه بدرجات وأشكال متفاوتة: أدونيس وسعدي يوسف وسليم بركات وغيرهم. وفي شعره المتأخر، سنجد تأثيرات مختلفة تبدأ بـ ت. س. إليوت ولا تنتهي بكنوت أو ديغارد. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّه لم يكن بعيداً عن التأثر بحساسيات شعرية مختلفة في قصيدة النثر كنوري الجراح وعبّاس بيضون وغيرهما. آخر قصيدة نشرها محمود في حياته بعنوان «لاعب النرد»، لا يمكن إلا أن تذكّرنا في مطلعها بقصيدة «صور» لعباس بيضون.
موسكو والقاهرة وبيروت بين 1972 و1982: إنّها فترة «صعود نجم» الشاعر. تونس وباريس حتى 1995: «لماذا تركت الحصان وحيداً». هذا الديوان انعطافة كبيرة في شعر محمود درويش. رام الله وعمّان حتى 2008: غزارة لافتة في الإنتاج، وفي متابعة النجاح الأدبي وتلقي التقدير من الجماهير، والتكريم والأوسمة من السلطات العربية... لقد اتسع الاهتمام العالمي بشعره، وكان يبدو شديد الحرص على نجاحه. وفي السنوات الأخيرة بدا كأنه لم يعد يؤمن بجدوى مشروع مقاومة أو نهضة في المنطقة العربية! العبارة في مجموعاته الشعرية الأخيرة كانت تتسع وتشفّ وتتموج... وتتكرر أيضاً. في شهر آب/ أغسطس الماضي، وصف أحد أصدقائه رحيله المباغت بـ«وثبة غزال»... كأنه يقفز الآن!
نجوان درويش
محمود وقصيدة النثر... «أحبك أو لا أحبك»
هل كتب محمود درويش قصيدة النثر؟ الجواب هو: قطعاً، لا. مع ذلك، ظهرت مقالات، بعضها شديد الوجاهة، بعضها بتوقيع الناقد صبحي حديدي أو الشاعر أمجد ناصر، اقترح أصحابها منح جنسية قصيدة النثر لدرويش، بناءً على نصوص ومقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصاً «أثر الفراشة» المنشور تحت صفة «يوميات»، و«في حضرة الغياب» تحت صفة «نص»، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هو «أحبك أو لا أحبك».
المشكلة أنّ درويش لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك. هنا، ثمة سؤالان متعاكسان لا بدّ من إثارتهما. الأول: لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة «قصيدة نثر» على ما كتبه؟ والثاني: لِمَ يتبرع سواه بفعل ذلك؟ للإجابة عن السؤال الأول يمكننا العودة إلى تصريحات يؤكد فيها الشاعر أنّه كتب نثراً لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن، قال: «أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً»، وأيضاً: «ما دمت أكتبُ نثراً، فأنا أكتب النثر من دون أن أسميه قصيدة». وفي موضع آخر، أكَّد: «أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحب الموسيقى في الشعر. إنني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعرياً إلا بالكتابة الشعرية الموزونة».
من الواضح أن درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه «شعرياً» وبين التعبير «نثرياً». هو شاعر في الشعر، وناثر في النثر. فلماذا نكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثراً موهوباً، ولم يكن يضيره أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعراً مرموقاً. كان صاحب «جدارية» حريصاً على عدم الخلط بين الأمرين، لكنه، في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثرية داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يصحح علاقته الشاقة والمُساء فهمها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها بل بالإفادة من خصوصياتها ومناخاتها. صادق قصيدة النثر لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مراراً بأن ما يُكتب من قصائد نثر في العربية أكثر جودةً من أخواتها التفعيليات. استثمر علاقات النثر بذكاء شديد. أخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله. أدار ظهره للصوت العالي والرمزيات المباشرة والغنائية المفرطة. في مستهلِّ ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد»، استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ كأنه نظم». أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثراً مكتوباً بالوزن. فرح حين اعتبر بعضُنا أن «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعلي ولم يبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثرية.
كل هذا يقول لنا إن درويش أراد استيعاب النثر في شعره، ولم يقصد كتابة قصيدة النثر. ظل «النثر جار الشعر ونزهة الشاعر» وظل يمارس «اختلاس النظر إلى بحبوحة النثر» وفق تعبيره. وهنا الإجابة عن السؤال الثاني: لماذا ننسب بعض «نثريات» درويش إلى «قصيدة النثر»؟ الجواب أن درويش رغب أن يحمل بطاقة عضوية استثنائية أو فخرية في «نادي قصيدة النثر». أي أن تشفع له نثرياته بحيازة هوية «قصيدة النثر». ما حدث أن شاعراً بحجم درويش وكبريائه الإيقاعية طرق باب «قصيدة النثر»، فكان لا بدَّ لشعرائها أن يفتحوا ويرحّبوا به. خدعنا محمود درويش، وانطلت علينا الخدعة.
حسين بن حمزة
رفض أن يكبر، ورحل بلا ورثة ولا مجدّدين
لم يتح الزمن لمحمود درويش أن يشيخ مع قصائده أو بها، فلم يهبط منحناها ولم تبدُ أسطره الأخيرة ابنة تعب، بل ظلت شابة في عنفوانها، حتى وهي تناجي الموت وتجادله. كانت القصائد الأخيرة لكنها ـــــ مع ذلك ـــــ لم تكن تشبه قصائد النهايات، بل تميزت بخصوبة وطزاجة لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن كل من فوجئ بالرحيل. إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدي حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها فلم تسنح لها الفرصة.
كان شاباً إلى النهاية، وربما لهذا لم يكن له تلاميذ، بل مقلّدون وغيارى وباحثون عن شفرة امتلكها درويش وحده. يندر ـــــ خاصة في التراث العربي ـــــ ألا يكون لشاعر بهذا الحجم مدرسة،
حتى لو ظن بعضهم أنّها موجودة، لكن عباءة الشاعر لم تنجب سوى نسخ صغيرة ذابت فيه. أما بعدما وضعت النقطة الأخيرة في نهاية السطر الأخير للقصيدة الدرويشية الأخيرة، فلا ورثة ولا مجددون، بل طرق أخرى مختلفة تماماً يتقاطع أصحابها مع درويش في أسئلته الإنسانية، لا في لغته. يفيدون من تجربته معرفياً، لا أسلوبياً.
فرادة درويش أنّه ارتدى مجده ثياباً كلاسيكية في مقهى عصري، صعدت قصيدة النثر العربية ونمت وتطورت حول درويش في كل مكان، فلم تمسّ منه ولم يمسّ منها، ولم يلتقيا في موعد، لا حبّ ولا كراهية، فقط بضع كلمات هنا أو هناك من لزوميات الإجابة عند السؤال. كأنه وتلك القصيدة الحديثة عالمان منفصلان لا يرى أحدهما الآخر، فلا يأخذ واحدهما من مكانة الثاني، لا يحاربه ولا يخوض معاركه، لا يزيده ولا ينقص منه.
لأنه لم يكن مدرسة، فإن محاولة استخلاص درس منه ستنتج حلولاً غريبة. صحيح أنه برهن على اتساع الشكل القديم لمعانٍ جديدة، وعلى ازدهار الصورة الشعرية في عالم الصورة البصرية، وعلى بقاء الشاعر رمزاً وبقاء الشعر نصاً مقروءاً في الوسع. ولكن مشكلة كل تلك «الدروس» أنّها ارتبطت بدرويش نفسه، ولم تبرهن بعد على قابلية إعادة التطبيق في واقع تضيق فيه مساحة قراءة الشعر على رغم اتساع السوق، وغزارة الأدب.
وما زال الشعراء الجماهيريّون الآخرون في معظمهم لا يليقون بأن يكونوا زملاء درويش، بل يداعبون في الشعر أجهله، ويلجأون إلى الكلمات التي تكملها آذان المتلقّين تلقائياً لكثرة ما سمعوها من قبل... أما في القصيدة الحديثة، فتضيق دائرة المتلقين حتى تكاد تقتصر أحياناً على كتّاب تلك القصيدة أنفسهم. وهي حالة لم يغيّر منها كثيراً تقدم وسائل النشر والاتصال، وزادت من تدهورها مسابقات الشعر التلفزيونية التي أكملت الجريمة المعرفية التي بدأتها مناهج التعليم. ومع ذلك، تواصل القصيدة الجديدة ازدهار «الكتابة» لا الانتشار. وفي خضم صراع كتابها ضد حراس الماضي، يستثنون محمود درويش من غضبهم، لأنّه أشعر من أن يعاديه أحد!
محمد خير
هنا يرقد، بعيداً عن الجليل
أجلس على حجر قرب ضريحه. إنّها الواحدة ظهراً، والشمس فقدت عقلها. كيف نترك رجلاً أهدانا ظلال المعاني والأمكنة والأحلام، وظلال الأوطان والمنافي والدروب، في الشمس وحده؟ قربي شرطي ضجر، يجلس في ظل بيت حديدي. خلفي مباشرة مزبلة رام الله الرئيسة. تُحرق القمامة ليلاً، فيطير دخانها في المكان. متى ستنقل المزبلة بعيداً؟ يجيبني موظفٌ في البلدية متلعثماً «المزبلة لن تنقل قبل ثلاث سنوات».
تستطيع أن ترى تلّة الضريح، ما إن تصل إلى «قصر الثقافة الفلسطينية»، وتنظر جنوباً. أمامك، طريق عشبي محاط بسلك معدني ومصابيح كهربائية. تلج عبر بوابة حديدية مساحة دائرية عشبية، فيها ثلاث شجرات صفراء. حول تراب محمود درويش، قفص زجاجي بشع، وضع لردّ هجمات الكلاب الضالّة، بانتظار استبداله بنصب تذكاري ينجزه المعمار جعفر إبراهيم طوقان، لكنّه لن يكتمل قبل تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.
بلدية رام الله مقصِّرة: يكفي أن ترى الغبار فوق القفص الزجاجي وأشكالاً بدائية لقمامة تتكوّن ببطء قرب الضريح... مناشدات المثقفين الفلسطينيين لتعيين حارس مدني لم تلقَ تجاوباً رغم تحطيم مصابيح الكهرباء مراراً من قبل عابثين. الشرطة عيّنت حرّاساً مسلحين، إلّا أنّ مظاهر السلاح قرب ضريح شاعر بدت منفِّرة. أمّا «مؤسسة محمود درويش» فما زالت غير مكتملة مالياً وتنظيمياً. كانت ستعلن انطلاقتها في الذكرى الأولى لرحيل الشاعر، إلّا أن عدم اكتمال النصب أجّل ذلك، رغم وضعها الحجر الأساس لمتحف ومسرح وحديقة قرب الضريح. عائداً إلى البيت، حاذيت نافورة ماء على مدخل قصر الثقافة. لماذا يُحرم ضريح محمود درويش المجاور من هذا الماء الدافق؟
زياد خدّاش
بيت عمّان يسكنه «الغياب»
أن تدخل منزل غائب، يعني أن تشعر بثقل غيابه، أن تأخذ الأشياء شكل حارسها النائم. أن تترك الباب موارباً، يعني ألا تنتظر أحداً، أو... أن تتركه يتسلّل خفيفاً. هكذا كان باب منزل محمود درويش في عمّان موارباً، فتحه شقيقه أحمد ذلك اليوم ولم يغلقه. نام في سريره وفكّر «كيف كان ينام وحده؟». يزور أحمد منزل شقيقه كل فترة؛ يفتح الستائر ويحاول تقليد القهوة الدرويشيّة. لا شيء هنا يوحي بترفٍ. عندما انتقل من باريس إلى عمّان لم يصطحب معه إلا مكتبته، ومرآة مزخرفة تحتلّ جداراً في الردهة، والمكتب. تحتلّ المكتبة جداراً كاملاً. تستقرّ على رفّ «فصوص الحكم» و«المواقف» للنفّري و«ألف ليلة وليلة»... وفي الشِّعر، يحتفظ درويش بدواوين المتنبّي، المعرّي، أبو نوّاس، طرفة بن العبد... ومن الشعراء المعاصرين، يحتفظ بأعمال أمجد ناصر، عبّاس بيضون، سعدي يوسف، سليم بركات، قاسم حدّاد، والراحلين: معين بسيسو، ممدوح عدوان والماغوط، إضافة إلى أعمال لبول شاوول، محمد بنيس، عبد الفتاح كيليطو وإدوار سعيد...
غرفة المكتب متقشّفة: بضع لوحات، صوفا وكرسيان وتلفزيون. يقول أحمد: «تركتُ كل شيء كما كان». لا يعرف أحد مصير المنزل، لكنّ «مؤسسة محمود درويش» التي تتكوّن من صديقيه حاملي نوبل وولي سوينكا وبرايتن برايتنباخ، ستقيم قريباً ضريحاً في مكان القبر ومتحفاً وحديقة ومسرحاً وتمثالاً للشاعر.
عمّان التي استقرّ فيها درويش لأنّها «هادئة وشعبها طيّب»، تستترُ وراء حجرها الأبيض، غبر مبالية بمنزل يسكنه «الغياب»... عندما حاول أحمد وصف عنوان المنزل، لم يعرف «عمّان كلّها حجر، وين بدّي دلّك؟».
أحمد الزعتري
في البدء كانت القاهرة
نجيب سرور سخر من «مدلل فندق شبرد»
كان معروفاً في أرض الكنانة قبل أن تطأها قدماه، ويتلقّفه أحمد بهاء الدين ثم محمد حسنين هيكل. لكنّ «ثورة» السادات قذفت به إلى بيروت
لو لم تكن شاعراً فماذا تتمنّى أن تكون؟ أجاب فوراً: رساماً. الإجابة لم تكن هروباً من سؤال يعدّه بعضهم «محرجاً» بقدر ما تكشف الرغبة الدفينة التي تسكن محمود درويش. رسام. لكنّ الرسم مكلف للعائلة. الأب يخرج صباحاً ليعمل في المحاجر، ولا يملك ثمن الألوان وكرّاسات الرسم، فضلاً عن تكاليف الدراسة. كبت الصغير هوايته وأخبر أستاذه: «أنا أكتب الشعر». صدّق الأستاذ وطلب منه أن ينشد في طابور الصباح إحدى قصائده.
بالفعل، قرأ الصغير قصيدته الأولى على زملائه. قصيدة عن «طفل يعود إلى قريته، فلا يجد من بيته سوى الأطلال، وأرضه سرقت... ولم يعد يملك شيئاً سوى الغربة. في اليوم التالي، جاء عساكر الاحتلال للتحقيق مع محمود الذي لم يكن يتجاوز الثانية عشرة... شعر بالرعب لكنّه اكتشف أيضاً أن الشعر سلاح قوي، يخشاه الغزاة والطغاة! وفي تلك اللحظة فقط، قرر أن يكون «شاعراً»، يداعب أساتذته بالقصيدة، كما فعل عندما كتب إلى معلمه شكيب جهشان: «ضحك القرنفل فاستبد بخاطري، وأهاج شوقاً للجمال العابر».
وبدأ ينشر ما يكتب في الصحف المحلية. وعندما وصل إلى المرحلة الثانوية، كما يروي شقيقه أحمد، «صار ضيفاً على المهرجانات التي كان يقيمها الحزب الشيوعي في مناسبات مثل الأممية وأول أيار والانتصار على النازية». وفي هذه المناسبات، كان محمود يذكر كثيراً مفردات الحنين والعودة واللاجئين، وهي المفردات التي ستكون الأساسية في شعره. وقد تسبّبت واحدة من تلك القصائد بأن يفقد والده عمله لتصبح العائلة كلها بلا مصدر دخل! هذه الحكايات البسيطة تريح النقاد الباحثين عن «المرحلة الأكثر تأثيراً» في قصيدة درويش. هل كانت القاهرة أم بيروت أم باريس؟
كل الوقائع تؤكد أنّه كان «نجماً» في سماء القصيدة الفلسطينية قبل أن يترك فلسطين، وكان نجماً في القاهرة قبل أن تطأ قدماه المدينة، وكثيرون هم أصحاب الفضل في ذلك. ترى الكاتبة صافيناز كاظم أنّ الراحل أحمد بهاء الدين هو مَن احتضن درويش في البداية، عند مجيئه إلى القاهرة... بل قبل مجيئه، منذ بدأ ينشر مقالات عن شعر محمود درويش. وكانت أولاها في «المصور» (2 أيار/ مايو 1967) بتوقيع غسان كنفاني: «محمود سليم درويش شاعر المقاومة الفلسطينية». تناول كنفاني قصيدة «بطاقة هوية» التي باتت معروفة أكثر بأوّل سطر فيها «سجل أنا عربي»، وختم معتبراً أنّ «درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة، وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو، حورب فيها برزقه أولاً، ثم أبعد عن قريته، ثم وضع في السجن، ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفاً وتحدياً».
ولاحقاً، كتب رجاء النقاش كتابه «درويش شاعر المقاومة» الذي صدر عام 1969. وبعد ذلك باتت الحكاية معروفة: حين وصل درويش إلى القاهرة لم يكن شاعراً مجهولاً. كان ذلك في شباط (فبراير) 1971 بعد رحيل عبد الناصر، علماً أنّ الكاتب محمد حسنين هيكل يصرّ على أن درويش وعبد الناصر التقيا شخصيّاً. وهو أمر لم ينفه شقيقه أحمد، الذي أكّد أن «موسكو شهدت لقاءً بين الشاعر والزعيم». وبالفعل، زار عبد الناصر العاصمة الروسية للعلاج في الفترة التي كان محمود مقيماً فيها.
في القاهرة التقى درويش الصحافي عبد الملك خليل، وانتقل مباشرةً إلى «فندق شبرد» للإقامة، ثم إلى «إذاعة صوت العرب» حيث صدر قرار بتعيينه، وطلب منه مدير صوت العرب في ذلك الوقت محمد عروق أن يسافر مع المذيع عبد الوهاب قتاية إلى الأقصر وأسوان لأيام. وبالفعل سافر درويش لمشاهدة الآثار المصرية. وحكى قتاية عن هذه الرحلة أنّ أكثر ما أسعد درويش أنّ «محافظ أسوان رتب لنا زيارة إلى مدرسة نائية فى أطراف المحافظة وزرناها وذهبنا إلى أحد الفصول حيث راح الأطفال ينشدون إحدى قصائد درويش بألحان مصرية، فإذا بالدموع تكرّ على وجنتي الشاعر».
ما إن وصل درويش من تلك الرحلة حتى أقيم له مؤتمر صحافي أعلن خلاله أنّه برحيله إلى القاهرة، لم يرحل عن «المعركة»، وأنه غيّر «موقعه» ولم يغيّر «موقفه»، وأن الخطوة التي اتخذها جاءت «ليضع حقيقة ما يعانيه أهله في فلسطين أمام الرأي العام». ثم اصطحبه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وصافيناز كاظم في رحلة عبر مدينة القاهرة التاريخية، سجّلا وقائعها في مجلة «المصور» التي عُيِّن فيها لشهور قبل أن يطلب منه محمد حسنين هيكل الانتقال إلى «الأهرام».
هناك، بدأ درويش ينشر قصائده ومقالاته (لم تجمع حتى الآن في كتاب). وكانت إقامته في القاهرة مثار جدل بين الشعراء: رحّب به صلاح عبد الصبور واحتفى بأعماله، وكان من أوائل الشعراء الذين كتبوا عنه عام 1968 مقالة بعنوان «القديس المقاتل» نشرتها مجلة «الهلال». وهناك شعراء آخرون، كما تقول صافيناز كاظم، أيّدوا منطق نجيب سرور الساخر: «اشمعنى محمود درويش مدلل في فندق شبرد، ما احنا كمان شعراء الأرض المحتلة»!
لم يمكث درويش طويلاً في القاهرة. غادرها بعدما تغيرت الأحوال وقام السادات بثورة 15 مايو، أو ما سمّاه «ثورة التصحيح»، ليجد الشاعر أن أصدقاءه أصبحوا في السجون. هكذا انتقل للاستقرار في بيروت، حيث ستغتني تجربته الشعريّة، وتعيش قصيدته تحوّلاتها الحاسمة الأولى.
محمد شعير
رفاق حيفا يتذكّرون السنوات الشيوعيّة
«من أنت؟» سأله حنّا نقارة. أجاب: «أنا محمود درويش، من البروة». فقال له: «أنت مكانك معنا في «الاتحاد»». هكذا بدأ العمل في صحافة الحزب
نضال خيري
على رغم الانتقاد الذي تعرّض له عندما أقام أمسية شعرية في حيفا عام 2007، ورغم الفكرة السائدة بأنّ هذه الزيارة هي الأولى له إلى حيفا، إلا أنّ محمود درويش زار البلاد كثيراً قبل ذلك. لم يزرها فقط في عام 1996 للمشاركة في جنازة الأديب والصحافي وعضو الكنيست السابق إميل حبيبي الذي كان له أثرٌ كبيرٌ في حياته. بل كانت لدرويش زيارات أخرى للمشاركة في مناسبات مختلفة، بينها زيارة عام 1999، حين سُمح له بزيارة أمه وعائلته. هذا ما يؤكده عصام خوري أحد أبرز أصدقاء درويش: «عاد محمود بعد أوسلو إلى رام الله. وخلال فترة حكومة رابين ـــــ بيريز، دخل البلاد مرات عدة في «زيارات شخصية»، وكنت أذهبُ بنفسي لإحضاره من جنين».
الشاعر سالم جبران الذي قطن معه في حيفا، وكان زميله على مقاعد الدراسة خلال فترة الثانوية في كفر ياسيف، يقول: «أنهينا المرحلة الثانوية... ولم يكن ممكناً أن نعمل في سلك التربية والتعليم بسبب الأشعار التي كنّا ننشرها. هكذا، ذهب محمود للعمل في عكا في «مطبعة القبس»، وأنا عملتُ في مطعم. وفي السنة عينها، اتّصل بنا المرحوم إميل حبيبي بواسطة رفاق في الحزب، ودخل محمود للعمل في مجلة «الجديد»، وأنا في مجلة «الغد». ثم صدرَ ضدنا أمرٌ عسكري بما يسمى الإقامة المنزلية. وهذا يعني أنّك حرٌّ في النهار وطليقٌ في حيفا. لكن في الليل، يجب أن تكون في بيتك. وفي تلك الفترة، سافر المؤرخ والقيادي الشيوعي إميل توما للدراسة في الاتحاد السوفياتي وقطنا معاً في منزله في شارع عبّاس».
الشاعر سميح القاسم يروي قصة مختلفة عن انضمام محمود درويش إلى الحزب وصحافته. يقول: «عمل محمود مراسلاً في صحيفة «المرصاد» التابعة لحزب «مبام». وخلال مؤتمر في مدينة عكا حول قضية الأرض، راح يطرح بعض الأسئلة على حنا نقارة الذي سأله: من أنتَ؟ فأجاب: أنا محمود درويش من البروة. فقال له: أنت مكانك في صحيفة «الاتحاد»، وهكذا بدأ محمود العمل في صحافة الحزب».
الحزب الشيوعي الإسرائيلي في تلك الحقبة كانت لديه مؤسساته الإعلامية كصحيفة «الاتحاد» اليومية، ومجلات مختلفة، من أبرزها «الجديد» و«الغد»... وهذا ما دفع الحزب إلى تجنيد شعراء ومثقفين لم يجدوا منصةً للتعبير سوى من خلال الحزب في تلك الفترة.
وبحسب إحدى الشهادات التي رفض صاحبها أن يفصح عن اسمه، فإن انضمام محمود درويش إلى صفوف الحزب الشيوعي، يقع على كاهل المؤرخ والقيادي الشيوعي البارز إميل توما الذي كان درويش يكنّ له احتراماً كبيراً. يومها، قال توما لدرويش في إحدى جلساته معه: لا يعقل أن تبقى خارج صفوف الحزب، وأنت تكتب في صحافته. وبحسب الشهادة عينها، قال درويش لأشخاص مقرّبين: «أنا لا أستطيع أن أرفض طلباً لإميل توما».
في المقابل، يفتخر سميح القاسم ويقول: «أنا أول صحافي أعمل من دون شرط الانتماء إلى الحزب الشيوعي. في تلك الفترة، كنّا أنا ومحمود أصدقاء للحزب، لكننا كنا مؤيدين للتيار القومي الناصري. لقد كنّا أيضاً قريبين جداً من «حركة الأرض». لكن عندما بدأ الخلاف بين «حركة الأرض» والحزب الشيوعي، ملنا أكثر إلى الحزب».
الشاعر سالم جبران يؤكّد بدوره أنّه ودرويش، كانا متأثرين بالتيار القومي الناصري: «في فترة الثانوية، جمعتني أنا ومحمود صداقة متينة مع أستاذنا مطانس مطانس الذي كان يدرّسنا اللغة العربية. كنا نتردّد على بيته ويختار لنا الكتب، وبينها دواوين الياس أبو شبكة، ويوسف الخال، والجواهري، وعمر أبو ريشة وغيرهم من الذين لم تكن كتبهم متوافرة إلا في مكتبات المثقفين الانتدابيين. وكان أستاذنا يدير معنا نقاشات عميقة ويقول دائماً: فلسطين راحت، لكن فلسطين في وعيكم واللغة العربية في وعيكم. وإذا حافظتم على وعيكم، فلا شيء يضيع».
ويمضي جبران: «تأثّرنا باللغة والأدب والشعر العربي، وملاحظات أستاذنا حول الوعي وحبّ اللغة العربية والتاريخ والرموز، إضافة إلى قراءاتنا... كل هذا شدّنا بلا محالة إلى التيار القومي. في الليلة التي كان يخطب فيها عبد الناصر، كنّا نستحمّ ونتطيّب كما لو أنّنا نستعدّ لتأدية طقوس مقدّسة... ثم نستمع إليه على الراديو».
الشاعر الذي فضّل الحبّ على النساء
محمود درويش تزوج مرتين، لكنّ الفشل كان دائماً من نصيبه. الأصدقاء القدامى يدافعون عنه. يقول عصام خوري «الشعر لمحمود مشروع حياة. كان يحب حياته الخاصة جداً، لكنّها لم تكن تتناسب مع الحياة الزوجية، لهذا فشلت محاولات الزواج».
سالم جبران، الذي قطن مع درويش فترة طويلة، يكشف أسرار علاقات درويش الغرامية: «كان على علاقة مع خمس أو ست شابات، ونحن في حيفا. لكن كان يصعب عليه أن ينام في غرفة مع أحد. كان يغلق غرفته ويمارس حياته الخاصة مع الشعر. وكان يوقظني مراراً في ساعات الليل ويقول: استيقظ هنالك قصيدة جديدة. ويقرأها لي في الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً».
ويكشف عصام خوري أنّ درويش أقام العديد من العلاقات مع شابات يهوديات، معظمهن يساريات أو منخرطات في الحزب الشيوعي: «لقد كان محمود انتقائياً في كل شيء. في شعره، هو انتقائي، حتى في طعامه وشربه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النساء. جميع صديقاته كنّ جميلات للغاية. لكن الحديث عن علاقة مع خمس أو ست شابات أمر مبالغ فيه. أعتقد أنّه كان على علاقة مع شابتين أو ثلاث».
وحول السؤال من هي «ريتا»، التي كتب درويش قصيدة عن علاقته معها، وهل كانت هذه العلاقة جدية للغاية، أم هي «ريتا» وهمية تمثّل فلسطين؟ يقول خوري إنّ «ريتا» هي فتاة يهودية، وكان محمود على علاقة معها، وهي ليست حبّه الأزلي ومأساة حياته. ولقد أحبّ نساءً أخريات غيرها في ما بعد».
وبحسب عصام خوري، فإنّ محمود كان يضع حدوداً في علاقته مع أصدقائه بالنسبة إلى حياته الخاصة. ولم يسأله يوماً، على سبيل المثال، لماذا لا يسعى لإنجاب طفل، يقول: «أنا لم أطرح عليه يوماً هذا السؤال كي لا أمسّ خصوصياته. لكن زوجتي كانت تفعل، وكان يجيب مازحاً: سأجلب المرة القادمة معي عروساً جميلة».
ويضيف خوري: «لقد كان إنساناً كريماً وموهوباً ليس فقط في كتابة الشعر، بل في صرف الأموال أيضاً (يضحك). المال لم يكن يوهمه بتاتاً. كان بالنسبة إليه وسيلة للعيش». عدا الشعر، كان درويش يحبّ السهر مع الأصدقاء وقضاء الوقت الممتع. كان يحبّ المطاعم الجيّدة، وجلسات الأنس في المنازل، واحتساء النبيذ و... العرق اللبناني.
غالب كيوان
بين «تانيا» وعيوني...
أنا الآن على ظهر «عمارة إميل توما» في شارع عبّاس بحيفا. سطح العمارة تابع للبيت الصغير الذي قضيتُ فيه ليلتي مع أصدقاء. تحتنا شقة الشاعر الشاب محمود درويش في ستينيات القرن الماضي! لم يكن يسكنها وحده، اعتاد تقاسم الشقق مع أصدقائه، بسبب الإيجار على الأرجح. المصادفة وحدها قادتني إلى هذه العمارة من دون بقية بيوت حيفا. إذ قرر أحد الأصدقاء أن تكون بقية السهرة عنده.
بمجرد أن ركنتُ السيارة في آخر شارع عبّاس ومشينا إلى البيت الرقم 45، وقبل أن نصعد الأدراج، قيل لي «هنا كان يسكن محمود درويش، في الطابق الثاني. هذه العمارة كانت لإميل توما، وفيها كان بيته». «واللهِ؟» أجبتُ مندهشاً، فيما قلت لنفسي: «حتى إلى هنا يسبقني»، متذكراً أن عليّ تسليم مقالتين للجريدة ليظهرا في الملف الخاص بذكراه الأولى. المقال الأول عن التركة الشعرية لدرويش كما يراها شاعر من جيلي (هكذا طُلب مني)... والمقال الثاني عن قصة الشخصية الحقيقية لـ «ريتا» التي شاع اسمها مع أغنية مرسيل خليفة. إذ يقال في دوائر ضيقة إنّها تانيا رينهارت التي توفيت قبل سنتين في نيويورك، بأزمة قلبية مفاجئة(قبل ذلك بأشهر، اعتدى عليها متطرفون صهاينة خلال تقديمها محاضرة في «مكتبة المقاومة» في باريس)... ولدت تانيا عام 1943 وتربّت مع أمها الشيوعية في حيفا.. وكما تتلمذت على يد تشومسكي في اللغويات، فقد ذهبت مثله بقوة للكتابة السياسيةً. وحتى وفاتها المفاجئة، كان شغلها فضح سياسة إسرائيل والدول الغربية، إضافةً إلى كونها من مناصري المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.. كنت معجباً بتانيا وحزنت حين ماتت. إعجاب لا علاقة له بخرافة «اليسار الإسرائيلي» التي يستعملها بعضهم لتغطية التطبيع مع المشروع الصهيوني.. أجرّب أن أُغنّي: «بين (تانيا) وعيوني بندقية.. والذي يعرف (تانيا) ينحني ويصلّي لإله في العيون العسلية».
تانيا الآن ميتة ومحمود ميت، ونحن نصعد الأدراج التي كانا يهبطان منها في الصباح إلى شارع عبّاس. قطع مخيلتي كلام آخر أثناء صعودنا درج العمارة النظيف. أسماء عربية لسكان البيوت ما زالت على الأبواب. وإن لم يعد «عباس» كما كان، صار مكتظاً وفقد رونقه، كما قال لي أحد الرفاق صباح اليوم التالي.
ينفتح البيت على سطح العمارة الذي ألحقه بها مالك الشقة الجديد. هناك، بدأت السهرة من منتصف الليل حتى ساعات الفجر الأولى. السهر فعل جنوني، والكلام أرجوحة مسننة نتأرجح عليها حتى نسقط صرعى النوم... البحر قبالتنا نائم في البحر، والسماء سهرانة وثلاث سروات متفاوتة الطول تتمايل رؤوسها قرب سطوح العمارات رغم علوّها.
لم أتمكن من النوم، إلا بشكل متقطّع، بسبب حرارة شهر آب في حيفا ورطوبته، مقارنةً بصيف القدس المعتدل. بعد العاشرة صباحاً فقط، راح الهواء يلعب في الغرفة محرّكاً روزنامة رمادية على الحائط، عليها صور محمود درويش، صدف أن كانت قبالة فراشي. أغمض عينيّ محاولاً النوم. أفتحهما فأرى الروزنامة تتحرك، وعليها صورة الشاعر ومقاطع من قصائده. يلحّ عليّ من جديد (مثل تلميذ يؤرّقه واجبه المدرسي) موضوع المقالتين لـ«الأخبار». لست قادراً على الحسم: هل ريتا هي تانيا رينهارت؟ هل نعلنها على ذمة الرواة؟ أتمسّك بالحكاية، رغم أنّنا لا نستطيع حتّى الآن تبنّيها كحقيقة تاريخية.
الأصدقاء استيقظوا باكراً وخرجوا إلى أشغالهم. لم يبقَ في الشقة إلا أنا ورفيقة تنام في الغرفة الأخرى. بعد قليل سنخرج، سننزل إلى المدينة التي ستكون أول ما سيُحرّر من فلسطين، كما صرت أؤمن بعد تموز 2006. سنترك «ريتا» ومحمود نائمين في البيت الرقم 45 في شارع عباس، الذي تغمره شمس الستينيات. أما «تركة محمود الشعرية»، فهذا آخر ما يمكن أن يتحدث عنه وارثٌ متلاف!
نجوان درويش
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد